الحوثيون يغلقون مسجد في عمران بعد إتهام خطيب المسجد بالترضي على الصحابة    شاب يقتل شقيقه جنوبي اليمن ووالده يتنازل عن دمه فورًا    صاعقة رعدية تنهي حياة شاب يمني    محمد المساح..وداعا يا صاحبنا الجميل!    صورة ..الحوثيون يهدّون الناشط السعودي حصان الرئيس الراحل "صالح" في الحديدة    آية في القرآن تجلب الرزق وفضل سورة فيه تبعد الفقر    العليمي يكرّر كذبات سيّده عفاش بالحديث عن مشاريع غير موجودة على الأرض    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    نصيب تهامة من المناصب العليا للشرعية مستشار لا يستشار    على الجنوب طرق كل أبواب التعاون بما فيها روسيا وايران    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    العليمي يتحدث صادقآ عن آلآف المشاريع في المناطق المحررة    صور الاقمار الصناعية تكشف حجم الاضرار بعد ضربة إسرائيل على إيران "شاهد"    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حيدر علي ناجي العزي :التيارات السياسية اليمنية ودورها في انهيار المملكة المتوكلية
نشر في الجمهورية يوم 27 - 09 - 2012

اليوم ونحن نحتفل بالعيد الذهبي لثورة 1962م نجدنا نعاني من جهل أو تعتيم - مقصود أو غير مقصود - لتاريخ هذه الثورة، وغياب أو ندرة البحث المنهجي الحديث، ربما لعدم اكتمال عملية التوثيق بجمع وترتيب وفهرسة وعرض الوثائق والدوريات والمصادر اليمنية والعربية والأجنبية الصادرة قبل وخلال أحداث الثورة، وربما لعدم توفر القناعة بضرورة كتابة الفترة السابقة للثورة بحيادية ومنهجية، وربما الاعتماد على كتب المذكرات الصادرة بعد الثورة، بما تحمله من مبالغات ومغالطات، جعل نتائج الأبحاث القليلة مضطربة لاضطراب مقدماتها ومصادرها. وهذا لا يعني انعدام المصادر نهائياً؛ فحينما حاولت التخلص من تلك العيوب والمضي في استقصاء المصادر وتوثيق الفترة الواقعة بين1955م و1962م، على الأقل في موضوع كهذا متعلق بالتيارات السياسية، وجدت نفسي غارقاً في توثيق ودراسة الشهرين اللاحقين للانقلاب فقط، فكم سيكون حجم الدراسة التي ستغطي سبع سنوات؟ هذا ما ولّد عندي قناعة بتوفر المصادر لمن يرغب البحث عنها.
ولم يعد هناك أي توجه رسمي لإخفاء المعلومات المتعلقة بعهد الإمامة. على الأقل بعد توحيد الشطرين. وأصبحت الأزمة متمثلة في غياب الرغبة الشخصية، أو حب المغامرة عند الباحثين، لصعوبة الحصول على المصادر من مواقعها المختلفة، أو ترجمة ما صدر منها بلغات أجنبية. وغياب أي توجه رسمي سريع للقضاء على الصعوبات، وإقرار مشروع توثيق، وتوفير، وترجمة. وتسهيلها لمن يرغب الاستفادة منها. فهل ستكون هذه المناسبة -العيد الذهبي- فرصة ذهبية لتدشين مرحلة جادة من التوثيق والدراسة العلمية التي يتوق إليها اليمنيون واستعادة الذاكرة التاريخية كبقية الشعوب المتخلفة فضلاً عن المتقدمة.
لهذا كان من الصعب إبراز بحث جديد في معلوماته، أصيل في تناوله عن التيارات السياسية اليمنية، ودورها في الثورة، في فصل واحد؛ فمن المؤكد أن كل حزب أو تيار أو شريحة اجتماعية بحاجة إلى دراسة مستقلة، تتمكن من تتبع بداياتها وجذورها ونشاطاتها وتحليل مواقف أعضائها وعلاقاتها وارتباطاتها بالقوى الداخلية والعربية والدولية. وبدون ذلك فإن الاختصار سيكون مخلاً، والحقائق ستكون نادرة، والعموميات ستفقد الدراسة أصالتها.
