هيمن الحنين إلى الدولة الجنوبية التي ألغيت عام 1990 على مجمل وقائع الحفل الضخم الذي نظمه أنصار الحراك الجنوبي طيلة نهار أمس الأحد لإحياء فكرة التسامح والتصالح التي نشأت لتجاوز معاناة تناحر دامٍ هز الجنوب قبل 27 عاما. فقد توشح آلاف الأشخاص ممن اشتركوا في الحفل الذي نُظم في ساحة العروض بمدينة عدن أعلام الدولة الجنوبية السابقة وارتفعت الأعلام فوق المركبات التي أقلت المحتفلين وغطى علم عملاق بطول عشرات الأمتار منصة تتوسط ساحة الحفل الواقعة في منطقة خور مكسر.
وانتظم عشرات الآلاف في الحفل الذي أعاد التذكير بأن الحراك بات يملك الكلمة العليا في المحافظات الجنوبية وسبق له أن وجه رسالة بنفس المضمون نهاية نوفمبر الماضي حين نظم حفلاً مماثلاً في عدن لإحياء عيد الاستقلال.
ورفع قعيد مسن كان يدفعه صبي على كرسي متحرك أوراقاً هي فئات من عملة الدولة الجنوبية وهو نفس ما فعله شاب بدا وسط المحتفلين شاهراً عملة قديمة وفي يده الأخرى بطاقة هوية شخصية كانت تصدر للمواطنين في الجنوب قبل قيام الوحدة، فيما طرزت امرأة منتقبة نقابها الذي ينسدل حتى صدرها بصورة نسر كان شعاراً في السابق لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وزادت أن وضعت صورة لهذا الشعار في جبهتها.
وفي مشهد مماثل، جلس شاب أمام قدر كبير مملوء بطعام بدا أنه أرز وقد صُبغت طبقته العليا بألوان علم الجمهورية التي حكمت الجنوب قبل أن تندمج في وحدة فورية مع جمهورية في الشمال عام 1990.
وطلى شاب آخر كامل جسمه بألوان علم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وغطت منصة الحفل وجوانب الساحة صور لقادة سياسيين يتزعمون فصائل الحراك الجنوبي وصور لنشطاء قتلتهم القوات الحكومية خلال مظاهرات للحراك في الأعوام السابقة.
في شارع متصل بالساحة حيث نُظم الحفل، انتصبت لوحة إعلانات كبيرة وعليها صورة لأشخاص يؤدون علامة تضامن مع خلفية بألوان العلم الجنوبي. وكتب على واجهة اللوحة «أياد متنوعة..روح واحدة» في حين رفع طلاب في كلية الطب بجامعة عدن يافطة كُتب عليها «من أجل مستقبل أجسالنا. نعم للتسامح والتصالح والتضامن».
وأزاح نشطاء من الحراك صورة لزعيم قبائل حاشد الراحل عبدالله بن حسين الأحمر وألصقوا مكانها صوراً لقادة سياسيين من الجنوب بينهم الرئيسان علي ناصر محمد وعلي سالم البيض.
وضمت لافتة كبيرة صوراً لعبدالفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد وعلي أحمد ناصر عنتر وصالح مصلح قاسم وعلي شائع هادي وهم قادة كبار في الجمهورية الاشتراكية التي حكمت الجنوب وقضوا جميعهم في الاقتتال الذي تفجر يوم 13 يناير قبل 27 عاماً.
يمثل ذلك مؤشراً على أن نشطاء الحراك تغاضوا هذه المرة عن إرفاق صورة الرئيس عبدالفتاح إسماعيل إلى جانب القادة الآخرين بعد أن شطبوا صورته في مهرجان للحراك عام 2007 لانحداره من عائلة في شمال البلاد.
ووصف المنظمون حفل التسامح والتصالح ب«مليونية أخرى» في إشارة إلى أن عدد المشتركين فيه بلغوا مليون شخص وهو تقدير لا يخضع لضوابط مستقلة.
وقال بيان سياسي للجنة الاحتفال المنظمة إن «شعب الجنوب» بهذا الاحتفال «لا يعزز مضمون رسائله السياسية والقانونية والتاريخية للعالم من حوله وحسب، بل يؤكد تمسكه بخياره (..) وأنه لن يتراجع ولن يساوم بحقه في الخلاص».
