أعترف أنني أغالب رغبة ملحة في أن أتشفى بوسائل إعلام بقايا النظام اليمني السابق وقناة «العربية» بعد موافقة 64 بالمائة من الناخبين المصريين على مشروع الدستور الجديد، وهزيمة مخطط رفضه الذي ظهر بزخم إقليمي ومحلي تجاوز كونه خلافا سياسيا وفكريا إلى عمل محموم وحملات إعلامية داخلية وخارجية لإسقاط أول رئيس مصري منتخب، ونشر الفوضى وإيقاف عملية الانتقال إلى وضع سياسي مستقر محكوم بمؤسسات تشريعية منتخبة، وطي الصفحة الأخيرة من نظام مبارك! هذه الرغبة لا علاقة لها بالضيق من مواقف المشار إليهم، ولكن لأن حالة الجنون الإعلامي الذي أظهروا في الإساءة للإسلاميين المصريين وضد الدستور الجديد؛ وخاصة قناة العربية؛ كان لا يتسق مع كونهم غير مصريين، ولا يضيرهم إقراره من قريب أو بعيد؛ إلا إذا كانوا يريدوننا أن نفهم أن بقايا نظام صالح وقناة العربية غاضبون فعلا لما يشيعه المعارضون المصريون من أن الدستور لا يحقق أهداف الثورة المصرية ضد نظام مبارك! أو أنهم حزينون لأن الدستور- كما اتهم- خطر على الحريات وحقوق الإنسان، ولا يحقق العدالة الاجتماعية!
ما علينا.. تكفي مرارة الهزيمة التي يمكن ملاحظتها في كيفية تعاملهم مع النتائج، وحالة الذهول التي أصابت مذيعيهم!
ما سبق قوله يدفعنا للتأكيد على أن رغبة التشفي لا تشمل قطعا قوى المعارضة المصرية التي رفضت الدستور؛ رغم المستوى الهابط الذي أدارت به جزءا كبيرا من حملتها ضد الإسلاميين، وسقوط قوى ثورية في ممارسة أسلوب غير أخلاقي سياسيا ووطنيا في عدائها للإسلاميين إلى درجة التحالف مع رجال المخلوع حسني مبارك، وأبواقه الإعلامية، ونسيان سنوات إجرامهم في حق مصر والمصريين. والسبب بسيط: وهو أن معارضة الدستور حق أصيل لهم كمصريين، وحتى ولو لم يكن لديهم أسباب وجيهة ومقنعة!
××××× يتمتع المعارضون للإسلاميين المصريين بقدرات إعلامية خرافية، ويمتلك عدد من كبار رجال الأعمال الموالين لعهد مبارك معظم القنوات الفضائية والصحف اليومية الخاصة التي ينفقون عليها ببذخ كبير، وتقدم أداء مشابها ومتطابقا لأداء وسائل إعلام بقايا النظام اليمني السابق: تلفيقا، وكذبا، وقلة حياء، وفجورا في ممارسة الخصومة (لا نتحدث هنا عن الحدة). ولعل القراء الذين يتابعون القنوات المصرية سوف يكتشفون ذلك دون جهد يذكر. ولكيلا ينبري أحدهم للقول إنه يتابع ولا يجد شيئا مما نقول؛ نقدم هنا بعض الأمثلة على الأكاذيب التي رُوّج لها على الهواء مباشرة؛ فمنها كذبة أصر فيها مراسل قناة «سي بي سي»؛ أشهر القنوات الفلولية؛ على أن الناخبين في إحدى اللجان ضبطوا «منجدا» يعرفونه انتحل صفة قاضٍ وقام بإدارة لجنة انتخابية، وأكد أن مصادر عديدة أكدت هذه المعلومة.. ثم اتضح كذبها وتهافت تأليفها. الكذبة الثانية تم فضحها على الهواء مباشرة، وصاحبها مراسل قناة «النهار» في «المنيا» الذي اتهم المستشار أشرف محمد علي رئيس محكمة المنيا الابتدائية بأنه قام بالتصويت لأحد المواطنين، وبادر المستشار بعد سماعه بالاتهام بالاتصال مباشرة بمذيع البرنامج، وفضح أكذوبة المراسل لأنه مسؤول عن كل لجان الانتخابات وليس رئيسا للجنة معينة، ومقرُّه في غرفة عمليات المحافظة. واضطر المذيع إلى الاعتذار للمستشار بعد أن هدده بالقضاء إن لم يعتذر هو ومراسله. وفي الموقع الإلكتروني لصحيفة «اليوم السابع» خبر عما زعموه ممارسات تزوير بالصوت والصورة.. وبالتدقيق في الصور لا يبدو فيها شيء محدد، تماما كما يفعل المؤتمريون عندما ينشرون أخبار فساد مزعومة وبجوارها صور وثائق مفترضة في غاية الصغر لايمكن قراءتها ومعرفة ما فيها!
