ما تزال جعبة الربيع العربي حبلى بالمزيد من المفاجآت التي قد تشكل سلواناً لمن هو محبط من النتائج الأولى، التي تمخّضت عن الثورة الشبابية الشعبية في أكثر من قطر عربي، حيث إن إسقاط الأنظمة السابقة لم يفض بعد إلى تشكل النظام الجديد الذي تحلم به الجماهير الثائرة. وبالطبع، فثمة من هو منزعج إزاء المؤشرات التي تدل على ربيع غدا (إسلامياً) بحكم القاعدة العريضة للإخوان المسلمين التي أهلتهم للوصول إلى السلطة، عبر الإرادة الحُرة لجمهور الناخبين.
لست هنا بصدد مناقشة إن كان لهذه المخاوف ما يبررها أم لا، بقدر ما أود أن أضع القارئ أمام مؤشرات أخرى تبشِّر بتنوع في المشهد السياسي العربي قد يتصدّره الإسلاميون، لكن مع وجود معارضة فاعلة و مقتدرة، على عكس ما عشناه في ظل الأنظمة الاستبدادية غير المأسوف عليها، حيث لا صوت يعلو فوق صوت (الزعيم)!
لم يكن الربيع العربي إسلامياً أو قومياً، يمينياً أو يسارياً، بل كان شعبياً جارفاً ينشد التغيير للجميع، تحت سقف الدولة المدنية والمواطنة المتساوية، تكفل لكل مواطن (بغضّ النظر عن دينه أو جنسه أو مذهبه) الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، وهو ما يمكن تسميته بالبُعد الإنساني للربيع العربي.
غير أن تداخلات الفترة الانتقالية قد طبعت الربيع بالصبغة الإسلامية، وهو ما جعل من في السلطة ومن لا زال في المعارضة، يتناسون الأهداف الإنسانية للثورة الشعبية، وينشغلون بتفاصيل كُنا نظنها هامشية أو من مخلَّفات العهد البائد.
لا أجد فيما يتعلق بالأهداف والشعارات المرفوعة فرقاً كبيراً بين الإسلاميين ومعارضيهم، وإلا لما اجتمعوا في ساحة الثورة على قلب رجل واحد، ما يعني أن العودة إلى اللحظات التاريخية الحاسمة في الربيع العربي يمكن أن تساعد الجميع في التقارب مجدداً، بعيداً عن إفرازات الشحن والاستقطاب الحاد الذي يكتنف مسار الانتقال في مختلف دول الربيع العربي.
التقارب المقصود هنا لا يعني إلغاء الفروق بين فرقاء الثورة، فذلك ليس مطلوباً ولا ممكناً، وإنما يمكن لقوى التغيير أن تحترم قواعد الديمقراطية، وتتجه نحو الناخب على أساس الاستقطاب السياسي البرامجي، حيث لم يعد للأيديولوجيا البريق الذي عرفته السنين الماضية.
صحيح أن الخطاب الديني قد يرجح كفة الإسلاميين، بيد أن القومية أيضاً تبقى مؤثرة هي الأخرى، بل ولعل الإسلاميين بصدد إنتاج صيغتهم الجديدة للتعاون القومي العربي، كنتيجة تلقائية للصلات الوثيقة بين فروع الأخوان المسلمين في الوطن العربي.
وبالمثل فإن للأحزاب القومية واليسارية صلات ببعضها في أكثر من قطر عربي، وإن كانت لا تزال تفتقر للإمكانات التي يحظى بها الإسلاميون، لكن مع ملاحظة أن الربيع قد فتح لكل القوى آفاقاً جديدة يمكن استغلالها، وهو ما نلحظه بالفعل في الشارع المصري اليوم.
قبل أن يجتمع الإسلاميون والقوميون في ساحة الثورة جمعتهم من قبل مشاريع وهموم مشتركة، كان على رأسها المؤتمر القومي الإسلامي الذي يُعد علامة مضيئة في سماء العالم العربي، ويمكن للمؤتمر أن يشكل طاولة حوار مرّة أخرى بين قوى الثورة والتغيير، والمساعدة على تصويب مسار التنافس السياسي بينها، ونزع فتيل العداء الإيديولوجي الذي يخشى أن تنزلق فيه من جديد.
بالاحتكام إلى الديمقراطية بشروطها الموضوعية لا يمكن لحزب أن يستبد السلطة كما فعلت الأنظمة السابقة، وهو ما يعني إمكانية تداول السلطة سلمياً، وإذا كان الإسلاميون قد تمكّنوا من الفوز في الجولة الأولى فإن معارضيهم قد يتمكنون من الفوز في أقرب جولة إن هم استفادوا من أخطاء الإسلاميين الذين ورثوا تركة ثقيلة من مخلّفات النظام السابق، لن يكون بمقدورهم القفز عليها، في المنظور القريب.
إذا أطلقنا العنان للتفاؤل - ونحن على أعتاب عام جديد - يمكن القول إن التيارين الإسلامي والقومي ما زالا قادرين على استقطاب الناخب العربي، بحيث يمكن للرؤى اليمينية المُحافظة أن تصطف إلى جانب الإسلاميين، في حين تصطف الرؤى اليسارية الليبرالية إلى جوار القوميين، وهنا فإن الربيع العربي على موعد مع خارطة سياسية جديدة تتداول أحزابها السلطة وفقاً لقواعد الديمقراطية التي لا تجامل أحداً.