عندما تكون جاهزيتنا للتبرير أكبر من جاهزيتنا للتغيير، وحين يسهل دائماً تبرير العجز وتسويغ الفشل يغدو التجاوز مهمة بالغة الصعوبة. لا تعوزنا الأعذار أبداً لما يتعذّر تحقيقه. يسعفنا الواقع العليل ومواريث التخلف بأكثر مما تسعف الإرادة. لا يعدم العاجز الفوائد فيما يكافحه كلما وَهَن العزم وتعثرت الخطى وساء التقدير وخاب التدبير. وضعنا الفأس على رأس الإرث والتمسنا في ثقل الحمولة ما يخفف عنّا إثم القعود الضعيف. المقعد يحتاج قوى قاهرة تبرر عجزه عن الانطلاق واستسلامه للانسحاق. يحتاج إلى ما يبرر تفوق كل شيء عليه لا ما يقويه ويخلّصه من تسلط الضعف على روحه وتفكيره ومواقفه وكل حياته.
قصور الواقع وتحدياته ومصاعبه يجب أن تكون ركائز للبناء لا مبررات للانهدام والتحطّم.
يجب أن تكون محرضاً على التجاوز لا باعثاً على الرضوخ لحكم الخراب.
تقلقنا هذه اللغة التي لا تسائل الأداء، ولا تقلّب طرائق التفكير وأساليب العمل بعينٍ متفحّصة تقف على القصور والاختلالات الذاتية والموضوعية، قبل أن تذهب بعيداً نحو القاع بحثاً عن ثقّالات وسلاسل ترمي عليها تراجعاتها وارتكاساتها وإعاقتها الدائمة.
كل فشل وانتكاس، كل انحسار وانحشار، كل سقطةٍ وورطةٍ، كل هزالٍ وضمورٍ، وخورٍ وتخاذلٍ، وتعثرٍ وارتباكٍ لأسباب خارجة عن إرادتنا. نحن عالقون ولا علاقة لنا البتة. نحن ضحايا لا أكثر نسير وفق الخطة ومجبرين ومكرهين نتوقف أمام مطبات وعوائق كثيرة وقطّاع طرق مدجّجين وضياحٍ وأشباح وواقع في مداه «ما طار طيرٌ وارتفع إلا كما طار وقع».
هكذا نقف دائماً خارج المساءلة بعيداً عن المسؤولية، مانحين أنفسنا شرف الغائب إزاء الحضور المهيمن شبه الكلي لقوى القهر والفساد والاستبداد، التي تضمن امتداد سلطانها الطاغي من خلال هذه البيئة المسكونة بالضعف التى تعيد إنتاج قاهريها وتغذية شروط انهزامها، واصطناع المردة والشياطين، ومنحهم قدرات خارقه في السيطرة على مجريات الأحداث واللعب بالجميع وبأكثر مما هم عليه حقيقة وواقعاً.
هذه الإدانة الموزّعة بسخاء على جهات بعينها الاتهامات التى تقذف يمنةً ويسرة ولا تطاول رأس الجبن والأقفية العريضة، ولو على سبيل الخطأ قد ترتد حكماً قاطعاً بالذنب على الذات، وربما إقراراً ببراءة من يتم تقصد تحميله وزر كل شيء.
الخطاب المسرف في اتهام كل ما سوى الذات المعنية بالفعل لا يبرر سوى عدم الأهلية ولا يقوي سوى الأشباح.
لا أحد يقلّل من إمكانيات الشرور المتربصة، لكن حين يقلّلنا تكثيرها في أعين الزمان والإنسان والمكان، شأناً وقدرة، على فعل ما هو غير الشكوى والندب والصراخ وأداء دور المخدوع والمظلوم، وحين تصير خطاباتنا معرضاً للكوابيس يفترشها الرعب ليل نهار حين تكون استحضاراً يومياً للمعيقات والمفزعات ونفياً للدور، فيجب أن نقلق وأن نخاف، يجب أن نعترف «أن لا أسوأ من المكابرة في مقام الوضوح، يجب أن نصارح الجميع أننا كنا حسنِي النية وسيئِي التقدير» بحسب العزيز نبيل المحمدي.
نخشى أن لا وطن يلوح في هذا الطريق وأن لا شيء غير السؤال المرير: لماذا يطولُ طريقي إليك وأقطعُ عمري بكاءً عليك؟