والواضح أن أداء المعارضة المصرية اتسم بالعشوائية؛ نتيجة التحالف غير النزيه مع رجال مبارك الذين قادوا حملات التزييف، وروجوا مثلا لإشاعات تتفق مع ما هو معروف عن سياسات مبارك المخلوع المعادية للفلسطينيين مثل القول إن الرئيس مرسي قرر بيع سيناء لحركة حماس الفلسطينية (أثناء الثورة اتهمت حماس بأنها وراء قتل المتظاهرين). وبصورة عامة بدت المعارضة مرتبكة بين مقاطعة الاستفتاء والحوار وبين المشاركة فيهما، وبين الاعتراف بالنتيجة أو رفضها! ووصل الارتباك إلى افتعال قواعد غريبة مثل قولهم إن الموافقة على الدستور لا بد أن تكون بالثلثين، فلمّا ظهرت نسبة الموافقين في المرحلة الأولى أقل من الستين صرخوا بأن ذلك لا يعطي الاستفتاء مشروعية ولا بد من أغلبية كبيرة كما يحدث في العالم، وعندما تأكد أن دولا عديدة أقرت دساتيرها بنسب أقل من النسبة المصرية قالوا: تلك دول عريقة ولا يتسق حالها مع الحالة المصرية!
في نتائج الاستفتاء المصري دروس مهمة؛ فالإعلام مهما كان صاخبا إلا أن الأكاذيب تفشله، ولا يستطيع أحد أن يخدع كل الناس. فقراء مصر وفلاحوها في معظم المحافظات الفقيرة صوّتوا بإيجابية لمصلحة الدستور، ووجّهوا ضربة للمعارضة التي تظاهرت بالغيرة على الفقراء والفلاحين بدعوى أن الدستور لم ينصفهم! والأغلبية في سيناء صوتت لصالح الدستور رغم الأكاذيب التي روجت عن بيع سيناء للفلسطينيين!
الدرس الموجع للمعارضة هو في تأييد 64 بالمائة من المصريين لموقف الإسلاميين؛ مما يعني ارتفاع نسبة دعم الشعب لهم مقارنة بالنسبة التي حصلوا عليها في الانتخابات الرئاسية (52 بالمائة) بعد أن ظل خصومهم يصرون أنهم خسروا شعبيتهم، وفقدوا تعاطف الشارع معهم وثقته بهم!
(2) لن تنتهي أزمة الخلاف حول الدستور في مصر بحصوله على موافقة أغلبية المشاركين في الاستفتاء. فالخلافات الحادة والتعبير الجنوني عن المواقف الرافضة وردود الأفعال عليها ورفض النتيجة يؤكد أن الخلاف لم يكن على أمور بسيطة أو على مواد لم تكن معدّة كما يجب، أو أن الدستور غير نافع بالمرة.. ما حدث اتخذ شكل الخلاف الوجودي -إن صح التعبير- ويمكن ملاحظة ذلك في أمرين، الأول: عنف المواجهة الرافضة والإصرار على تفجير الموقف عسكريا، ولولا التنبّه لذلك لكان يمكن أن تقع مصر في حرب أهلية على الطريقة الجزائرية، تمهيدا لعودة نوع من الحكم العسكري سيجد تأييدا شعبيا فوريا للخلاص من الفوضى وسفك الدماء.
الأمر الآخر يتمثل في ذلك التحالف غير المتجانس سياسيا بين قوى كانت فاعلة في معارضة نظام مبارك وفي أحداث الثورة عليه وبين قوى مخلصة له ولا تعترف أصلا بصوابية الثورة عليه.. وفكريا بين تيارات فكرية متناقضة كالشيوعيين والاشتراكيين والرأسماليين من رجال الأعمال أنصار النظام السابق والقوميين والموالين للغرب الكارهين لكل ما هو عربي والمعادين للقضية الفلسطينية والمقاومة خاصة، والمسيحيين والعلمانيين وبعض جماعات الطرق الصوفية!
