مقدمة: للخروج من حالة الانعزال عن التفاعلات الكوكبية وللحصول على حصة من الاقتصاد العالمي لا تجد بعض البلدان الفقيرة سوى موقعها الجغرافي لتقدم من خلاله خدماتها لبقية العالم وتحصل على مكاسب اقتصادية مختلفة مقابل توظيف موقعها الجيو سياسي واستغلاله في توليد الثروة , وتبرز أهمية الجغرافيا السياسية لليمن أكثر في ظل تزايد التحديات التي تجابهنا حاليا ومستقبلا وتحتم علينا البحث عن مخارج وحلول إبداعية لتجنب ما هو أسوا . وفي هذه الورقة فإن السؤال الأبرز هو ما هي القوة الاقتصادية الناجمة عن الموقع الجيو سياسي لليمن وبصيغة أخرى هل هناك قوة كامنة كبيرة لهذا الموقع أم إن الوضع الحالي يمثل القوة الفعلية الممكنة ولا شك .. إن هناك قوى كامنة للموقع الجغرافي لليمن ولكن إلى أي مدى يمكن أن تساعد الجغرافيا السياسية لليمن في توليد دورة اقتصادية جديدة وفي ظل مرحلة جديدة من إعادة هيكلة القوى في العالم وعند البحث عن الإمكانات والمتاحات لاستخدام النطاق الجغرافي للبلاد في انجاز ترتيبات اقتصادية مثمرة فإنه لا بد من بناء واقع جيو سياسي جديد بالشراكة مع الدول المجاورة ومع باقي الشركاء الدوليين وبما يعزز مصالح الشركاء ويؤمن مصالح الجميع . كما أن قادة ومؤسسو دول الجوار وبنظراتهم الثاقبة وكما يردد الرواة , قد أوصوا خلفائهم بأن خيرهم وشرهم من اليمن ,وبالغريزة الفطرية لدى الإنسان ,وبالحصافة والبديهة تم تقديم خيار درء المفسدة على خيار جلب المصلحة في علاقاتهم معنا . وكذلك فعل الأبعدون .. والسؤال ... لماذا اقتصر خيار الجميع في علاقاتهم معنا على إستراتيجية درء المفسدة وهي حالة استثنائية ومؤقتة في كل العلاقات بين الشعوب والأمم ؟ ولماذا لم ينتقلوا إلي إستراتيجية جلب المصلحة بالرغم من أنها هي العلاقة الطبيعية والمستدامة في العلاقة بين الشعوب والأمم؟ وقبل أن نشرع في بناء هذا الواقع علينا إعادة تقييم أوضاعنا وتحديد إمكاناتنا المتاحة والكامنة لنرسم على ضوء ذلك آفاق علاقاتنا مع الجوار والعالم وفقا لإستراتيجية جلب المصالح لان المفاسد تكمن في التقوقع والانعزال وغياب الرؤية الواضحة والتي يمكن من خلالها أن يضطلع اليمن بالدور المرتقب الدور الذي تستطيع من خلاله اليمن المحافظة على مصالحها و مصالح شركائها وتنميتها وفقا للمعطيات الايجابية التي يمكن أن تتمخض عن استغلال الحقائق الجيو سياسية وبأفضل الطرق . والسؤال الكبير الذي يفرض نفسه هو ...هل عجز اليمانيون عن النهوض بواقعهم مصدره الجهل بإمكانات اليمن أرضا وسكنا وموقعا أم أن حالة الخلاف السائد بين أهل اليمن قد استغرقتهم وأوردتهم موارد الضعف والهوان، وماذا كان الأمر كذلك فأين هي الإرادة الجمعية التي تمثل اليمن بتاريخه العريق ,وموقعة الاستراتيجي الهام ,وغنى تنوعه :المناخي ,الاجتماعي ,الثقافي , السياسي لتعمل على تنمية موارده البشرية وتحقيق الاستغلال الأمثل لموارده الكامنة . إن اليمن ودول الجوار وشركائها الدوليين جميعا بأمس الحاجة إلى الأمن والاستقرار في هذه البقعة من الأرض ,وهم يدركون ذلك جيدا وبحكم تقييمهم لدور اليمن على مر التاريخ وبحكم الواقع الجيو سياسي القائم ولما تمثله المكونات الطبيعية والسكانية لليمن من مصدر للفرص أو إن يكون مصدرا للمخاطر فإن كل ذلك يوجب على الجميع أن يساهم في ربط الموقع بالأمن والفرصة الاقتصادية وما يلزم اليمن بداية هو توفر إدارة وطنية جمعية واثقة ومقتدرة على تكريس الجغرافيا السياسية