لقد تم التغلب على هذه الصعوبة بتقليص الفترة الزمنية، والاكتفاء بالوقوف أمام بداية الفترة ونهايتها، لرصد التحول أو الثبات في المواقف التي كانت معلنة في بدابة الفترة، أو بصورة أوضح المقارنة بين مواقف هذه التيارات بعد انقلاب عام 1955م وقبل اندلاع الثورة عام 1962م، تاركين التفاصيل والتعرجات الواقعة بينهما، والتي لا تحمل الدلالات المفيدة لأهداف الدراسة ذات القيمة التاريخية.
وحينما حددنا الفترة الزمنية للدراسة بين انقلاب 1955وثورة 1962، كان يستلزم إعطاء لمحة عن الانقلاب في هذا المدخل، وهو ما سبق تفصيله في دراستنا المفصلة عن انقلاب 1955م، يمكن - لمن يرغب - الرجوع إليها(1).
لقد فضلنا إلى جانب المبررات السابقة، دراسة الفترة القصيرة اللاحقة للانقلاب ومواقف التيارات خلالها، لوجود وثائق جديدة لم تنشر أو يتم الرجوع إليها، وتم إغفالها في معظم الدراسات السابقة، وبالتالي فإن دراسة هذه الأسابيع أو الفترة القصيرة تبدو ضرورية لمن يستهدف الربط وكشف التأثير المتبادل بين الحدثين، أو بعبارة أخرى إبراز الصورة الواضحة لإفرازات الانقلاب ونتائجه، وتشخيص المواقف وردود الأفعال للسلطة والمعارضة، وتحديد الحجم الحقيقي لتأثير الانقلاب في ظهور أو استمرار التيارات السياسية وتحديد مواقفها وبرامجها وأنشطتها وتفاعلها مع التطورات اللاحقة، مما يغني عن تتبع الأحداث والوقائع اللاحقة التي لم تغير في بنية هذه التيارات أو برامجها وأهدافها، فقد نجد أنفسنا أمام ضرورة المقارنة، بالإضافة إلى تجنيب الدراسة الجدل والمزايدات أو التسعف في دراسة وتوثيق تاريخ الثورة اليمنية.
وحينما نشير إلى مصطلح “التيارات السياسية” في هذه الفترة فنحن لا نعني - كما هو مألوف - حركة المعارضة اليمنية ونشاطاتها ضد السلطة، وإنما نعني جميع التيارات والقوى السياسية في السلطة والمعارضة، فقد أدت الدراسات المحصورة في رصد حركة المعارضة التقليدية فقط إلى خلط وتشويه وغموض؛ بل وتزوير وتحوير وتعسف، لا تصلح حتى للترويج الإعلامي. ولن نتمكن من دراسة وتوثيق الثورة والاستفادة من دروسها ما لم نتمكن من تحريرها من تلك العيوب بحيادية ومنطق.
وسنرى كيف كان “البدريون والحسنيون” - نسبة إلى البدر ابن الإمام وولي العهد، والى الحسن أخي الإمام ورئيس الوزراء - يعملون كتيارين فاعلين انتمت إليهما معظم القوى والتيارات السياسية داخل الوطن بما فيها المعارضة، وحصل كل تيار منهما على دعم وتأييد قوى إقليمية ودولية، وكانا خلف كثير من الأحداث والتطورات الإيجابية والسلبية؛ بل كانت مواقف بعض الأمراء في البيت الحاكم أكثر جرأة وتهكماً من مواقف المعارضة نفسها.
أما لماذا تم اختيار مصطلح “انهيار المملكة المتوكلية اليمنية” بدلاً من مصطلح “قيام الثورة اليمنية” كما كان مخططاً فيستند إلى مبررات موضوعية ومنها:
إن الإعداد والتنفيذ للثورة بأهدافها بما فيها التحول الجذري إلى النظام الجمهوري محصور بتيار “تنظيم الضباط الأحرار” خلال التسعة الأشهر السابقة على الثورة، وبالتالي فإن مقدار التنسيق بين هذا التيار السري مع التيارات الأخرى خلال هذه الفترة غير مؤكد، ويحتاج إلى تحليل ومناقشة خارج حدود هذه الدراسة.
إن مجرد التفكير الجدي في التحول إلى النظام الجمهوري قبل نهاية عام 1961م في برامج المعارضة تفتقر إلى الإثبات حتى من مصادر المعارضة الصادرة قبل الثورة، بينما حفلت بها المذكرات الصادرة بعدها مما يحتاج إلى التحليل النقدي الخارج عن قدرة الدراسة.
