طالعتنا صحيفة المصدر على الصفحة الثقافية، عدد الخميس الماضي، بموضوع شيق للكاتب والموسيقي السعودي على محمد العلي (عن جريدة الشرق) تحت عنوان «شمعه أخرى تنطفئ برحيل المغني اليمني محمد مرشد ناجي» والحديث عن المرشدي حديث ذو شجون، نعم لو أردنا أن نفي ونعطي ونكتب عن حياة هذا العملاق فالأقلام لن تستطيع أن تخط ما نريد كتابته او سرده حتى المجلدات تعجز عن الاحتفاظ بأعماله الإبداعية لكثرة مواهبه طوال مسيرة حياته. فالمرشدي لديه مواهب متعددة فهو مغنٍ وهو كاتب ومثقف وسياسي، إلى جانب أنه وطني حر اكتسب هذا من خلال اطلاعه وقراءته المستمرة لأمهات الكتب، والفرق شاسع بين الذين يقرؤون والذين لا يقرؤون، فالذين لا يقرؤون لا يستطيعون أن يبدعوا، ولهذا كان (رحمه الله) موسوعة ثقافية لأن ثقافة الخمسينيات تختلف في جوهرها عن ثقافة اليوم، بحيث كان المرء يقرأ في اليوم أكثر من أربع ساعات صباحا وظهرا، وحتى في المطعم عند الأكل هناك من يقرأ ويأكل بهدوء، لا أدري هل أصبنا أو انتقلت العدوى من الانجليز إلى الناس في هذا الجانب. لقد عرفنا المرشدي عن قرب من خلال حفلاته سواء في المخادر عند الزفاف أو في سينما «هريكن» أو «مستر» حمود، وقد كنا نتحسس يوميا عن مكان حفلاته طوال الأسبوع حتى لا تفوتنا الفرصة، وكان أكثر حضوراً مخادر القراء مجانا بعد ثورة يوليو في مصر الكنانة وظهور الضباط الأحرار وعبد الناصر بدأت في عدن الحركة الوطنية تأخذ طابعا خاصا بقيادة المؤتمر العمالي ونقابة العمال بزعامة نخبة من الوطنيين الأحرار منهم رئيس الوزراء حالياً محمد سالم باسندوة، والأصنج، والقاضي، وأحمد حيدر وزعيم الحركة الوطنية والنقابي الجليل محمد عبده نعمان الحكيمي، وعبده سلام، وقاسم سلام، وغيرهم خانتني الذاكرة عن إيراد أسمائهم. وكانت المظاهرات والإضرابات شبه يومية، بعدها فكر الانجليز بإبعاد ونفي محمد عبده نعمان الحكيمي إلى تعز وكان رد العمال الإضراب والمظاهرات. وبطريقة استفزازية وخبث أراد الانجليز الانتقام من العمال سواء الشماليين ذوي الكثافة الكبيرة أو العدنيين، ففتح باب الهجرة على مصراعيه بحرا وجوا، حينها ظهر لنا المرشدي بإبداعه الفريد بأغنيتة المشهورة امنعوا الهجرة إنها خطرة في بلادي عدن. أيضا عندما ذهب السلاطين إلى لندن مع المندوب السامي البريطاني للتوقيع على إقامة حكومة الاتحاد الفيدرالي في نهاية الخمسينيات، وعند عودتهم في مطار خور مكسر قابلهم الشاعر محمد سعيد جرادة بقوله: بعت القضية بالنقود وجئتنا بوريقة من صنع الاستعمار.. ياليت أمك لم تلدك وياليتها ماتت بعسر ولادة لحمار
لم يمضِ سوى ثلاثة أيام إلا والناس تسمع صوت المرشدي يشدو بتلك القصيدة الوطنية، ومن منا لا يعرف أنشودة يابلادي للطفي جعفر أمان، وكم غنى للأرض والإنسان كأغنية «أخضر جهيش مليان حلى عديني، بكّر غبش شفته الصباح بعيني» أيضا «يا نجم يا سامر فوق المصلى» وكيف كان لهذه الأغنية صدى واسع خاصة عند أبناء الشمال في عدن لأنها تعبر عن الهجرة والبعد وظلم عساكر الإمام من خلال التنافيذ حين يقول: هجرتني والقلب غير سالي، كله السبب عساكر الحلالي، بكّر من التربة غبش يلالي، بيده سبيل بجيبه أمر عالي» بحيث كان الحلالي آنذاك عاملاً على تربة الحجرية، والقصيدة للشاعر الدكتور سعيد الشيباني. ولا ننسى في هذا السياق «نشوان يا نشوان يشتوا يسووا راس الجنبية جعنان، نشوان لا تفجعك خساسة الحنشان، فكر بباكر...» هذه الأنشودة للدكتور الصريمي، وكان يقصد بها صالح في بداية عهده بعد حملته على الحجرية عندما كان قائدا في لواء تعز، وبعد أحداث عبدالله عبدالعالم. أيضا بعد الحرب بين الشمال والجنوب أستطيع القول إن ثقافة المرشدي العميقة جعلته إنسانا وطنيا حر لا يقبل المساومة إطلاقا يحب اليمن الطبيعية حبا جما، حتى ان حبه لليمن منعه من فراقها وتركها بل ظل يصارع الحياة ويكابدها، ولم يقبل عروضا كثيرة من دول عربية في الجوار للعيش هناك عندما كان يذهب لإحياء حفلات هناك ففضل البقاء في اليمن رغم ما كان سيلاقيه من النعيم والترف والبذخ هناك.
وهكذا عزيزي القارئ أم أقل آنفا أن ثقافة الخمسينيات تختلف في جوهرها ومضمونها عن ثقافة اليوم، وكيف أن بعض مثقفينا بالوكالة يساومون على أوطانهم ويروجون للانفصال وفك الارتباط، نسوا أن الآلاف من الشهداء ضحوا في سبيل هذا الهدف منذ ثورتي سبتمبر وأكتوبر وصولا إلى ثورة الشباب.