قطعا ليست الغرابة في مبدأ التحالف فقط فهو أمر مفهوم؛ لكن عندما يكون تحالفا في أمور وطنية عامة أو تمثل قاسما وطنيا مشتركا ولو كثرت الأطراف المتحالفة.. لكن في الحالة المصرية هذه كانت الغرابة في إصرار كل قوى هذا التحالف على اختلاف توجهاتها وتناقضاتها الفكرية والسياسية على رفض الدستور جُملة وتفصيلا، والإصرار على إسقاطه مهما كان الثمن!
وقد يُقال: وهذا أيضا أمر مفهوم.. لكننا نرى أن الغرابة الباعثة على الريبة تكمن هنا.. فمن غير المعقول أن ترفض
بعض القوى الدستور لأنه لا يحقق أهداف الثورة المصرية؛ وفي مقدمتها محاكمة رموز النظام السابق والاقتصاص للشهداء؛ في الوقت الذي تصطف فيه جنبا إلى جنب، وفي ميدان التحرير الشهير بالذات الذي أشعل شرارة ثورة 25 يناير، مع أنصار المخلوع مبارك من السياسيين والإعلاميين وحتى البلاطجة الذين ظهروا بأسلحتهم دون حياء!
الغرابة نفسها تمكن ملاحظتها في تحالف الرافضين للدستور بحجة أنه لا يحقق العدالة الاجتماعية (وهو مطلب يساري -قومي) مع قوى الفساد المباركي ورجال الأعمال الذين صنعهم مبارك على عينه، وأقام بهم -كما قالوا- دولة الظلم الاجتماعي، ونهب القطاع العام، وإلغاء مكاسب المرحلة الاشتراكية الناصرية، وتسليم مصر للرأسماليين الطفيليين!
كذلك يمكن ملاحظتها أيضا في التحالف بين دُعاة العروبة والفرعونية وأمثال عمرو موسى الذي استهجن النص على تعريب العلوم والتعليم والمعارف! وكذلك بين الناقمين على الرجعية والوهابية وبين الزعماء المدعومين صراحة من الدِّول المقصودة بهذه الأوصاف!
ما هو أسوأ من كل ذلك؛ والأكثر إيلاما؛ هو حالة العداء العنيف الذي ظهر بين الإسلاميين والقوميين، وخاصة بين الإخوان والناصريين؛ بعد عقود من المؤتمرات، والحديث عن الحوار القومي - الإسلامي، والاتفاق على المشروع الحضاري الإسلامي – العربي. فقد بدا وكأن كل ذلك كان مجرد كلام مؤتمرات. فعندما حان وقت الجد بدا الطرفان غير متفاهمين حول قضايا أساسية. ووجد طرف أن أعداء المشروع الإسلامي العربي أقرب له من الإسلاميين، مع أنه كان يمكن أن يمارس معارضته من مربع آخر منفرد أو مع آخرين رفضوا الدستور وصوّتوا ضده، لكنهم لم يضعوا أيديهم في أيدي من كانوا يوصفون بالأعداء التاريخيين!
رغم افتتان كثيرين بعبارة «إن التاريخ لا يعيد نفسه»؛ إلا أن المعارضة المصرية للدستور والمنضوية في إطار «جبهة الإنقاذ الوطني»، أرادت تكرار سيناريو الثورة ضد مبارك، وظنت أنها قادرة على تفجير ثورة جديدة، بل لم تغيِّر أساليبها وشعاراتها؛ متجاهلة أن الرئيس الحالي لم يرتكب جرائم ضد الشعب، ولم يأتِ بانقلاب عسكري، ولا بتزوير الانتخابات، ولا بحكم الغلبة والأمر الواقع؛ بل يمكن القول إنه جاء رغم أنف جهات عديدة داخلية وخارجية عملت بمكر على إعادة انتاج نظام مبارك مستغلة سقوط قوى الثورة في خلافاتها وتنافساتها في الانتخابات الرئاسية، ورفضها الاتفاق على مرشح مستقل باسم الثورة (لم يعرف لدُعاة التوافق والشراكة الوطنية يومها إصرار على ذلك كما هو معلن اليوم!!).
ما أخشاه هو أن تصل حدّة العناد إلى وصول أعداء الإسلاميين من قوى الثورة إلى مرحلة يرون فيها ضرورة الاعتذار للمخلوع حسني مبارك، والتبرؤ من الثورة ضده؛ متهمين الإسلاميين أنهم هم السبب في كل ما حدث، رافعين شعار: