(1) إذا اتفق الناس أن (القضية الجنوبية) لها أساس حقوقي صحيح؛ فإن مما يلفت النظر أن الحيثيات التي سيقت لتبرير الدعوة إلى الانفصال أو فك الارتباط لم تكن متفقة مع ذلك الأساس الذي حظي بتعاطف شعبي كبير من جميع المناطق. ولأن دعوة الانفصال وفك الارتباط منطق أعوج ومسألة شاذة في التفكير السياسي اليمني (هناك شبه اتفاق أن إعلان الانفصال في مايو 1994 كان الخطوة القاتلة التي أسقطت أصحابه بالضربة القاضية؛ بعد أن كانت الشعارات البراقة التي رفعوها منذ بدء الأزمة السياسية قد كسبت لهم تأييدا وتعاطفا من هنا وهناك) فقد كان لابد أن تأتي تبريراتها وحيثياتها أكثر عوجا منها. وطوال السنوات الخمس الماضية قرأ اليمنيون وسمعوا ما يمكن وصفه بأنه أكبر منظومة من الأكاذيب والمغالطات والتهويشات لتبرير الدعوة إلى الانفصال وفك الارتباط إلى حد إنكار (يمنية الجنوب) أصلا وفصلا!
(2) ومع حلول الذكرى (18) لحرب 1994؛ أعاد بعض الإخوة في الصحافة اليمنية (للأسف جلهم من أبناء المحافظات الشمالية) الترويج لتلك الأكاذيب والمغالطات؛ إظهارا لتعاطفهم مع الجنوب والجنوبيين لكن غير منتبهين أنهم هم أنفسهم في مرمى الاستهداف من قبل تيار الانفصال وفك الارتباط الذي لا يعادي الرئيس السابق/ علي صالح ونظامه من منطلق حقوقي والشعور بالظلم فقط بل في الأساس يعاديه من منطلق (جهوي) فهو عندهم يمثل (الشمال) كله وليس مؤسسة الرئاسة والحكم! وهؤلاء الإخوة لا يدرون أن مصيرهم في حالة نجاح الانفصال لن يكون منصة التكريم واستلام الأوسمة على دعمهم وترويجهم الأعوج والأعمى لتبريرات الانفصال؛ بل في الأغلب سيلقون شيئا مما ولاقته الأقليات وخاصة (اليهود) في ألمانيا النازية باعتبارهم آس البلاء! والذي لا يصدق هذا عليه فقط أن يتذكر حوادث الاعتداء المادي والنفسي الذي يلاقيه اليمنيون من أبناء المحافظات الشمالية (بما فيها تلك المستضعفة التي عانت من التهميش الحقيقي) من قبل مجموعات الجنون الانفصالي التي تستكثر أن ترى (شماليين) في محافظة جنوبية أو شرقية وتعتبره من مظاهر الاحتلال الشمالي ورمزا للهيمنة والاستحواذ، وتمارس ضدهم أنواعا من الاعتداء المادي والنفسي وحتى المقاطعة الاجتماعية والإنسانية لمجرد أنهم (شماليون).. وعليهم كذلك أن يقرأوا نماذج للعداء ضد الشماليين في بعض مواقع الإنترنت التي لم توفر حتى من عاش معظم حياته في الجنوب؛ بل حتى الذين ولدوا هناك؛ ويوصفون بأنهم ناكرو الجميل إن رفضوا منطق الانفصال! هذا العداء المجنون ودعاويه الكاذبة لا علاقة له بفساد نظام صالح ولكنه ضروري ليبلع المغفلون دعوة فك الارتباط والانفصال بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد منذ ميلاد التاريخ (أحد سلاطين الدولة الكثيرة التي أشرنا إليها في الأسبوع الماضي اسمه: يماني!) ويتقبلوا جرعات الكراهية ضد إخوانهم اليمنيين؛ متناسين أن الجنوبيين يعيشون بمئات الآلاف في المحافظات الشمالية.. وفي مستويات راقية وليسوا مجرد بائعين متجولين أو أصحاب بسطات أو عمال بناء! [أتذكر عندما وصلت إلى المكلا ضمن حملة المرشح الرئاسي المهندس فيصل بن شملان – رحمه الله- وبعد أن طاف موكبه في بعض شوارع المدينة توقفنا أمام مسجد لصلاة الظهر.. وفي الشارع المحاذي لاحظت أن أحد الشباب العاملين في محل صغير لبيع الملابس كان يرفع صوته متحديا وهاتفا مؤيدا للمرشح/ علي عبدالله صالح. وعرفت من لهجته أنه ربما يكون من محافظة إب أو وصاب.. فتقدمت إليه ونصحته بكلمات سريعة مشفقا عليه أن يكف عن هتافاته المتحدية لكيلا يورط نفسه فيما لا يحمد عقباه. ولم يستجب لكلامي بل أصر بعناد على الاستمرار. وكان واضحا أنه مواطن بسيط لاقى من العنت النفسي والتحقير ما جعله يشيد بصالح ليس حبا فيه ولكن عنادا ورد فعل لمعاناته ممن يفترض أنهم إخوة له في الإسلام والعروبة والوطن!]