إن التفكير المتأخر في عملية التحول إلى النظام الجمهوري، لا يقلل من مكانة وجهود ونضال المعارضة في سعيها لإسقاط الاستبداد والتحول إلى نظام ديموقراطي في ظل إمام أو ملك عادل، بشكل دائم أو مرحلي، قد يكون البدر عند البدريين، وقد يكون الحسن عند الحسنيين، وقد يكون غيرهما بعد إضعافهما وتأجيج الصراع بينهما؛ أما تأييد الثورة والوقوف للدفاع عنها بعد قيامها، فموضوع طويل اشتركت فيه الكثير من القوى من قيادات السلطة وزعماء المعارضة مما هو خارج فترة الدراسة.
الشيء المؤكد أن التيارات السياسية بما فيها الأمراء والمعارضة قد ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في زيادة التداعيات وخلق سخط شعبي، الأمر الذي أنتج في النهاية انهيار النظام الملكي الإمامي، وجعل مهمة تنظيم الضباط الأحرار سهلة، وهو الموضوع الذي نستهدفه في هذه الدراسة.
بعد انقلاب 1955م نشأت تيارات جديدة، وتلاشت أو اندثرت تيارات أخرى، وانقسمت أو تطورت تيارات ثالثة ورابعة تبعاً لمواقفها، وارتباطاتها، والتبعات التي تحملتها، وكواحدة من النتائج التي أفرزها الانقلاب وآثاره والتي يمكن إيجازها في الفقرات التالية.
عندما حدد القاضي الإرياني هذه النتائج والآثار على المستوى الرسمي حصرها بالنتائج الآتية:
إعلان ولاية العهد رسمياً للبدر من قبل أبيه الإمام أحمد، وبذلك حسم مشكلة ولاية العهد.
إعدام الأمير عبدالله والعباس.
نفي الحسن إلى أمريكا.
سجن مجموعة من الأمراء الصغار.
قيام الإمام بإفساح المجال لابنه البدر للتحرك الخارجي(2).
وهذا التحديد يعطي انطباعاً بأن الانقلاب لم يخرج عن طبيعته العائلية، أو كما ذكر الإرياني نفسه في مكان آخر: إن الانقلاب تحت زعامة عبدالله والثلايا ليس إلا أحد إفرازات الصراع على ولاية العهد(3)، بين البدر والحسن أو بين الأمراء من أنصار الحسن، وبين المعارضة من أنصار البدر، وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن التيارات التي تصارعت على العرش قبل 1955م هي التي ستلعب نفس الدور بعد الانقلاب، بل إن الأحداث تمثل امتداداً واحداً منذ انقلاب 1948م بأسبابه وآثاره وتياراته، مع فارق بسيط هو أن انقلاب 1948م كان عريض القاعدة، خصوصاً أسر الهاشميين الطامحة إلى العرش، بينما كان انقلاب 1955م داخل الأسرة المالكة نفسها، وبالتالي فإن الصراع على العرش، أو وراثة العرش أو ولاية العهد مهما كانت التسميات، هو المحور الرئيس للأحداث أو المشكلة التي تطفو على السطح وتستأثر باهتمام التيارات السياسية اليمنية وتملي عليهم اتخاذ بعض المواقف حيالها.
وهذا لا يتناقض مع وجود تأثير للعوامل والقوى السياسية الوطنية والإقليمية والدولية، مثل حركة المعارضة التي كانت تؤثر على كثير من الأحداث، والصراع اليمني البريطاني على المحميات، والتكتلات العربية والدولية التي صاحبت هذا العام مثل: حلف بغداد ومؤتمر باندونج وبداية الحرب الباردة والتي سيكون لها تأثير لاحق على التيارات السياسية اليمنية، ويمكن إجمالاً إضافة النتائج الآتية:
إغلاق ملف انقلاب 1948م وإطلاق بقية المعتقلين من سجون حجة، والذين سيشكلون جزءاً من قوام التيارات الفاعلة المستهدفة في هذه الدراسة، معالجة مشاكل الحوبان وتعويض المتضررين شكلياً.
ظهور الجيش كقوة سياسية فاعلة تستأثر بالاهتمام تنظيماً وتسليحاً. حتى تمخض عنها تنظيم الضباط الأحرار بعد ست سنوات تقريباً، استمرار انقسام الأسرة المالكة وتأثير هذا الانقسام على ظهور تيارين جديدين هما البدريون والحسنيون.