لخدمة المصالح الاقتصادية وقادرة على التعامل بثقة واقتدار مع الشركاء . إن ما سبق يمثل مجرد ملامح لما يمكن أن تقدمه الجغرافيا السياسية التي تمتلك في جعبتها الكثير من الفرص و إلامكانات والحلول ولكن فقط حينما نضعها في إطار منظومة أوسع من المفردات المتداخلة والمتواصلة وفي ظل عولمة إطارها التحديات والفرص معاً . ويمكن إبراز الأهمية الاقتصادية للجغرافيا السياسية لليمن من خلال الآتي : الأهمية الاقتصادية لموقع اليمن الجغرافي : إن المدخل للاستثمار إلآكد للموقع الاستراتيجي لليمن ينطلق من الاعتراف بحالة القطيعة التاريخية بيننا وبين البحر وأهمية تجاوز هذه الحالة والتوجه نحو مصالحة تاريخية مع البحر من خلال الربط بين اليابسة والبحر بين الموارد والسكان بين الأمن والاقتصاد و بين الجغرافيا والسياسة و بين كل تلك العوامل مجتمعة . 1- الحل البديل لمضيق هرمز : إن دور اليمن من خلال موقعة يتأكد باستمرار من خلال تزايد المخاطر بإغلاق مضيق هرمز أمام ناقلات النفط من دول الخليج إلى أجزاء مختلفة من العالم وذلك بسبب تزايد وتيرة الخلاف بين إيران والدول الكبرى بسبب الموضوع النووي وإستراتيجيتها في المنطقة وهو ما يعزز هذا الدور و يمثل حاجة إستراتيجية لمنتجي النفط ومستهلكيه في الخليج والعالم من خلال إيجاد حل لهذه المخاطر واليمن يمثل الموقع الاستراتيجي الأنسب لتوفير طريق آمن للنفط الخليجي إلى الأسواق العالمية من خلال مد أنابيب عبر الأراضي اليمنية إلى الموانئ اليمنية في البحر العربي والبحر الأحمر وان مشروع كهذا يحقق عوائد تنموية نحن بأمس الحاجة لها ويستحق إن نقاضيه بمصالح لا تقل أهميه لنا كما هو بالنسبة لهم . إن كل ما تحتاجه هذه الأطراف مجتمعة أو بمبادرة احدها هو فقط الإصرار على تبني المشروع باعتباره أساس لمزيد من المشاريع والمصالح المتبادلة . إن فكرة ربط اليابسة بالبحر لا تقتصر على مثل هذا المشروع إنما هناك أيضا مشاريع عملاقة أخرى يمكن أن تنفذ ومنها فكرة مشروع ربط إفريقيا باليمن عبر جسر يصل بين جبوتي واليمن وعلى طرف الجسر تقام مدينة النور في الساحل اليمني وهذا المشروع قادر على اجتذاب رؤوس الأموال والأيدي العاملة وقادر على انجاز أشياء أخرى مهمة لليمن وجيرانه . 2- تأهيل عدن : إن محاذاة السواحل اليمنية للخطوط الملاحية الدولية في البحر العربي والبحر الأحمر تؤهل مثلث عدن الكبرى يمكن تحديده مبدئيا بذلك المثلث الممتد من شقرة إلى المخا مرورا بمنطقة العند و الذي يمثل واجهة لليمن التاريخية والمستقبلية نحو العالم والمنفذ الأكثر تناسبا لدول الخليج العربي نحو إفريقيا ليكون موقعا استراتيجيا مناسبا ومنافسا لاستضافة المخازن التجارية ومجمعات الصناعات التجميعية للشركات الخليجية والعالمية لإقامة المناطق الحرة لأغراض إعادة التصدير إلى الأسواق الإفريقية ناهيك عن أهمية ميناء عدن في تقديم التموينات للبواخر والسفن وعمل الإصلاحات التي تحتاجها وتقديم غيرها من الخدمات الملاحية التي تعد مينا عدن الأنسب والأفضل من غيرها في المنطقة الواقعة على البحر العربي والمحيط الهندي . 