. أنموذج الشاب المشار إليه هو عينة موجودة بكثرة في الوطن للذين يبنون مواقفهم السياسية وما هو أخطر منها بناء على حيثيات خاطئة وكردود أفعال. وقد نجد لذلك الشاب البسيط عذرا لكن ما عذر السياسيين والمفكرين والأدباء والإعلاميين الذين في أحسن الأحوال سكتت غالبيتهم عن أكاذيب وأغاليط الخطاب السياسي والإعلامي لدعوة الانفصال ليس قناعة بها ولكن كراهية في عهد صالح ونظامه.. ولكيلا يتهم بأنه عميل للسلطة؟ حتى قيمة وطنية عظيمة مثل (الوحدة) و(الهوية اليمنية) تعرضت للتحقير والشتم وقابلها المشار إليهم – لا نقصد الموالين لسلطة علي صالح- بالصمت، وكثيرون منهم كانوا يخوضون معارك عظمى في المقايل والورق إن مسَّ خليجي عادة تناول القات في اليمن بكلمة! هل من تفسير لذلك غير سوء التوفيق، والجبن النفسي الذي أعماهم عن التفريق بين نبل المبادئ وأخطاء الممارسات؟ كيف تصلح هذه النخبة لتكون أمينة على الجنوب والشمال والشرق والغرب وهي تضم هذه النسبة من الساكتين الخرس عمن يستهدف وحدة وطنهم وهويته؟ سبحانك اللهم: حتى الصهاينة، شذاذ الآفاق، الذين لم يعرفوا دولة ينتمون إليها إلا قبل ستين سنة فقط؛ لن يسكتوا عن يهودي فضلا عن عربي يمس دولتهم وهويتها، وسيحرقون عليه الدنيا إن تفوه بكلمة.. ونحن في اليمن نقرأ ونسمع منذ سنوات لمن ينكر يمنية الجنوب ويحتقر الوحدة ولا تكاد تجد قوميا ولا إسلاميا ولا يساريا يتصدى له – ولو بالموعظة والكلمة الطيبة- ليرده عن غيه، ويبين له ضرورة التفريق بين الحكام والمبادئ!
(3) نتناول الآن مجموعة من الأكاذيب التي يروج لها البعض من قاموس دعوة الانفصال وفك الارتباط. وللتنبيه فقط فأنا هنا لا أفرق بين إصلاحي واشتراكي وناصري وغيرهم؛ فالمبتلون بهذا المرض موجودون في كل التيارات (حتى أنصار صالح ظهر فيهم ياسر يماني أو عكاشة مصري هدد يوما بالانفصال إن استقال زعيمه!). وأذكر قبل سنوات أنني قرأت لمسؤول إصلاحي – للأسف الشديد- في محافظة جنوبية وهو يردد شيئا من ذلك؛ ومنها قوله: إن أبناء الجنوب حرموا من الوظيفة العامة بعد 1994.. ولأنني أعلم يقينا كذب ذلك فقد اتصلت هاتفيا برئيس المكتب التنفيذي للإصلاح وسألته بالله هل كلام زميله هذا صحيح؟ فنفى فورا صحة ذلك! لن أذكر الأسماء ولا الجهات التي انخرطت هذه الأيام في الترويج الساذج لدعاوى الانفصال؛ فالأغلبية تقصد إظهار التعاطف أو إدانة نظام صالح وممارساته؛ لأن المقصود هو التنبيه وليس التشهير.. وعسى أن المقصودين من الذين يفهمون بالإشارة! ففي افتتاحية صحيفة – مثلا- يتحدث كاتبها عن يوم 7/7/1994 فيقول: عندما استيقظ مواطنو المناطق الجنوبية على مشاهد مؤلمة لغرباء يداهمون مساكنهم ويطردونهم منها! هل حدث هذا بالصورة المذكورة؟ المعلوم أن بعض المسؤولين السابقين من تيار الرئيس السابق/ علي ناصر محمد الذين نزحوا إلى الشمال عقب يناير 1989 وصودرت مساكنهم أو نهبت وتفيدت بحسب مصطلحات ما بعد الوحدة؛ هؤلاء هم في الأساس الذين عادوا واستردوا بيوتهم من ناهبيها (الجنوبيين هذه المرة).. ولا شك أنه قد حدثت حالات استيلاء يجب رفضها كما يجب رفض أي ممارسة من نوعها في أي زمان وليس فقط بعد 1994.. لكن الافتتاحية تحدثت عن عمليات مداهمة وطرد لمواطني الجنوب من منازلهم بصورة جماعية كما تدل الكلمات المستخدمة. وهذه كذبة كبيرة. وقد وصلت إلى بيتنا في عدن مساء السبت 9/7.. وقضيت ثلاثة أيام أتجول في أحياء عدن فلم أسمع ولم أشاهد الجنوبيين يعيشون في العراء أو في خيام لاجئين بعد أن داهمهم الغرباء الشماليون وطردوهم من مساكنهم بينما (الغرباء الشماليون) يحتلون منازلهم! هل هناك تدهور سياسي وقيمي أكثر من هذا القول؟ كيف يكتب مثل هذا الكلام في صحيفة يمنية ولا تجد من يرد عليها في الوقت الذي لا تعدم صفحاتها تفنيدا لما هو أقل شأنا من ذلك إن مس مسؤول حزبي أو فنان هزلي؟ ويستمر الحديث في الافتتاحية عن: انتقام شامل ضد الإنسان في الجنوب وتاريخه السياسي وأنماط حياته كافة(!) أنماط حياته كافة؟ وكأن اليمنيين في الجنوب من طينة أخرى.. وتقاليدهم وأعرافهم منزلة من كوكب المريخ، ثم لاحظوا جملة :الانتقام الشامل من تاريخ الجنوب السياسي (يقصدون بالتأكيد صورة البيض المحذوفة في حفل رفع العلم أو تاريخ حكامه قبل الوحدة).. من الذي دفن تاريخ الجنوب قبل 1967 ثم قبل 1969 وصار الجنوب يبدأ من تاريخهم هم؟ هل كان تاريخ الرابطة والتحرير وغيرهم من أحزاب عدن ونقاباتها وصحفها وتاريخها كله قبل الاستقلال مدرجا في مناهج التعليم وتروج له وسائل الإعلام أم أنه دفن بل الصحيح أنه جرم وسفه وحاولوا محوه من الذاكرة الجمعية للجنوبيين؟ من الذي محا اسم عدن وسماها: المحافظة الأولى وسمى حضرموت العظمى: المحافظة الخامسة إلخ؟ ومن الذي ألغى الأسماء التاريخية لأندية عدن الرياضية الأقدم تأسيسا في الجزيرة العربية؟ ومن الذي أطلق أسماء كوادره الحزبية على الشوارع والمدارس وغيب الآخرين، وما علاقة أسماء لينين ووديع حداد والنجمة الحمراء بتاريخ الجنوب؟ وهأنذا أتحدى من يعارض كلامي وأدعوه أن يقدم لنا مقارنة عما نشر عن تاريخ الجنوب والجنوبيين قبل الوحدة وبعدها وخاصة بعد 1994م! وهل عرف تاريخ الجنوب طريقه إلى النشر بصورة ملائمة إلا بعد الوحدة وعلى الأخص بعد 1994.. راجعوا إن شئتم إصدارات جامعة عدن.. وراجعوا إصدارات مكتبة عبادي فستعرفون الانتقام الشامل من الجنوب على أصوله، وستجدون أن الانتقام الشامل الحقيقي كان موجودا قبل الوحدة وليس بعدها! ولماذا نذهب بعيدا، هذه صحيفة (الأيام) توقفت عام 1967 - مثل عشرات الصحف الجنوبية- ونزح أصحابها للعيش والعمل التجاري في صنعاء حتى الوحدة، ولم تعاود الصحيفة الصدور إلا بعد الوحدة حتى صارت في مقدمة الصحف اليمنية. وبعد أن استقرت في عدن حصلت على أرضية لبناء مقر لها وامتلكت مطبعة ضخمة، وصارت تصدر يوميا في ظل الوحدة و(سياسة الانتقام الشامل من الجنوب). لا نقول ذلك تقليلا من أخطاء السلطة ضد صحيفة الأيام وأصحابها في الفترة الأخيرة.. فذلك أمر مرفوض؛ دينا وقانونا وإنسانيا! وبالمناسبة فإنني أطالب بتعويض أسرة آل باشراحيل ليس فقط عن الأضرار الأخيرة بل عن الأضرار التي لحقت بهم منذ 1967.. هذا طبعا إن كان المقصود برد الحقوق وإنصاف الجنوبيين: كل الجنوبيين دون تمييز!
