الفشل الذريع الذي مني به النظام السابق في إدارته للمشروع الوحدوي، وكذلك الطريقة التي تعامل بها مع الجنوب أرضا وإنسانا؛ هو ما طوح بالوحدة وأسقط قيمتها من نفوس الجنوبيين. فالكل من الداخل إلى الإقليم والمجتمع الدولي يؤمن بعدالة القضية الجنوبية. فمنذ أن بدأ الجنوبيون احتجاجاتهم السلمية ذات المطالب الحقوقية إلى اليوم كان ولا يزال معظم أبناء الشمال- لاسيما أولئك الذين يعيشون في الجنوب لإدراكهم فداحة الظلم- يؤيدون هذه المطالب ويقفون إلى جوار إخوانهم في الجنوب منددين بجرائم السلب والنهب والتهميش وسياسة البطش والقمع والإقصاء التي طالت الجنوب وشعبه من قبل النظام الفاسد وأباطرة حكمه من الشمال والجنوب. ليس ذلك فحسب، بل كانت تلك الجرائم من أهم التراكمات التي اندلعت جراءها الثورة الشبابية الشعبية التي ضحى الشباب من أجلها بأرواحهم الطاهرة وكان أبرز أولويات أهدافها القضية الجنوبية. واستمر تجسد هذه المواقف الإنسانية المساندة لقضية الجنوب وبرزت جليا في دعم فصائل الحراك السلمي- الحامل الرئيسي لهذه القضية - ولمشروعة السياسي والترحيب به في كل المحافل وفتح قنوات اتصال مع كل مكوناته. إلا أن هذا الدعم الشعبي الشمالي الجنوبي يُقَابَل اليوم، وللأسف الشديد، بعنف من قبل فصيل متطرف منطوي تحت قوى الحراك السلمي حيث يمارس هذا الفصيل يمارس العنف بشكل متعمد وممنهج تجاه إخوانهم من مواطني الشمال في الجنوب وهو العنف الذي لا يسلم منه مواطني الجنوب أنفسهم.
أكتب هذا وأنا أتمثل أمام عيني صور ذلك العنف المتزايد من قبل تلك العناصر المدججة بالكراهية تجاه المواطنين لاسيما أبناء الشمال، حيث ترتسم أمام مخيلتي تفاصيل المحلات المحروقة والسيارات المهشمة والعنف وكذلك العنف الجسدي الذي يصل إلى حد القتل والتعذيب أحيانا، إضافة إلى إغلاق المحلات التجارية كرها، تحت ذريعة فرض العصيان المدني، وإغلاق المدارس وقطع الطرقات وإعاقة حركة الناس وما يترتب على ذلك من خسائر وإضرار بمصالح الناس في الجنوب.
السؤال هنا: كيف يتناسى هذا الفصيل المتطرف الجلادين الحقيقيين من النظام السابق وأعوانه من الشمال والجنوب، الذين طالت سياطهم أبناء الجنوب إقصاء وتهميشا، وسطت أياديهم المتطاولة على أراضي وممتلكات الجنوب مصادرةً ونهباً وتحويشاً، وبالتالي يترك هذا الفصيل العنيف هؤلاء ويصب جل عنفه وانتقامه على بسطاء المواطنين الذين هم أيضا ضحايا النظام المخلوع الموغل في الفساد والطافح في الاستبداد؟.
استمرار هذه الانتهاكات تحت غطاء سياسي توفره قوى الحراك السلمي هو أمر يخل بأخلاقيات المشروع السياسي لهذه القوى، التي تلتزم الصمت المريب حيال هذه العنف المتزايد من قبل فصيل ينطوي تحت قيادتها، دون اتخاذ موقف إنساني واضح وتغليب المكاسب السياسية على المبادئ الإنسانية والضمير؛ وأخيرا، إن ما أخشاه ويخشاه كثيرون في الشمال والجنوب هو أن يزداد نمو هذا التيار المتطرف ليستمر بذلك جلد الضحية على حساب ترك الجلاد، وهو الأمر الذي سيفضي حتما إلى نبذ هذه القوى وبالتالي فشل وضياع القضية.