ما الذي تنتظره من مجتمعٍ يتقلد فيه العريس سيفاً أو بندقية، وتقرع في أفراحه الطبول التي تشبه افتتاحية حرب؟ وأبلغ تعابير الفرح زغاريد أعيرة النارية. منتهى الرجولة فيه أن تكون مداناً بجناية أو متعهداً بثأر. وعلى أطفاله أن يؤكدوا انتماءهم إلى هذا الصنف من الرجولة بمحاكاة الكبار بحمل السلاح وإطالة الشعر عوضاً عن الشارب! يأخذون زينتهم عند كل مسجدٍ وفي أعيادهم وفي صلة أرحامهم بسلاح مرفقاً بأحزمة الرصاص، أنت مثار سخريتهم حين تبدو مستغرباً، ضحكوا ملء أشداقهم حين قال (احتمال أن القائل أنا) أنه لم يجرب إطلاق النار غير مرة صاد فيها الجبل الرابض أمامه.
ويتفاخر جندي المرور المسكين حين طلبت منه أن يكون حازماً مع المخالفين في دوار أغلقته المركبات من كل الجهات، فرد قائلاً أنا مشحوط من بيتنا أنا قاتل وأخذ يسرد الحكاية باستعراض لافت متناسياً تقصيره الذي تسبب في زحام خانق غير مكترث بمنبهات السيارات وسباب السائقين.!
ويظل الحلم بمجتمع متمدن كغيره من الأحلام التي يتناوبها سفاحو الأشياء الجميلة في هذا البلد، رغم أنه حلم أوعى شريحة في المجتمع، طبعاً لست من المبالغين الذين ينشدون الدولة المدنية بتشديد عجيب حتى أنهم فهموا أن تتخلى عن لهجتك والقهوة البلدي واحترام الكبير وشيخ العلم وصاحب الوجاهة الاجتماعية المتحضر وعلى جدك أن يخلع عمامته وزيه التقليدي ليستدلوا على أن حفيده مدنياً، لكن لنعترف أن مقولة (الإنسان مدني بطبعه) إن كانت تصب في هذا السياق فهي تستثني جيلاً كاملاً من اليمنيين لسبب لا علاقة له بعدم شمول كلمة إنسان للفرد اليمني حتى لا يتاح لهواة الاصطياد أن يحاكموني إلى إطار هذا الاستثناء، على الرغم من أن الثورة الشبابية رافقها ثورة وعي وكشفت إمكانية أن تتحول القبيلة إلى جزء مهم في بنية الدولة المدنية، إلا أن سلوك بعض الأفراد المتعلق بالسلاح وتنامي ظاهرة حمل السلاح وتجدد بعض العادات التي أوشكت على الاندثار هو ما نعنيه من معوقات هذا التحول.
والمتخوفون من شخصيات نافذة وبقايا نظام باعتبارهم سيفقدون ذلك النفوذ المعتمد على إبراز القوة والمرافقين يعززون هذا الباعث لليأس لدى كثير من الحالمين في مجتمع متحضر لا يتناقص يومياً بأرقام مهولة بسبب السلاح ما بين قتل بالخطأ والمزاح وإسكات الخصم الذي ينازعه في مشروع أو أرض أو حتى بقضية صغيرة عائلية أو نحوها أخذت وقتها في أدراج المحاكم.
آخر ما أنتجه هواة السلاح هو قلقهم الشديد من تردي الوضع الأمني وهم من قاموا باختلاق أجواء مشحونة بالعبث ترسخ لديهم ضرورة التعلق بالسلاح، ما يعني أن الوراء هناك أمام أحلامنا التي تتكاثر لتموت، ويا للعجب يعتبرون تنظيم النسل مخططاً يستهدف تناميهم كقتلة وينفذونه بوحشية بريئة من المؤامرة، لا يأبهون لشهائد الميلاد بقدر غزارة إصدارهم شهائد الوفاة، وهذه طبعاً تحارب المؤامرة التي يبطنها مفهوم تحديد النسل.
المدنية حداثة، تعايش، رعاية الحقوق، تحقيق المساواة والعدل ومع ذلك لا يزال البعض يبدي تحسسه المفرط من مصطلح المدنية باعتبار ذلك ناقضاً من نواقض الإسلام غير متفهمين - أو لا يريدون أن يفهموا - ان المدنية أشمل من مصطلح قولبه مراجعهم هذا المصطلح في خانة أنظمة لا تعترف بالإسلام وتناقض تشريعاته وأكاد أجزم أنهم لم يقرأوا ماهو النظام المدني إذ لو قرأوه بمقارنة مع ما جاء به الإسلام لوجدوا أنه فاتهم توظيف الفتاوى الجاهزة منذ السبعينيات إبان ثورة هذه المفاهيم التي جاءت بنوايا تبرر وجود تلك الفتاوى حينها، تماماً كما تعاملوا مع الديمقراطية بتوجس وريبة وظلت معركتهم التي وجدوا أنفسهم مؤخراً يطوعونها حسب المناسب لتموضعهم كإسلاميين، بحق لقد أزعجتنا بعض الحناجر التي تعتبر كل جديد غزواً أو فكرة غير مرنة تقبل التشكل بفارق بسيط جداً.
بعد هذا الاستطراد أود القول أن مبعث اليأس يكمن في رجل دين محنط ورجل قبيلة محبط وعصابات لم يلقنها القانون واجب العقوبة ومفاهيم قديمة معلبة في صندوق ذخيرة.
ومع ذلك هناك ما يبعث على الطمأنينة، التي تلوح بها الحملات الأمنية في شوارع المدن الرئيسية لمكافحة التسلح لولا أنها حملات متقطعة بين حين وآخر، وهي مساعي يشكرون عليها ويظل الواقع بحاجة لأكثر من هذه الحملات إذ لو رافقها اجراء أكثر حزماً وحملات توعوية لكان الناتج أكثر طمأنينة.