(4) أكذوبة الفتوى التي كفرت الجنوب والجنوبيين واستباحت أرضهم وأعراضهم عادت للظهور من جديد، ونحن منذ 1994 نطالب المروجين لها بإظهارها دون فائدة، تحديناهم في الصحف والمنتديات أن يظهروا الفتوى بتلك المواصفات ونحن على استعداد لإجبار من أصدرها ليس فقط الاعتذار بل ما هو أكثر من الاعتذار.. وأيضا دون فائدة. ويوما ما رفض الأستاذ/ هشام باشراحيل – رحمه الله وغفر له- أن ينشر ردا لي على مقال للأستاذ/ علي هيثم الغريب تناولني فيه بسبب إنكاري لوجود فتوى بتلك المواصفات، وتعبت وأنا أتواصل مع مدير مكتب الأيام في صنعاء، ثم حولوني على الأستاذ/ هشام الذي رفض في الأخير نشر الرد (رغم حقي القانوني)، وكان آخر الكلام بيننا: أنت تنكر الفتوى؟ نعم أنكرها. (أقول ذلك بمرارة لأن الأيام رضيت أن تخالف تقاليد صحفية راسخة تعصبا لرأي أخرق يسيء لحزب كبير وأعضائه: ظلما وعدوانا لم يسيئوا يوما للصحيفة، وكلمني مرة هشام عن مشاعر تقدير للإصلاحيين الرجال كثر الله من أمثالهم الذين هرعوا لمساعدته يوم تعرض لحادث مروري في طريق صنعاء-عدن، ويومها أعلمته بمعلومة أننا جيران قدامى فقد كانت عائلة باشراحيل تسكن في شارع مهدي بالتواهي قبل انتقالها إلى كريتر، ولا يبعد منزلهم القديم المواجه لبيتنا إلا بضعة أمتار؛ لكن حتى ذلك لم يشفع لي فيما بعد). وتحولت الفتوى المزعومة إلى (زار) ولوبي مصالح يترزق البعض منها؛ حتى أنصار المخلوع الآن يتسابقون لترديد أكذوبة الفتوى غيرة كاذبة على الجنوب للإسهام في تقوية دعاوى الانفصال.. حتى الذين يقدسون تاريخ الأئمة بكل ما فيه من فتاوى تكفير للأغلبية السنية باعتبارهم: مشبهة ومجبرة وكفار تأويل، وتكفير الإسماعيلية؛ حتى هؤلاء يمثلون دور الغاضب من الفتوى المزعومة! وكلهم يتجاهل أن أكاذيبهم هذه تعطي دعاة الانفصال أقوى مبرر للانفصال عمن كفروهم واستباحوا أعراضهم! أختم بأن التأكيد على أن اليمن شهدت أخطاء ومآسي وانتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان طوال العهد الجمهوري الوطني، لكن هناك فرق بين أن نسعى لتقويم الاختلالات وإصلاح الأخطاء وبين أن تعمل جماعات المصالح الحزبية والقبلية والمناطقية والطائفية لإعادة إنتاج شرور الماضي بكل تخلفه ومظالمه، وتقسيم اليمن إلى عدد من الدويلات كما كان الأمر قبل مئات السنين وتحديدا قبل وصول العثمانيين الأول؛ حيث كانت اليمن مقسمة إلى دول تبدأ شرقا من حضرموت فإلى الوسط وحتى شمال الشمال حيث الأئمة يتصارعون على النفوذ والإمامة! وأخشى أن أقول إن مشاريع المطامع المذهبية والشخصية اليوم تنحو كذلك دون حياء في بعض الحالات، وبمكر ودهاء في حالات أخرى استغلالا لحالة العدم السياسية التي أصابت تيارات عديدة تعمل وفق مبدأ: علي وعلى أعدائي أو.. إذا مت ظمآن فلا نزل القطر!