خرجنا من المبنى الحكومي في هذا البلد المنكوب وأنا آمل أن يفي الموظف بوعده وينجز المطلوب يوم الثلاثاء، لكن صديقي والمترجم في ذات الوقت توقف فجأة وقال: تعرف يا أخ أسعد تعرف أنا خايف من إيه، سألت من إيه. أجاب بكل ثقة أن يصادف يوم الثلاثاء عطلة نهاية الأسبوع فتكون المصلحة الحكومية مغلقة. اندهشت وقلت له إن عطلة نهاية هذا الأسبوع هي السبت والأحد فكيف يخشى أن يصادف ذلك الثلاثاء، فقال في تأفف واضح، إني أعرف ماذا أقول وواصل حديثه معي بصوت ترتفع نبضاته ويعكس حالة الضيق من غبائي الذي لا يستطيع استيعاب مخاوفه إلى أن توقف مرة أخرى في الشارع وضرب على عادته بيده جبهته وأدرك عبث ما يقول. إنه حامد الذي عمل معي مترجماً لمدة طويلة في كرواتيا والبوسنة والهرسك خلال الحرب هناك، ومثله كمثل المترجمين الآخرين الذين عملوا معي في شتى بقاع الأرض كانت له نوادره التي لا تحصى. شاب فلسطيني كان يدرس الطب في العاصمة الكرواتية «زغرب» وقد تزوج من أهلها لكن شوقه لفلسطين أعاده للزيارة فاعتقلته سلطات الاحتلال ومارست تعذيبها السادي عليه، قال لي وضعوا رأسي تحت صنبور تسقط منه نقطة ماء كل فترة، ضحكت أول الأمر من هذا التصرف لكن سرعان ما شعرت بفداحته بعد حوالي خمسة عشر دقيقة، فكانت قطرة الماء تخترق رأسي كأنها سيخ من حديد بل من نار. بعد الإفراج عنه وعودته إلى عائلته في «زغرب» وجد أن الجامعة حرمته من مقعده الدراسي لتغيبه. كم من مرة تشاجرت معه اختلافا على طريقة العمل، وكل مرة يردني له إعجابي وتقديري بهذا التفاني في العمل والإخلاص غير المحدود، وهل أنسى ذاك اليوم عندما غادرت غرفتي في مبنى التلفزيون بسراييفو متوجهاً إلى طابق علوي، وما هي إلا لحظات وكانت قذائف الصرب تطيح بالمكان، المبنى عتيق ومتين، لكن القصف أصابه من جانب فأحاله طوابقه إلى هياكل، أسرعت نزولاً لأطمئن عليه فوجدته وقد أصيب في رأسه والدم يغطى عينيه، وفي لحظات كان المتطوعون وفرق الإنقاذ تشده لتضعه على النقالة الطبية لإسعافه، وهو يرفض ويمسك بي ويقول سأبقى معك، لا نعرف ماذا سيحدث ولا يجب أن تبقى وحدك دون مترجم هكذا، دفعته ودفعه الآخرون لينقل إلى المستشفى ليعالجوا جرحه بالخياطة دون التخدير المفقود في هذا الزمن.
