في 4 أبريل 1955؛ فشلت محاولة جديدة في اليمن للتخلص من نظام الإمامة المتعفن؛ وهي المحاولة التي قادها المقدّم أحمد الثلايا، وانتهز فيها فرصة المصادمات التي حصلت في الحوبان بين عدد من جنود الإمام والمواطنين؛ فقام بتحويل مجرى الأحداث ضد المجرم الحقيقي في حق كل فئات الشعب! تفاصيل أحداث الثورة معروفة؛ لكن هناك حكايات؛ بعضها محزن وبعضها طريف صاحب تلك الأحداث، وسجلتها أقلام وذكريات رموز من الذين عاشوها، وعندما نستعيد بعض تلك الأحداث فمن باب تذكير اليمنيين بأن ثوراتهم للتخلص من نظام الإمامة لم تكن ترفاً ولا عبثاً ولا سُوء تقدير للأمور أو بواقة؛ بقدر ما كان واجباً شرعياً ووطنياً وإنسانياً لإنقاذ اليمن واليمنيين من حالة الموت الشامل الذي وضعتهم الإمامة فيه ليخلو للأسرة العرش والبلاد والعباد!
المثير للضحك من نوعية شر البلية؛ أن "الإمام" لم يكن يفهم أو يعي حالة البؤس والشقاء والتخلف المريع الذي يعيشه الشعب اليمني تحت قيادته، حتى أنه انفجر غضباً وحنقاً عندما وصلت إليه تصريحات الأستاذ أحمد النعمان؛ الذي كان من المرافقين لولي العهد البدر في زيارة إلى مصر بعد فشل الثورة، وأكد فيها للإعلاميين أن الإمام عازم على تطوير اليمن والخروج بها من العُزلة، وتساءل كالأبرياء: اليمن متخلفة وغير متطورة وبحاجة للخروج من العزلة؟ وبمعنى آخر، فالإمام لا يدري ولا يدري أنه لا يدري بالحالة المأساوية التي عليها البلاد والعباد، ويبدو أنه صدق الدعاية التي كان نظامه يبثها لليمنيين بأنهم أحسن حالاً من الآخرين، ويعيشون في نعمة ورخاء أفضل من الشعوب الأخرى، وربما لذلك كان فرض العزلة عن العالم لكيلا يُصاب اليمن واليمنيون بالعين حسداً من عيون الأوربيين والأمريكيين إن عرفوا حقيقة الفردوس الإمامي!
الكبش و.. الحمار! مع نجاح الإمام أحمد في الانقلاب على ثورة الثلايا والسيطرة على الأوضاع، ثم اعتقال كبار قادتها ومنهم أخوه السيف عبد الله الذي تولى الإمامة بعد إجبار "أحمد" على التنازل له، ولما رأى (أحمد) أخاه عبد الله أسيراً صاح فيه: "أبصر يا كبش جهران.. كيف يفعل الرجال؟".
وعلى الرغم من أن ثورة 1955 هدفت فقط لنقل السلطة بتنازل الإمام لأخيه، وفي مرحلة استشعار الخطر واحتمال انقلاب الإمام على مناوئيه رفض (عبد الله) مقترحاً بالتخلص من أخيه أحمد توقياً لشره؛ إلا أنه أمر بإعدام عدد من رجال الثورة، ومنهم شقيقاه: عبد الله وإسماعيل.. وتأكد بالفعل أن الإمام كان يرى في أخيه كبشاً يستحق الذبح!
أما (الحمار) فحكايته ظريفة؛ فعندما حاكم الإمام المقدم أحمد الثلايا في الميدان أمام الناس (المحاكمة كانت على الماشي أو على الراكب؛ لأن الإمام كان وقت المحاكمة يركب الحصان، ويتجول به، ويسأل ويجيب نفسه بنفسه..)، ظل يمنّ على الثلايا أنه أكرمه، وعيّنه قائداً للجيش وأعطاه مرتباً كبيراً.. أو كما قال: "هذا هو المقدم أحمد الثلايا؛ كنت أطلعه الطيارة وأنزله، يا وشاح أجري حكم الله".. وعندما أمر بإعدام يحيى السياغي قال له الكلام نفسه: "هذا يحيى السياغي فعلته حاكماً، وأديت له مائة قرش معاش، يا وشاح أجري حكم الله!".
