بين وطنية عابد المهذري وتآمرية منير الماوري المزعومتين تضيع كثير من الحقائق, فكلاهما جندي قد لبس بزة الدفاع عن الوطن, ومن الصعب التفريق بين وطني وخائن في لعبة الكل فيها وطني والكل فيها خائن من منظور الكل.. لا أتفق مع منير ولا مع عابد, رغم أنهما يمثلان طرفي نقيض في قضية واحدة تتطلب موقفاً وحيدا ليس أكثر. كما أنني غير متناقض في هذه الحالة, ولستُ بصاحب رأي شاذ يقع في منزلة بين المنزلتين (النزاهة والفساد). ولكي يتضح موقفي, سأقول بأن تقليد المناصب الكبيرة في دولة قائمة على إلغاء وظائفها لصالح أطماع النافذين من مسئوليها, يعتبر تهمة بل جريمة في حد ذاته, وبعد ذلك لن يضر مع الكفر معصية كما يقول الفقهاء وكما لم يفهم عابد.. أي أنني لن أتعامل مع وثائق منير كاكتشاف هام ولا مع تشكيك عابد فيها كعمل وطني حسب ما أراد له الأخير أن يكون حين تبرع لوجه الله بتوجيه التهم يمنة ويسرة للمخالفين, وحين جعل من نزاهة نجل الرئيس منفذا واحدا ووحيدا للوطنية.. لن أتعامل معها عل هذا النحو لأني لا أحتاج إلى وثائق فساد تفضح الفاسدين, فليس من الغموض بحيث يحتاج إلى أدلة وإثباتات, وليسوا من النزاهة بحيث يؤثر على موقفي ثبوت البراءة, وحين تأتي أدلة جزئية فلن تفاجئ الأصل العام عندي.. هل كنا بحاجة إلى وثائق فساد قادمة من مسافة تقدر بآلاف الكيلومترات في الوقت الذي تقف فيه أمام أعيننا وعلى مرمى حسرة منا نماذج حية تناطح السحاب, لا نملك حين نمر بجوارها سوى القول (يرزق من يشاء) أو (هذا من فضل ربي) أو (نهبوها أولاد الكلب).. ؟!! لماذا نسي الوطني عابد كل تلك العمائر والفلل, وأحواش الكيلومترات, والسيارات الفارهة, والأرصدة الكبيرة في البنوك, ومزارع الحسينية وحجة وأبين وغيرها, واستثمارات الخارج والداخل, حين قرر فجأة وبدون سابق إنذار أن يكون وطنيًا مخلصا ولو من بوابة الدفاع عن أبناء الذوات رغم كرهه الشديد لهم كما يقول..؟!! أبناء الذوات محصنون جدا من سقطات كان ينتظرها عابد ليشفي غليله وغليل ملايين من المواطنين المغلوب على أمرهم, وجاءت سقطة وثائق الشركة الأمريكية في وقت مناسب, إلا أنها اصطدمت بجدار منيع من المهنية الصحفية ومن الوطنية.. يا عيني. كما اصطدمت بكمية هائلة من الحب والإخلاص ل(أرض أنجبتنا.. لسهول هدهدت خطواتنا المتعثرة.. لجبال ألهمتنا الحرية.. ولأصقاع مترامية البراءة نجلدها صباحاً بالمزايدات.. ومساءً يطعننا الضمير بخناجر الالتفاف على رقبة المبدأ وأخلاقيات الفضيلة).. ببلاهة تأقلمنا مع الفساد وتقنيناته, وصرنا ننظر إليه من خلال الثمار والنتائج فقط, ومن خلالها صرنا نوزع صكوك الوطنية وتهم الخيانة.. الفساد هو القدرة على ممارسة أعمال غير قانونية دون رادع أو خوف عقاب وليس الممارسة نفسها يا عابد.. المشكلة أننا تعودنا على مشاهدة صور الفساد حتى صار أمرُها طبيعيا أو خارج اهتماماتنا, وكأن النهب يتم لممتلكات لا ناقة لنا ولا (جمل) فيها, بل صرنا نرى هذا حقا لمن وصل إلى منصب يمكنه من فعل ذلك, وربما تمنينا ذات جوع أن نصل إلى حيث وصلوا لنفعل مثلما فعلوا.. تبا لأحلام يغتال الجوع نزاهتها.. سيارة أحمد أو سياراته وثيقة فساد يا صديقي, وعمائره وثيقة فساد, واستثماراته وثيقة فساد, وأملاكه وثيقة فساد, ووجوده في أسفل سافلين لأننا أبناء رعية ووجده في أعلى عليين لأنه من أبناء الذوات وثيقة فساد أيضًا.. وخوفي من تبعة ما أكتبه الآن وثيقة فساد.. ما الذي تريده أكثر من هذه الوثائق لتكون غير وطني.. وما هي أنواع الهفوات التي تنتظرها..؟! اصعد إلى سطح العمارة التي يقع مقر صحيفتك في دورها الخامس, ثم اتجه ببصرك صوب عطان أو الحي السياسي, وبعد أن ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير من هول ما يرى, ستدرك كم هي الوطنية (ملعونة والدين) وكم (نحن سُذَّج) في أحايين كثيرة.. لنقل بأن مجيء المؤامرة على متن قضية فساد, وبأن طغيان الصالح السياسي على الصالح العام لدى من انتقد موقفهم الزميل عابد, قد شجَّع على ارتكاب فضيلة الوطنية, فجنَّد نفسه للدفاع عن أحمد الوطن لا عن وطن أحمد, لكن من يثبت لنا أن هناك مؤامرة, بل من يقنعنا أن الولاياتالمتحدة بحاجة إليها لتنفيذ رغبة ما, مادام أن الأمر برمته مبني على حجة من نوع (أسر لي فلان أن فلانا بطل ووطني و..و...و..) وعابد سيد العارفين بهذا..؟ ما وراء الأكمة لم يخش عابد على الوطن من مؤامرة أمريكية, ولم يقف في صف أحمد لأنه وقف في وجه هذه المؤامرة, بل لأن التهمة ستعمل على تقوية أحد أطراف الصراع داخل الأسرة الحاكمة, وليس من صالح صديقنا وقضيته أن تميل كفة القوة والولاء لصالح هذا الطرف.. لستُ أفتري.. كتب أحدهم في صحيفة الوسط (قال بأنه صديق لنجل الرئيس) عن قضية الرشوة واتهم مراكز قوى داخل الأسرة بالترويج لها, وإذا كانت جهات في الداخل تقف وراء الترويج أو تستغل القضية لصالحها فإن البحث عن أعداء لهذه الجهة في الوسط الصحفي والإعلامي من قبل المعنيين بالأمر وارد وبشدة, خصوصا إذا كانت تلك الجهة تمتلك أجندة إعلامية ظاهرة أو خفية يمكن أن تلعب الدور على أكمل وجه بطرق مباشرة أو غيرها.. وهذا يفسر إحجام جريدة تهوى الإثارة كالديار عن تناول مثل هذه القضية, ومن ثم تناولها لاحقا بصورة لم تكن منتظرة على الإطلاق.. وللحديث بقية. خاص بالمصدر أونلاين