الانقسام العميق في المعارضة اليمنية لاختلاف موقف قادتها من الانقلاب وظهور الأحزاب السياسية الجديدة، حدوث تطور شكلي في بنية السلطة ومؤسساتها.
تطور أسرع من ذي قبل في مشروعات البنية التحتية والتنموية في مجال الطرقات والكهرباء والمواصلات ومصانع النسيج.
تلك على ما يبدو هي أهم النتائج والآثار التي أبرزتها المصادر أو تم استنتاجها من الوقائع التالية للانقلاب وفيها كما هو واضح من العمومية والاختصار ما يفقدها قيمتها التاريخية ما لم تُقدم ضمن التطورات التي أفرزتها. وحيث إن ما يهمنا هو رصد وتتبع التيارات السياسية، وإيضاح تأثيرها على انهيار النظام الملكي، وإفساح المجال للنشاط الثوري.
وقبل ذلك هناك تساؤل أكثر أهمية وهو: هل استمرت الاضطرابات والحوادث والتفجيرات أو محاولات جديدة لانقلاب آخر؟ هل نشأت هذه التيارات في ظل اضطرابات مستمرة أم أن سقوط الانقلاب قد وضع حداً للمخاوف الأمنية وأتاح مناخاً سياسياً مستقراً؟ وما هي المشاعر التي سيطرت على الشعب والمطالب التي عبر عنها المثقفون في الوسائل المتاحة؟
يمكن إبراز التيارات بعد إلقاء نظرة على المناخ السياسي في تعز وتحديد موضوع البحث في المحاور الآتية:
المناخ السياسي وبنية السلطة واستمرار الاضطرابات.
التيار العسكري “الجيش” وتشكيل تنظيم الضباط الأحرار.
البدريون والحسنيون ودور الأسرة المالكة في التداعيات.
حركة المعارضة اليمنية وتياراتها
المناخ السياسي واستمرار الاضطرابات
في اليوم التالي لسقوط انقلاب 1955م واعتقال قياداته، وقبل إعدامهم وجه الإمام أحمد بياناً مختصراً تم توزيعه برقياً إلى كل النواب والأمراء في المحافظات والعمال وكبار موظفي الدولة في القضوات والنواحي جاء فيه:
“اعلنوا للعموم أنه قد كان العفو منا عن العموم العفو المطلق فيما كان من الفتنة التي أثارها الباغي السيف عبدالله وأعوانه خدمة النصارى، وإرادتهم إذلال اليمن وأهله، وإماتة الإسلام والمسلمين، فليُعلن للجميع والحمد له سبحانه على إخماد الفتنة وليحذر الجميع الخوض فيما لا يعني، وإن من خالف هذا أو ساعد هواه الشيطان بعد الأمان، فلابد من إجراء اللازم في حقه، أصلح الله شأن الجميع، وبارك لهم في الأحوال والأموال، وعجل برحمته الواسعة على البلاد والعباد”(4).
ربما لم تصل هذه البرقيات إلا وقد علم الجميع بعودة الإمام أحمد إلى السلطة وسقوط الانقلاب فتجاوبت معه ردود الأفعال المختلفة، ويمكن تلخيص ردود الأفعال والأصداء والفعاليات الرسمية بالمظاهر الآتية:
-1 شهدت تعز وعواصم الألوية والقضوات والنواحي احتفالات بالنصر، تضمنتها الكلمات والقصائد وإشعال النيران على السطوح.
2 - احتشد في تعز وحولها عدد كبير من رجال القبائل المسلحة تحت قيادة مشايخها الذين توافدوا إلى تعز لنجدة الإمام أو التهنئة بالنصر مع عدم اليقين إن كان من بينهم من وصل مدداً لقيادة الانقلاب، فلما سقط الانقلاب تحولوا لتهنئة الإمام بالنصر مثلما ذكر أبو أصبع عن دور أبيه(5)، ومثلما ذكر سنان أبو لحوم عن دوره(6).
-3 وصل إلى تعز عدد من الوفود الداخلية والخارجية لتهنئة الإمام وتأييده وبعضهم كان موفداً إلى قيادة الانقلاب؛ فلما سقط الانقلاب تحولوا إلى وفود تأييد مثل محسن العيني الذي كان موفوداً من الزبيري إلى الثلايا، فلم يصل عدن إلا بعد سقوط الانقلاب(7).