هذا المشهد الغريب الذي يجمع بين الكوميديا والرعب من حاكم يمنّ على مواطنيه وكبار موظفيه استفز سخرية الناس من الإمام؛ فقد حدث أن شاهد الأستاذ العزي اليريمي، الذي صار من كبار رجال التربية والتعليم؛ حادثة إطلاق رصاص – أو ربما إعدام - على حمير مسنة؛ فقام بتقليد موقف الإمام مع الثلايا والسياغي وهو يمنٌ عليهما، وراح يقول: "وهذه الحمير.. بندي لها كل يوم لحم طري، وأدينا لها خادم ينظف تحتها، وإنها عاد هي بتنفخ، يا وشاح: أجري حكم الله!".
المناضل ضد الاستبداد الإمامي العزي صالح السنيدار سخر أيضا – في مذاكرته الجميلة: الطريق إلى الحرية - من همجية التعذيب الذي لاقاه في سجون الإمام، فعندما كان صراخه يعلو ألماً من عقوبة الجلد المقررة عليه؛ أطل أحد حكام الإمام عليه من النافذة، وسأله متجاهلاً ما هو فيه: مالك؟ فرد عليه السنيدار ساخراً: قولوا للإمام: لا يزيد العذاب.. يحلني قبلما أحرم عليه مثل البقرة.."، أي يذبحه قبل ما يموت مثل البقرة؛ أو غيرها؛ التي إن أوشكت على الموت يُسارع صاحبها لذبحها!
السنيدار نفسه كان له موقف ظريف آخر مع الإمام والحمار، فقد سجن في المرة الأولى في عهد الإمام يحيى، اشترطوا عليه مقابل إطلاق سراحه أن يحلف أنه لم يقل نكتة ضد السلطة كان يسخر فيها من أسلوبها في اعتقال أقارب المطلوبين بدلاً منهم حتى يسلموا أنفسهم؛ وكانت النكتة المطلوب التبرؤ منها تقول: إن عكفة الإمام سيحبسون حمار علي تلها بعد هروبه بدلا عنه!
التداول السلمي.. للبالطو! شهدت أحداث الإعدام في ثورة 1955 حكاية غريبة مع "بالطو" – أو دجلة - القاضي يحيى السياغي؛ فبعد إعدام الثلايا انصرف الإمام مسرعاً من الميدان خوفاً - كما قيل - من حدوث رد فعل الجيش بعد إعدام قائده، وتأجل لذلك تنفيذ الإعدام بالآخرين، ومنهم القاضي السياغي، الذي غلب على ظنه حينها التفاؤل بأن الإمام صرف النظر عن قتلهم، فطلب من أهله أن يرسلوا إليه في السجن بعض الأشياء التي يحتاجها ومنها: الدجلة أو البالطو، لكن بعد أيام سيق السياغي إلى ساحة الإعدام من جديد، وقبل إعدامه أخذ الوشاح المكلف بقطع رأسه (البالطو) وصادره لحسابه.. ثم بعد فترة ارتكب الوشاح نفسه جريمة قتل فحكم عليه بالقصاص، وبعد إعدامه وهو لابس البالطو أخذه السياف (محمد سالم العبد)، وفي ثورة سبتمبر أعدم الرجل وهو يلبس البالطو فأخذه الذين أطلقوا عليه الرصاص، واختفى خبر البالطو ولم يعرف أحد مصيره.. لكن ظل الناس يتذكرون الحكاية كعبرة!