اندهشت الممرضات لسكونه دون صراخ وهم يفعلون في رأسه الأفاعيل، هكذا قال لي، لكني لم أقل له : طبعا يا عم حامد وهل ستضيع هذه الفرصة في الحديث مع الفتيات وأنت المحب لهن المؤمن بالمساواة بين الجميع البيضاء والسمراء والشقراء، العجوز والشابة، وهل أدل على ذلك من ذاك اليوم الذي ذهبنا فيه إلى توزلا لنصور تقريرا عن الأسرى الصرب في ايدي المسلمين، قلت له بعد أن حصلنا على إذن السلطات والقائمين على أمر المعتقل إنه لا بد من استئذان الأسرى أنفسهم، وفعلنا مع الرجال منهم، فلما قالوا لنا إن هناك أسيرة في زنزانة خاصة بها طلبت منه وليتني لم أفعل أن يستأذنها لنصور معها، وقفت على بعد أنا وفريق التصوير، حرس السجن في انتظار أن ينهي حامد حديثه مع الأسيرة الصربية، لكن حامد لا ينتهي، ونحن لا نفهم ما هو هذا الحديث الذي طال حتى اضطر على مضض أن يوقفه ويبلغنا بالطبع بموافقتها. لو ذكرته الآن بهذا الحدث ما تذكره، وهو أفضل وصف له عظيم النسيان، في يوم مرهق مشمس على جبهات القتال وصلنا إلى منطقة نريد التصوير فيها مع مجموعة من المقاتلين، وكعادة الناس هناك تقدمنا إليهم نصافحهم وكل واحد منا ينطق باسمه وهو يصافح، أسعد طه .. أسعد طه .. أسعد طه، كنت أصافح كل واحد منهم وأقول هكذا، لكني سمعت اسمي يتردد ورائي كأنه صدى صوت، التفت فوجدت حامد يفعل مثلي تماما وبدل أن يقول اسمه نسي فكان يقول اسمي أنا.. لم أعرف أأسقط ضحكاً أم أمسك في رقبته. وإذا كان عذره يومها الإرهاق فماذا كان عذره يوم أن كنا نسكن هذه الشقة في إحدى أحياء سراييفو، نعود مع العمل حوالي الثامنة مساء في أيام الحرب العادية، يدخل كل منا غرفته ينفض عن نفسه غبار اليوم ويستعد لليوم التالي، ولما كانت الكهرباء مقطوعة عن سراييفو المحاصرة، فقد جلست على طاولتي وقد أشعلت شمعة أستضيء بها، وأكتب خطتي لليوم التالي، وأقرأ ما يمكنني قراءته، فيما هو جالس في البهو مستضيئا أيضا بشمعة ليقوم بترجمة بعض الحوارات المنجزة كتابة. طرق الباب ودخل عندي يحدثني في أمر وطال الحديث، وفجأة وصلت الكهرباء التي تأتي كل ثلاثة أيام لساعتين، فقلت له علينا الآن أن نتوقف ونستغل هذه الكهرباء، وعندما تنقطع مرة أخرى نعود للحديث، أكد على كلامي وخرج مسرعا، وواصلت أنا عملي، وقاومت رغبتي الشديدة في التوجه إلى دورة المياه للاستفادة بكل دقيقة من الكهرباء، ولما عجزت عن المقاومة خرجت، ولكني ذهلت للمشهد للحظات، الأستاذ حامد نسى أن الكهرباء تعمل، وظل جالسا في البهو كل هذه الفترة يعمل على ضوء شمعة! لكنه كان دوماً شجاعاً، قلبه من حديد، لا يأبه للقصف ولا لتوابعه، باستثناء يوم أن كنا على جبل «إيجمان» العتيق نحاول الخروج من سراييفو بعد أن أعيانا التعب والإرهاق لحوالي أربعين يوما، حينها قال في ظلمة الليل انتهينا خلاص، فدب الرعب في قلبي من كلماته لكن الله سلم، ومع شجاعته كان رقيق القلب، قال لي إن السيدة العجوز التي نسكن عندها تزعم انها طاهية ممتازة وإنها ترغب في أن تطهو لنا اليوم ما تحبه، وإن علينا أن نرضيها، ولما كانت معلوماتي تنفي ذلك، قلت له إذن نكتفي بشربة طماطم، عندما عدنا مساء تحمل مبتسما غضبي وأنا أصرخ فيه منك لله لا طعم الطماطم ولا حتى لونها. شفاك الله يا حامد، مكالمتك فتحت مخزن الذكريات، اللهم اشفه، لقد كان أميناً علي وعلى مالي وعلى عملي، قولوا آمين.