4 - احتشدت جموع غفيرة من المواطنين في ساحات الإعدام في تعز عدة أيام تشاهد عمليات الإعدام وتهتف للإمام وتستمع إلى خطاباته وتشتري صور الإعدامات التي كانت تباع على نطاق واسع.
وإلى جانب هذه الفعاليات فقد امتلأت أعداد الجرائد الرسمية الصادرة في تعز وصنعاء “الإيمان والنصر وسبأ” طوال الفترة التي أعقبت سقوط الانقلاب بتقارير عن الفعاليات التي كانت تقام في كل منطقة وبرقيات التهاني، وقصائد للشعراء، والمقالات المعبرة عن الإعجاب بدور الإمام في إسقاط الانقلاب، وكذلك تأييداً للإمام أحمد، على إسناد ولاية العهد للأمير البدر، ووصف مزاياه، إلى غير ذلك مما يزيد عن حجم هذا التلخيص الذي لا يمنع من الاطلاع على تفاصيل هذه الفعاليات في المصادر المذكورة.
لقد كان هذا التنوع في الفعاليات ووسائل التعبير نتيجة طبيعية للتحولات والمواقف التي صاحبت الانقلاب، إما للتدليل بها على الولاء، أو لتبرير تصرف، أو للهروب من تهمة، ولهذا اتجه اهتمام هذه الدراسة إلى تتبع الآثار السلبية التي تضررت منها السلطة أو الشعب أو أشخاص أبرياء، فكثيراً ما تم استغلال مثل هذه الأحداث للقفز إلى مناصب جديدة، أو لتصفية حسابات قديمة، أو استغلال النفوذ فينجو من كان متورطاً، ويتورط من كان بريئاً بحكم فعالية الدسائس والوشايات.
أما عن تطلعات الشعب في الداخل ومطالبهم بعد الانقلاب، وعن وجهة نظرهم في الانقلاب بأسبابه ونتائجه، والآلية المقترحة لمعالجة آثاره، فيمكن التعرف عليها من خلال الطبقة المستنيرة في تعز التي نشرت آراءها بعد الانقلاب، ومنها ما نشرته سبأ بعنوان:”أعلنت ولاية العهد رسمياً فما بعدها”؟ لكاتبه محمد خالد العبسي، حيث قال فيه:
“إنها الكارثة التي كان يتوقع حدوثها معظم اليمنيين المتتبعين لشئون اليمن، وتطوراتها السياسية أثناء الأربع السنوات الماضية، وكنا نحذر الإمام بكل ما نشعر ونلمس من همسات ومؤامرات تحاك في الظلام، وكان تحذيرنا بقدر ما كانت تسمح لنا به الظروف من إمكانات،”كما أن بعض اليمنيين كانوا كثيراً ما يلمحون لجلالته بذلك بشتى الوسائل، وبواسطة الصحف الخارجية بقدر المستطاع”.
“لقد دار الفلك دورته المشئومة، ولعبت الأيدي المعتدية على حقوق شرعية ليست حقوقها، من وراء الستار، فهددت وتوعدت كل من تعرف أنه يحمل فكرة سليمة معقولة يسعى لتحقيقها، وسعت هذه الأيدي لدى أذنابها في جميع الأصقاع لتحطيم معنوية من يحمل نفس هذه الفكرة المعقولة والتقليل من شأنها”.
“لقد رفع الستار وظهرت النوايا العدائية والحزازات الدفينة والتنافس المزمن في وقت تكاد أن تتصدع فيه الجامعة العربية أمام المؤامرة الغربية، والتيارات الأجنبية، وفي فترة حرجة نحن في أمس الحاجة فيها إلى التعرف والوقوف صفاً واحداً أمام العواصف الأجنبية الزاحفة نحو الجزيرة العربية”.
“نطالب اليوم ولا نحذر بإيقاف تفشي النعرة الطائفية التي استغلت في العامين الماضيين لصالح شخصيات معينة، ولتنفيذ رغبات ذاتية خاصة، وما الرؤوس التي سيقت إلى المقاصل إلا آلة صماء تحركها أيدي قوية في كهوف الظلام، ومع هذا فإن الظروف قد هيأت للدساسين والمنافقين فرص الوشاية والإضرار ببعض الناس لحزازات دفينة وأغراض شخصية، فلابد من التحقيق الدقيق حتى لا تذهب شخصيات بريئة ضحية جرم الآخرين”.
