في صيف عام ألف وتسعمائة واثنين وسبعين تقريباً كنت متجهاً من القاهرة إلى طنطا، توجهت إلى محطة الحافلات، خيرت بين حافلة مكيفة وأخرى غير مكيفة، اخترت الأولى، أخذت مقعدي، وبدأت الحافلة في التحرك. بدأ الركاب يتذمرون بسبب أن التكييف لا يعمل، همهمات ثم صخب، ثم صاح أحدهم مخاطبا المحصل: إما أن يعمل المكيف وإما أن تردوا لنا فرق السعر بين الحافلة المكيفة والحافلة غير المكيفة، كان منطق الراكب وبالمناسبة كان مجنداً في الجيش واضحاً وصريحاً ومقنعاً، غير أن المحصل صاح: انت عايز تعمل مظاهرة ولا إيه، انت باين عليك شيوعي! سكت الركاب جميعا فجأة، وعاد الراكب المجند إلى مقعده في الصف الأخير من الحافلة، وظل الجميع طوال الطريق يتصبب عرقاً وغضباً. لا أنس أبداً هذه الحادثة، حينها كانت صورة الشيوعي هو الملحد الكافر الزنديق الموالي للقوى الخارجية المتمثلة في الاتحاد السوفياتي، وإذا أرادت السلطات أن تشوه أحداً اتهمته بأنه شيوعي، وذلك يكفي لخسرانه الرأي العام. كلما تذكرت هذه الحادثة، تذكرت ما وقع لأحمد لطفي السيد المفكر والفليسوف المصري الشهير، فقصته الشهيرة تقول إنه عزم على خوض الانتخابات، إلا أن منافسه لجأ إلى حيلة غريبة، فقد أخذ يشيع بين أبناء بلدته كيف أن الديمقراطية تكفر بالإسلام وتستهزئ به، وأنها تبيح المعاصي وتنتهك الحدود، وفي اليوم الذي وصل فيه أحمد لطفي السيد إلى بلدته ليشارك في حملته الانتخابية جاءه أعيان البلدة وقالوا له نريد منك إجابة صريحة، هل تؤمن بالديمقراطية، فأجاب الرجل في عفوية شديدة بالطبع أؤمن بها، فهاج الناس وأضرموا النار في حفله الإنتخابي وعمت الفوضى وبالطبع خسر الإنتخابات! شئ من هذا القبيل يحدث الآن، فلغرض في نفس يعقوب قسم الناس إلى سفطاطين، إسلاميون وليبراليون، أي شخص أو جهة غير إسلامية هي ليبرالية في هذا التصنيف، ثم إن الليبراليين هم هؤلاء الذين لا أخلاق لهم، ولا دين لهم، يرتكبون الكبائر والآثام والذنوب ويعتدون على حرمات الله، وبالتالي أي معارض هو ليبرالي، حتى وإن صلى وصام وحج البيت الحرام، ورغم أن الليبراليين كما الإسلاميين ليسوا كتلة واحدة، إلا أنه تم تصنيفهم هكذا، ولذلك ألصق بالشباب الذين ثاروا عند أعتاب مجلس الشعب ووزارة الدخلية والدفاع والذين سيروا المظاهرات وأقاموا عروض كاذبون، الصقت بهم هذه التهمة، كأسهل طريق لتشويههم أمام الرأي العام، في المقابل فإن غير الإسلاميين لجأوا إلى تخوين الإسلاميين لاختلافهم معهم في رؤيتهم للموقف، وهو الأمر المرفوض قطعا، وهو محل حديث آخر. رحم الله الإمام حسن البنا، كان يرى أنه على الناس ألا تنشغل باللافتات والعناوين والمصطلحات، وأن على المرء أن يدرك المعني والمفهوم المقصود قبل أن يحكم عليها، لليبرالية ألف معنى ومعنى كما لغالبية الأمور في حياتنا. يبدو أنكم غير مقتنعين بهذه المقولة، يبدو والله أعلم أنكم ليبراليين !