الآن يمكنك أن تشاهد الفضائية اليمنية باندهاش ومتعة، الآن بمقدورك تجاوز المرور العابر والتوقف طويلا وبإغراء لمتابعة الكثير بدون أن تتضرر أو تصاب بأزمة نفسية ودون أن تشعر بالعار وبالخجل من الوجود، صارت أخرى لا تشبه أبداً تلك القناة الكئيبة البائسة التى مارست تعذيبنا إعلامياً على مدى عقود ببثها القسري المكرّس لأطول مسلسل حكم هزلي في تاريخ اليمن المعاصر. انتهى زمن الأوبريتات المُمجدة للحمق، وانطوى عهد نشرات الأخبار التى تنهيك ولا تنتهي، حيث ينشر المذيع رأسك بلا توقّف بسرد يوميات الزعيم مفصلة مشمولة بمحتوى مقابلاته الصحفية ورعاياته الكريمة، وقد يردفها أحيانا - كمسك ختام - بمضمون حوار مسرف في الطول أجراه وزير الإعلام اللوزي مع صحيفة محلية أو عربية.
الآن يمكنك التعرض لنشرة الأخبار بأريحية تامة؛ تدرك أن نبيل البعداني يحرسك على رأس الإدارة العامة للأخبار من أية صدمات خبرية مُميتة، لا خطر عليك من الصياغات التي ما كانت تفرّق بين تحرير الخبر وقرع الطبل.
ستسمع أخباراً نظيفة مصقولة مكتوبة باحتراف ورصانة وبلغة لا تتسع لممارسة ذاك البرع الخبري القديم، والذي يجعل من النشرات سرديات يومية مكرورة مقبضة لحياة أبي زيد الهلالي أو ذكر مآثر وإنجازات الزير سالم البطولية الخارقة.
الشاشة الأكثر تشوشاً وتشويشاً والأشد انغلاقاً وفجاجةً وسطحيةً والمحكومة بذهنية بوليسية رثة وعقلية عتيقة ما زالت ترى التلفزة والإذاعة أعمالا سيادية يجب حظرها ومنعها عن الناس وإبقاؤها خلف الثكنات المدججة، محاطة بالكتائب، محروسة من انقلابات الدهر.
هذه الشاشة، التي شوّشت دهراً على البلاد والعباد الوعي والرؤية وأصابتنا بتسممات بصرية وسمعية حادة، هي اليوم شاشة ثانية ثورية الوجه والوجهة، هي اليوم فضاء تطالع فيها اليمن صورتها لا صورة فجيعتها الكبرى المديدة.
الفضائية اليمنية اليوم زمن مختلف مفتوح للجميع ترى فيها الألوان المتعددة التى ترسم صورة اليمن الواحد المختلف المؤتلف.
هي الآن تختط تاريخاً مغايراً تردم الهُوة بينها وبين الناس، تصير منبراً للمواطن والوطن.
تدهشك الحيوية البادية فى البرامج المختلفة على وجوه الزملاء، ترتسم بجلاء روح وملامح المرحلة، يفصح الأداء عن حالة من الحُرية، ثمة انطلاق وشغف ودفء وجرأة وامتلاء وشعور عارم بالحضور.
انحسر ذلك الجو الخانق، وتبدد الخوف المغتصب للأصوات والسحنات، غادر الرقيب المحطة، لم يعد يحصِ انفلاتات الألسن، ونوعيات الضيوف، ونقاوة الولاء للحاكم، خسر كتبة التقارير الأمنية مواقعهم، وطهرت القناة من وجوه سيِّئة الطلعة احترفت إيذاء الجمهور بأكاذيبها الممجوجة وممالأتها الفظّة للفساد ومحاولاتها قتل الحقيقة وتبرير الجريمة ودفاعها المقيت عن الرذائل والشرور.
بالأمس، تابعت حلقة الإعادة من البرنامج الأسبوعي المميز "بشفافية"، والذي يقدمه الزميل الرائع خالد عليان ويخرجه جمال إمبادي، وكان بدأ قبل الثورة الشبابية السلمية كمحاولة اختراق أولى للخطاب الرسمي المغلق المستأثر بكامل الحضور والرافض لكل ما عداه من وجهات النظر المخالفة والمعارضة والناقدة.
وقد عاني الزميل عليان الكثير من الصعوبات والتحدِّيات منذ الحلقة الأولى، والتي خصصت للحديث عن الحراك والقضية الجنوبية في وقت كان الصراع فيه قد أخذ في الاحتدام؛ منذراً بما هو أسوأ، بينما كان اللوزي يوجّه بصب مزيدٍ من المواد الإعلامية الحارقة على الوضع المشتعل في الجنوب؛ محاولاً إلزام وسائل الإعلام الرسمية بتصنيف الحراك الحقوقي السلمي المطلبي ضمن تنظيم القاعدة.
هذا الرجل من أكبر صُنّاع الكوارث في اليمن، مرتكب جرائم شنيعة بحق الإعلام وحق اليمنيين، ويتحمل مسؤولية الكثير من الاحتقانات والصراعات التي انفجرت في الجنوب والشمال.
أمس، استضاف "بشفافية الأستاذ المناضل محمد غالب أحمد، القيادي الكبير في الحزب الاشتراكي، حول "الجنوب والحراك" بمشاركة عبر الهاتف لأحد القياديين الحراكيين.
بدا عليان محاوراً من طراز رفيع، مستوعباً لموضوعه، يطرح أسئلة ذكية بهدوء ورزانة.
الأستاذ العزيز محمد غالب، بتوقّده وسعة أفقه وخبرته وتجربته الرائدة وروحه الوطنية الرحبة وحساسيته الأدبية العالية، كان سيّد الحضور، وهو من السياسيين القلائل الذين يتحدثون ببساطة وعُمق وروح مرحة قادرة على اكتساح جهامة الواقع وكبح جماح القلق والمخاوف العاصفة داخلك والوصول بقلبك وعقلك إلى حالة من الصفاء والتوازن والانسجام والثقة والتفاؤل.
"بشفافية" مساحة حُرة هامة توثّق لتحول فارق في الخطاب الإعلامي الرسمي نحو الحُرية والانفتاح والتعدد والاعتراف بحق الاختلاف وكسر حواجز الصمت والخوف والمحاذرة والقولبة الجامدة وسياسات القمع والمنع والمصادرة والتوجّهات التعبوية الجماهيرية المضللة.