لفت البيان إلى أن «عملية التسامح والتصالح وقيمها هي عملية طويلة، تؤسس لثقافة جديدة خالية من الشمولية والإقصاء» مشيراً إلى أن من المضامين السياسية لعملية التسامح والتصالح «التجاوز الواعي لكل ما خلفته صراعات الماضي السياسية من تصدع في النسيج الاجتماعي وفي النفوس، لاستعادة اللحمة الوطنية الجنوبية».
وأضاف: إن القيم العليا التي يمثلها التسامح والتصالح والتضامن تقتضي بالضرورة أن نجعل منها ثابتاً وطنياً في الحاضر والمستقبل الذي ننشده وأن تجسد هذه القيم السياسية في سلوك كل مناضل جنوبي لتتحول بالتدريج الى ثقافة اجتماعية تحول دون إحياء ثقافة وقيم الشمولية السياسية والفكرية وعقلية الإقصاء والإلغاء للآخر المختلف والقبول الواعي بحق الشراكة الوطنية المتساوية في دولة المستقبل التي يضحي شعبنا في سبيل استعادتها.
وشدد البيان على ضرورة وحدة قوى الحراك الجنوبي، قائلاً إن «شعب الجنوب اليوم يؤكد ثباته خلف خيارته السياسية التحررية التي ينبغي أن تحترم من أصحاب القضية بمختلف اطيافهم وشرائحهم الاجتماعية».
على غير العادة، لم يتصدر احتفال التسامح قادة سياسيون يتزعمون فصائل الحراك الجنوبي باستثناء حسن باعوم الذي يتزعم فصيلاً انشق عن فصيل أوسع يقوده الرئيس السابق علي سالم البيض وكلاهما يناديان باستعادة الدولة الجنوبية.
وظهر الشيخ القبلي المثير للجدل طارق الفضلي وسط المحتفلين وهو يرتدي قميصاً طبعت عليه صورة للثائر الشيوعي الأرجنتيني تشي جيفارا وبنطالاً من الجينز.
وسبق للفضلي أن ظهر مرة مرتدياً ثياباً بيضاء تغطي سائر جسده وقال إنها كفن في إشارة إلى استعداده للتضحية في سبيل القضية الجنوبية يوم أن كان قيادياً في الحراك الجنوبي قبل أن يرفع العلم الأميركي في حديقة قصره بمدينة زنجبار.
لكن شعبية الفضلي انخفضت إلى مستوى متدن بعد أن زرع خيبة أمل كبيرة لدى أنصار الحراك حين أعلن دعمه لجماعة أنصار الشريعة المرتبطة بتنظيم القاعدة في محافظة أبين في العام الماضي عقب أعوام من تأييده للحراك قادماً من حزب المؤتمر الشعبي العام.
ظل يوم 13 يناير من كل عام ذكرى محزنة لأدمى صراع مرً على المواطنين في الجنوب عبر تاريخهم الحديث لكن منذ 2006 تحول إلى يوم للتسامح والتصالح حين نظمت جمعية ردفان الاجتماعية الخيرية في مدينة عدن لقاء عاماً بغية تحويل هذا اليوم إلى نقطة للمصالحة وتجاوز آثار هذه المحنة.
وأغضبت تلك المبادرة من جمعية ردفان السلطات النظامية حينذاك فداهمت مقر الجمعية وألغت ترخيصها ثم مالبث الحراك الجنوبي أن انطلق في العام التالي وشرع في إحياء يوم 13 يناير بمظاهرات ومهرجانات كبيرة.
نشأ صراع يناير 1986 من اختلاف بين جناحين في الدولة الجنوبية السابقة والحزب الاشتراكي الحاكم لها، جناح تزعمه أمين عام الحزب حينذاك علي ناصر محمد كان مؤيداً لسياسة الانفتاح وجناح تزعمه أمين الحزب الأسبق العائد من موسكو عبدالفتاح إسماعيل كان متمسكاً بالاشتراكية العلمية الصارمة لإدارة الدولة.
وسرعان ما تطور الاختلاف الحزبي إلى استقطاب مناطقي حاد، فاحتشدت مناطق أبين وشبوة خلف علي ناصر ووقفت الضالع وردفان إلى جانب الجناح الذي تزعمه عبدالفتاح بسبب أن قادة آخرين في هذا الجناح كانوا ينتمون إلى المناطق الأخيرة.
وبلغ الصراع ذروته يوم 13 يناير عام 1986 حين تفجر في شكل تصفيات جماعية لمسؤولين في الدولة والحزب وقتال شوارع عنيف أدى إلى مقتل بضعة آلاف من المدنيين والعسكريين.