كلنا جرحى, سنأكل بعضنا مثل الجيف الميتة, هكذا قيل في طوق الحمامة. مشكلتنا، هي هذه الذاكرة العارية التي تجعلنا نغامر بكل آلامنا الماضيات وأحلامنا العريضات حتى ندهسها بأقدام عمياء كي نتمترس وراء النزق والوهم.
قامت ثورات الربيع العربي كي تزيح عن الكاهل أغلال القمع والاستعباد والمصادرة , أي الحضور المفرط للدولة الحديدية , وكنا نحن في اليمن - على النقيض - نفتش في الأساس عن شكل للدولة في ظل غياب متعمد وممنهج.
في حادثة السير لا تحاول أن تتصل بالمرور, و بدلاً عن قضاء يومه بعام هناك الشيخ, لا تفكر بطلب خدمة من مؤسسة حكومية, وأنت لا تحفظ رقم شرطة النجدة ولا الإطفاء, وإذا لم يعمل صنبور الماء في البيت فاتصل بال «وايت»، وعليك أن توفر مولداً احتياطياً للكهرباء, بينما شراء أرضية قد يعرضك للموت من هاو للسطو, أو أن تركب سيارة فهذا يعني أن حياتك قد تنتهي عند حافة حفرة أو مطب لوزارة الأشغال, وحين تود أن تتحاور مع الدولة فيكفي أن تضع مسدسك على رأس سائح, لا حرج عليك إن فكرت في احتلال مرفق حكومي أو محافظة حين تمتلك من أسباب القوة ما يكفي, ربما بعد حين وحين يشتد ساعداك سيمنحونك الاعتذار، وهكذا وهكذا.
ونحن حين نتحدث عن طغيان النظام السابق, فنحن حتماً نعني هذا النوع القاتل من الطغيان, ذلك الذي لا يقيم وزنا للإنسان وحياته واحتياجاته.
الآن, ومن خلال ما نتابع فإن فكرة الثورة الأساس «الدولة» تخفت يوما بعد آخر وبالمقابل تظهر على السطح نتوءات يتحوصل الناس حولها بطريقة مريبة.
تخرج باصات جامعة تعز وباصات محافظة تعز لنقل المشاركين في حفل المؤتمر الشعبي العام إلى صنعاء ويعتبر المشاركون في المؤتمر في مهمة رسمية وربما تدفع المحافظة تكاليف فندق السعيد حيث مقيل المحافظ.
هذه حقائق أم تخرصات, لا يهم, لكن المدهش أن اعتراض الناس هنا لم يكن دفاعا عن خنق فكرة الثورة وعدم تمييز المحافظ بين محافظة تعز وبين مصنع السمن والصابون.
بذات الطريقة وفي تعز ذاتها, طلب المحافظ التخلص من مدير الأمن العاق (السعيدي) لأسباب غير مهنية ولا متعلقة بالأمن كما يبدو, لأنك كنت يومها حين تسأل عن أهم إنجازات المحافظ يجيبك أحدهم منتشيا «لقد ضبط الأمن في تعز» !!!
الأهم في الموضوع هو أن جموع الثائرين حين أعلنوا غضبتهم يومها لم يكن الغضب لفكرة الثورة (الدولة) حين تنتهك لدواع ليست مهنية , بل كان الغضب متعلقا بانتماءات سابقة للسعيدي، وكان السعيدي مديرَ أمن جيد جنى عليه انتماؤه , من محبيه ومبغضيه على السواء.
يدافع كثيرون عن شوقي على الدوام بينما يذمه الآخرون على الدوام , لا أحد مهتم إن كان متفاهما مع ثقافة الدولة ومفهوم المؤسسية أم أنه غير ذلك .
ستقرأ كثيرا عن انتهاكات الحوثي وكم هو نازي ومتوحش , وبذات الطريقة يتحدث الحوثيون عن ميليشيات الإصلاح, لكن أحدا لم يوثق ملفا متكاملا عن أي من هذه الانتهاكات وتقديمها للقضاء أو للمجتمع على الأقل بطريقة علمية وناضجة , حتى المنظمات المهتمة لا تقول رأيها بحيادية وصدق , وبدلا من هذا نذهب في اتجاه الحل الأسهل وهو أن نجرم الجميع ونميع القضايا !!
في الحقيقة ليس أحب إلى المجرمين من مساواتهم بضحاياهم , وحين يمد أحد الخصمين يده ليصافح بينما يمتنع الآخر فإن نصيحة "تصافحا " تبدو شديدة الظلم , والصحيح أن نصرخ جميعا في وجه الممتنع بأن " صافح " , بلغة المفرد كي يتحمل مسئولية الخطأ وحده , تلك صورة العدل وتلك ثقافة الدولة .
تبدو حكومة الوفاق كما لو أنها تمشي على استحياء , أقل من أن تكون حكومة لتسيير الأعمال , ضباب في الأفق وغياب للرؤية والهدف , والإحباط يأكل وقود الثورة فهذه الحكومة حينما تفشل فهي تدق فكرة الثورة في الصميم , ذلك أنها ستحطم ما بنته الثورة في النفوس من استعدادات للتغيير وأمل عريض بدولة العدل و سيادة القانون.
هذا موضوع جوهري وأساسي وحري بالمتابعة والتقييم بعدالة وصدق لكنه لا يشغل بال الكثيرين إلا من زوايا لا علاقة لها بمفهوم الدولة .
في موقع "صحافة نت " عدد القراء الذين يقرأون خبرا عن أن قياديا حوثيا نعت حكومة الوفاق بنعوت مخزية يفوق خبرا مثل أن اليمن تقع في ذيل قائمة الدول في استخدام الأنترنت أكثر من عشرة أضعاف , بينما لن تقرأ خبرا عن أن البروفيسور العالمي اليمني مصطفى العبسي عالم النفس وخبير الطب السلوكي أكد في آخر أبحاثه أن التعبير الصريح عن الغضب أكثر ضررا على الوظائف الهرمونية ووظائف القلب من كبت مشاعر الغضب , هذه أخبار سقيمة لا يأبه لها الناس بينما هي بالأساس فكرة الثورة , أعني أن نفتش في اتجاهات الدولة ومساراتها .
لن يسأل شباب الثورة وزير المياه عن تصوره لكارثة ستحل قريبا من دارنا , هنا في صنعاء حيث الجفاف يفتت الصخور ,تقول الدراسات إن صنعاء على موعد حتمي مع العطش بحلول 2017م , ولو سأل أحد ما فإن الوزير لديه مبررا هاما وكافيا هو أن هيكلة الجيش والأمن لم تتم بعد !!!!
تنحصر اهتماماتنا اليوم في دائرة الحوثي والأصلاح والحراك , هذا أمر مهم وحيوي وضروري أيضا , لكن يجب أن نحاكم الجميع ونعاقب الجميع طبقا لقربه وبعده من فكرة الثورة ومدى ارتباطه معها ومع متطلباتها بعيدا عن النزق الطائفي الذي سيغرق مراكبنا جميعا .
نحن لم نقم بالثورة كي يتمكن حزب الإصلاح من الأمور ولا انتصارا لمظلومية الحسين ولا كي نمهد لفوضى الحراك من أن تقص خارطة الوطن .
لكننا رسمنا أحلامنا بدولة تعيد الاعتبار لوطن كبلته الحماقات وألقت به خارج منظومة التاريخ , و نحن كشباب في صف الثورة علينا أن نعزز فكرة الدولة وأن نتوقف عن التحيزات وأن نسهم في صناعة المستقبل وأن نحرس بنزاهة الثائرين أحلامَنا التي أحرقت خيالاتنا كي نعيش على سطح هذه الأرض بقليل من كرامة في ظلال دولة تطعمنا من جوع ونأمن فيها من خوف.