وفد يمني رفيع المستوى أقداما.. مارش! بمناسبة رفض الأئمة الإقرار بسُوء أوضاع اليمن في عهدهم؛ فقد ذكرنا في هذه الصفحة في مرّة سابقة حكاية الفضيحة التي واجهها الإمام أحمد عندما عاد من زيارته العلاجية من إيطاليا بواسطة باخرة أجنبية؛ وعندما وصل إلى ميناء الحديدة لم تستطع الباخرة الرسو في رصيف الميناء (كان الروس لما ينتهوا منه بعد)، ولم تكن هناك قوارب لركوب الوفد اليمني الكبير (كان يضم من النساء 64 امرأة معظمهن من الجواري أخذهن الإمام معه إلى إيطاليا)، واحتار (الإمام) وصحبه كيف يفعلون، وهدد قبطان الباخرة بالرحيل وإنزال الإمام ووفده في ميناء عدن، وكان الحل أن يسمح القبطان باستخدام قوارب النجاة لإنزال وفد المملكة المتوكلية اليمنية برئاسة أمير المؤمنين إلى أقرب نقطة، ثم يتولى رعايا الإمام – أو عبيد أسرته - حملهم على الظهور كالعادة إلى البر!
القاضي عبد الرحمن الإرياني يحكي في مذكراته – التي صدرت مؤخرا - حكاية ثانية عن مثل هذا الوضع المخزي الذي كانت عليه البلاد في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فقد عاد وفد يمني بالطائرة من جدة إلى الحديدة إلى صنعاء قاصدين تعز؛ لكن الطيار بعد وصوله مطار صنعاء الشمالي اعتذر عن مواصلة السفر مؤجلاً الرحلة إلى اليوم التالي، واضطر الوفد للمبيت في صنعاء، وانتظروا في المطار سيارة تأخذهم إلى المدينة فلم يجدوا شيئاً حتى بغلة أو حماراً يركبونه.. واضطر الوفد (الذي شارك مع الإمام في مراسيم التوقيع على الحلف الدفاعي الثلاثي مع مصر والسعودية) إلى السير على الأقدام من الجراف إلى قلب صنعاء، حتى استقروا في منزل القاضي عبد الله الحجري ووزير المواصلات الذي أصر على استضافتهم بدلاً من الذهاب إلى دار الضيافة. وبالإضافة إلى القاضيين الإرياني نائب رئيس الهيئة الشرعية، والحجري وزير المعارف والمواصلات؛ فقد كان الوفد رفيع المستوى حقاً يضم الوشلي نائب الإمام في تعز، والقاضي السياغي نائب الإمام في إب، وزيد عقبات أحد رجال دولة الإمام، وعبد الله عبد الكريم أحد أصهار الإمام البارزين، كلهم اضطروا للمشي في مشهد لا شك أنه كان مثيراً للغرابة، ودليلاً على المنحدر الذي وصلت إليه البلاد! ولأن أعضاء الوفد كانوا ضمن وفد اليمن في السعودية؛ وعُوملوا فيها معاملة الوفود الرسمية، وكان لكل اثنين منهم سيارة ضيافة خاصة؛ فقد علق أحدهم - مازحاً- مقارناً بين ما كانوا عليه في جدة وما صاروا عليه في صنعاء بأنهم قد أسرفوا في استعمال السيارات في السعودية فكان (المشي) هذا عقوبة لهم للإسراف في الترف!
ولا يوجد ما ينفي أو يثبت أن أحدهم رد عليه: عين الحسود فيها عود.. أكيد عين الإمام!
للتأمل.. كان عبد الله بن محيرز عابداً معتزلاً للفتن، ولا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مترفعاً عن الصغائر، متعففاً.. دخل يوماً حانوت "بزاز" ليشتري منه ثوباً فرفع البزاز سعره، فقال له جاره: ويحك! هذا ابن محيرز ضع له (أي أنقص له من السعر).. فأخذ ابن محيرز بيد غلامه، وقال: اذهب بنا، وإنما جئنا لنشتري بأموالنا لا بأدياننا.. فذهب وتركه!
أحلى كلام.. [متى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمة ما شكرت أو زلة قد فعلت..] ابن الجوزي.