صباحاً، تفتح الصحيفة الرسمية كي تتابع أخبار الوطن، تحدثك الصحيفة عن المواطنين الذين يحاولون الانتحار أو أولئك الذين يلقون بأنفسهم من السقوف. الخدمات الإخبارية على موبايلك تقتل روحك بقايا الأمل بأخبار على هذه الشاكلة: قطاع قبلي في منطقة "س"، ومئات السيارات عالقة. نقطة عسكرية تتعرض للهجوم. قتلى وجرحى في حرب بين قبيلة "س" وقبيلة "ص". الحديدة تغرق في المجاري.. الخ. مواقع التواصل الاجتماعي تحولت "لمناحة" تشعرك أنك تعيش في غابة يمكن أن يفترسك الوحش في أي لحظة. في المقيل اليومي يجتمع الناس وبعد نقاش طويل يقولون لبعضهم "ما بش دولة"، وحين يذهبون في الصباح إلى وظائفهم ينتهكون هذه الدولة التي يبحثون عنها!! نجلس نحن على الشاشات في المساء، ثم نستمتع بجلد الذات، ننام بعدها ويتألم الوطن. في المحصلة النهائية تكون النتائج كالتالي: يجلس الموظف الحكومي على مكتبه بنفس مكلومة، وماذا عساي أن أفعل؟ أكثر من هذا يمكن أن يحصل حيث سيقول الموظف لنفسه: هذا الوطن يتداعى وعليك أن ترتّب أوراقك الخاصة قبل الانهيار الكبير. عند هذه النقطة يتحول الموظفون إلى خصوم. يفكر المغترب الذي جمع تحويشة العمر وقرر أن يفتح دكاناً صغيرا يحميه من قهر الاغتراب أن الوقت ليس ملائماً.. من المغترب الصغير إلى المستثمر الكبير إلى الدولة المانحة، تفر مليارات الدولارات التي يمكن أن تقفز بالوطن إلى الأعلى. الجميع في انتظار لحظة آمنة لن تأتي دون أن يتشارك الجميع في صنعها. تتوقف السياحة على نحو كامل، الذين يأتون سياحاً إلى اليمن هم مغامرون جداً أو أنهم يعرفون شيئاً عن اليمن قبلاً، كيف يمكن أن تزور بلداً لا تفوح منها غير رواح الخراب والخوف؟ تنهار الروح الوطنية الجمعية المحفزة وتختفي المبادرات الاجتماعية والشبابية وتموت الطاقات، فالشعور العام يصبح معنوناً هكذا "هذا المجتمع المتخلف لا يستحق". بالأمس أرسل لي أحد الشباب: لدينا مشروع "معا نبني اليمن مدرسة مدرسة"، هذا هو الخبر السعيد بالنسبة لي منذ زمن، هناك بالتأكيد مشاريع أخرى مشابهة، لكنها في النهاية لا تتناسب وحجم الجيل المتحفز الذي صنع الثورة وطالب بالمستحيل. هذا يعني أن الروح الوطنية لم تعد كما كانت، وأن أغنية "أمي اليمن" لم تعد كما كانت "تجعل الشعر واقفاً". وهكذا وهكذا... هذه مشكلة عميقة حين يتحول الجميع إلى خصوم للوطن من حيث أرادوا أن يرفعوه. فالأحزاب مشغولة بأخبار الخصوم السياسيين الذين لا يقدسون الوطن لأغراض ليست وطنية، والجماعات تتصارع على قضايا ليس من بينها الوطن، والدولة واقعة في فخ المتهالكين عليها. وحين يموت هذا الشعور بالانتماء للوطن الحاضن تتعاظم الهويات الصغيرة -المناطقية والحزبية والقبلية وغيرها- على حساب هذا الانتماء الجامع، حيث يعود الإنسان إلى مراحله البدائية الأولى لينتسب لغير الوطن. هنا وطن خرج لتوّه من أقسى عملياته الجراحية، يحاول أن يتماسك ويستيقظ، يحاول أن يتعرف على موقعه، ونحن نلهبه بالمطالب والفجائع والخيبات ثم نطلب منه أن يصنع التحول الحلم. كيف سيقف وطن حوّله محبوه إلى خصم يترصدون لاغتياله؟ نحن نكره اليمن، بالرغم من أنه يسكننا مجداً وتراباً وقصيدة وأغنية، ينبض في شراييننا ويحيينا، لكن الوطنية ليست حباً ولا كلاماً. أنا هنا لست محبطاً ولا أحب المحبطين ولا أدافع عن الأداء الهش والضعيف لمرحلة ما بعد الثورة من رجال الدولة، لكني أتحدث عن أمة بكاملها تحارب نفسها عن طريق المناكفة والعناد. وطن النجوم، لا أحد يكتب فيك قصيدة فرح، جعلناك دار عزاء، وتُهنا في سراديبنا نلطم الخدود ونولول عليك ونحن الذين نموت، أما أنت فإن جبالك أقوى من تهزها الريح وستمضي كما يريد التاريخ إلى الأعلى، أما نحن فعن قريب سنغادرك إلى بطنك.