3- الاستثمار السياحي: تتمتع اليمن بموارد سياحية متعددة وبتنوع المنتج السياحي حيث يمكن للاستثمارات الخليجية والعالمية أن تلعب دورا كبيرا في تحويل اليمن إلى مقصد للسياحة العالمية حيث التاريخ اليمني العريق متجسدا بالمواقع والآثار التاريخية للعديد من الحضارات الإنسانية كما تتوفر الشواطئ و الجزر اليمنية وبما تمثله من منتجعات سياحية وصحية يحتاجها السياح من مختلف بلدان العالم وكذلك المناطق الجبلية والمرتفعات وجمال الطبيعة وتعدد المناخ والفنون الشعبية والملبس والمأكل واللهجات إلى جانب توفر مقومات السياحة المحافظة والتي تمثل طلبا حقيقيا للأسر الخليجية خاصة في أشهر الصيف الذي يتزامن مع الموسم الزراعي في اليمن حيث تكسو الخضرة معظم ربوع اليمن ... إن هذه الموارد تمثل بالنسبة لليمن مصدرا لمصالح مستدامة وكل ما نحتاجه هو إعادة تأهيلها والمحافظة عليها وجعلها متاحة وآمنه للراغبين بزيارتها من كل البقاع كسياحة ثقافية متزايدة . 4-الشراكة التجارية والاستثمارية إن الطريق إلى القضاء على مشكلات اليمن المختلفة وإحداث التنمية المطلوبة لن يتم من خلال الجهود الذاتية وحدها وإنما من خلال العلاقات الاقتصادية المتينة مع العالم الخارجي وبالذات مع دول الإقليم المجاور (دول مجلس التعاون الخليجي ) لما تتمتع به هذه الدول من موارد ماليه كبيرة وحاجتها للتكامل مع الجوار الجغرافي لأسباب توسيع وزيادة النشاط التجاري والاستثماري ولسد نقص العمالة لديها . وان استغلال الموقع الجيو سياسي لليمن بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي سوف يؤدي إلى زيادة قدرة الأطراف مجتمعة في مواجهة التحديات والمخاطر التي توجهها بجانب تعزيز الموارد الاقتصادية لها وبما ينعكس ايجابيا على الأوضاع الأمنية للمنطقة ويؤدي إلى تأسيس واقع جيو سياسي متين يزيد من منعة واقتدار المنطقة تجاه القوى التي تستهدفها ,و إن الأوضاع غير المستقرة في إطار المنطقة وتزايد المخاوف من القوى الخارجية الأخرى الإقليمية والدولية يلزم اليمن ودول الجوار بإحداث نقلة في فهمها و رؤيتها للأوضاع الراهنة والمستقبلية واستغلال كل ما من شأنه أن يزيد من قدرتها على التطور وقدرتها على مواجهة التحديات المتزايدة . إن الشراكة مع دول الخليج والتي تركز على الجوار الجغرافي والفرص الاقتصادية مدعومة بالحقائق التاريخية والمصيرية ,تجعل من اليمن سوقا لجزء مهم من المنتجات الخليجية وبقدر ما تتحسن الأوضاع الاقتصادية لليمن بقدر ما تتاح الفرصة للإنتاج الكبير نظرا لتوفر السوق كما تتوفر لدى اليمن إمكانات وموارد كثيرة غير مستغلة وهو ما ينعكس ايجابيا على اليمن من خلال تسريع عملية النمو الاقتصادي ومواجهة التحديات الأخرى وفي المقابل فإن سوق العمل الخليجي يمثل سوق عمل كبيرة ولعقود طويلة و اليمن تمتلك فائضا كبيرا من الأيدي العاملة والتي يمكن أن تحل بصورة تدريجية محل جزء من العمالة الأسيوية وبالتالي تحويل جزء من الأموال التي كانت تذهب إلى الدول الأسيوية مقابل أجور العمال والتي تزيد عن 30 مليار دولار سنويا إلى اليمن لتحسين المستوى المعيشي للسكان وتدوير هذه الأموال في الاقتصاد الخليجي مجددا من خلال تمويل الواردات اليمنية من دول المجلس وهو ما يعزز مكاسب الاقتصادات الخليجية من مزايا الشراكة مع الاقتصاد اليمني .
الأيدي العاملة المهاجرة :(القوة الناعمة) أن مئات الآلاف من اليمنيين العاملين في السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي والذين أمضى بعضهم معظم أعمارهم هناك بل وولدوا وعاشوا هناك ولا يزالون ولما لهم من سمعة طيبة إن كل هؤلاء يمثلون قوى ناعمة في إطار الإمكانات المتاحة لليمن والتي عليها أن توظف هذه القوى الناعمة بخبرتها وعلاقاتها ومصالحها المتشابكة مع أو المتولدة من مصالح خليجية وذلك لتمتين وتوسيع المصالح الإستراتيجية لليمن وإن دولا عديدة قد سبقتنا بزمن طويل واستثمرت التواجد الاقتصادي للمجموعات المهاجرة منها والعاملة إلى البلدان الأخرى في التوسيع في مصالحها الاقتصادية في البلدان المستضيفة لأبنائها المهاجرين والمقيمين بصورة دائمة وشبه دائمة لما لها من شبكة علاقات ومصالح وبما حققوا من انجازات وبذلوا من جهود واستعدادهم لتسخير ذلك في خدمة بلدانهم والأمثلة كثيرة ولعل أبرزها تواجد الصينيين في كثير من دول شرق أسيا وهو ما سهل للصين في كثير من دول شرق أسيا نسج علاقات اقتصادية متينة مع تلك البلدان وترسيخها باستمرار رغم كل الظروف والتقلبات السياسية والاقتصادية وهذا هو المغزى الكبير لاستثمار هذه القوة الناعمة في إطار تثمير المصالح وهذا بعدا آخر لهذه الميزة وركيزة أخرى لتوظيف الموقع الجيو سياسي لليمن في إطاره الإقليمي . إن دور هذه القوة الناعمة يمكن إن يتعزز أكثر بسبب حاجة مجلس التعاون الخليجي لعمالة لا تترتب عليها مخاطر ثقافية واجتماعية يمتد ضررها إلى الهوية القومية والدينية لشعوبه والتي أصبحت تستشرف مخاطر العمالة الأسيوية في بلدانها بعد أن أصبحت هذه العمالة تشكل نسبه هامه من السكان لهذه الدول وان أي استزادة من ألعماله الأسيوية هي استزاده من تلك المخاطر التي ينبغي التقليل منها باستبدال جزء من تلك العمالة بعمالة إقليمية لها نفس الهوية الدينية والقومية ومن نافلة القول أن اليمنيين هو أكثر الناس تجانسا وتقاربا مع أهلهم في الخليج العربي . الموقع والأمن والاقتصاد: إن طول الحدود البحرية لليمن ومخاطر تهريب الأسلحة والمخدرات إلى الدول المجاورة خاصة مع وجود صراعات عسكرية في دول القرن الإفريقي المطلة على الجانب الأخر من البحر الأحمر وخليج عدن وخاصة الصومال واستمرار الصراعات والحروب الداخلية فيها واستمرار الصراعات في القرن الإفريقي وما يؤدي إلى استمرار تدفق اللاجئين إلى اليمن وما ينشأ عن ذلك من تبعات تمتد إلى دول الجوار , إن كل ذلك يستدعي بناء واقع جيو سياسي متين يجمع اليمن مع دول مجلس التعاون الخليجي يربط الأرض بالأمن والاقتصاد ويعزز الدور الحيوي لمجمل دول الإقليم . خاتمه إن استثمار الجغرافيا في علاقات القوة أمر لا بد منه وما يهمنا هو أن يكون نطاقنا الجغرافي بعيدا عن ميدان التنافس والتنازع والصراع بين القوى الخارجية وان يكون بالمقابل مساحة توفر لنا عددا من الروابط الاقتصادية بالقوى الأخرى ومن خلال تطوير علاقاتنا الخارجية باعتبارها نقطة الانطلاق لتثمير الجغرافيا السياسية المرتكزة على مبادئ جيو سياسية محلية تتسق مع المنظومة الإقليمية والعالمية . إنها ليست فقط حقائق الأخوة والجوار والتاريخ وإنما حقائق الجغرافيا والأمن والاقتصاد جميعها تحتم على دول مجلس التعاون الخليجي وعلى اليمن بناء واقع جيو سياسي جديد وقوي يجمعها وتتعزز من خلاله مصالحها ومصالح المنطقة والعالم وان على اليمن تقييم أوضاعه ومنها وضعه الجغرافي من زاويةالأهمية الإستراتيجية في إطار الجغرافيا السياسة للعالم وباعتباره عمقا استراتيجيا لجيرانه ومن ثم صياغة مصالحه الاقتصادية وفقا لرؤية جديدة تعكس الحقائق الجيو سياسية للقرن الواحد والعشرون .
نص الورقة التي قدمها علي سيف حسن؛ رئيس منتدى التنمية السياسية في مؤتمر نظمه المنتدى بصنعاء بالاشتراك مع مركز المشروعات الدولية التابع للغرفة التجارية الأميركية بعنوان "المائدة المستديرة لتحديد الأولويات الاقتصادية".