“والمطلب الأخير: أن يمنح ولي العهد صلاحيات واسعة وسلطة تنفيذية في جميع مرافق الدولة الداخلية والخارجية حتى يتسنى للشعب اليمني أن يعرف ملكه المهيأ لحكمه في المستقبل”، “أما إعلان ولاية العهد ويتبعها السكوت والهدوء فلن يكون سوى عامل يمهد السبيل لقيام العاصفة من جديد ولو بعد حين”(8).
لقد حرصت على إيراد معظم المقال؛ لأنه يصور المناخ السياسي الذي نشأت في ظله عوامل الانقلاب، والمناخ الذي صاحبه وأعقبه، والمطالب التي يعتبرها المثقفون هي المعالجة الصحيحة لمنع تكرار الانقلاب والتي يحصرها في منع تفشي النعرة الطائفية، ومنع الدساسين والمغرضين من الإيقاع بالأبرياء، ومنع مركزية السلطة ومنح سلطات حقيقية لولي العهد. كما يصور المقال الظروف اليمنية والعربية والدولية التي أحاطت بالانقلاب من مؤامرات دولية على الجامعة العربية وأطماع استعمارية ونحوها.
والأهم من هذا أن المقال يعتبر أثراً من آثار الانقلاب؛ إذ يدل على مناخ جديد لم يكن مألوفاً في حرية النصح وعلنيته، في حين كان يتم الاقتصار على التلميح من خلال الصحف الخارجية كما أشار المقال نفسه.
وفعلاً اتسعت دائرة الاتهامات والاتهامات المضادة فشملت الاعتقالات والزج في السجون إلى جانب الأمراء، عدداً من الشخصيات الاجتماعية من محافظات مختلفة.
ويروي أبو أصبع قصة مشابهة لأبيه وهو أحد مشايخ لواء إب؛ إذ فوجئ بثلة من الجنود الذين أرسلوا من قبل نائب إب القاضي أحمد السياغي لإحضاره والزج به في السجن بناءً على وشاية من الشيخ حسن محمد علي سلام الذي استغل تواجده في ذي السفال خلال أحداث الانقلاب فقدم به بلاغاً إلى نائب إب متهماً إياه بأنه ضمن المتآمرين في الانقلاب (9).
كما شملت هذه الاتهامات بعض البعثات الديبلوماسية الموجودة في تعز، ومن كان لهم بها علاقة اتصال من أي نوع، ومن هذه البعثات المفوضية البريطانية في تعز؛ فقد ذكر القائم بالأعمال البريطاني في تقريره المؤرخ 12أبريل1955م أن هناك محاولات لاتهام المفوضية بالاشتراك في الانقلاب ومن هذه الاتهامات:
تقدم موظف لبناني في وزارة الخارجية اليمنية ومعه اثنان من المدرسين المصريين المقيمين معه في دار الضيافة الملاصقة للمفوضية البريطانية بمعلومات أكدوها باليمين، بأن القائم بالأعمال البريطاني قد أطلق النار من المفوضية خلال القتال بين الإمام ومعسكر الانقلاب.
التهمة الثانية حول المذكرة التي أرسلها الإمام عبدالله مع سكرتير الخارجية “علي رجا” يطلب طائرة من سلاح الجو البريطاني للتحليق فوق تعز، وأن القائم بالأعمال قد ساعده فأرسل الطلب برقياً إلى عدن مع توصية بتلبية الطلب.
وينفي القائم بالأعمال التهمتين المنسوبتين إليه، مؤكداً أن ضابط المفوضية والجنود قد أوضحوا للإمام كذب المعلومات التي أدلى بها اللبناني والمدرسان المصريان، ولا يعرف ما هي الاعترافات التي سيدلي بها “علي رجا” الذي تم اعتقاله وهو في طريق فراره إلى عدن عند نقطة الراهدة، كما أنه لا يعرف ما هي الإجراءات التي سيتخذها الإمام ضد المفوضية(10).
ويبدو أن الإمام لم يتخذ أي إجراء ضد المفوضية البريطانية بدليل أن علي رجا قد أُطلق بعد أيام من اعتقاله وعاد إلى منصبه السابق سكرتيراً للخارجية اليمنية، وتم تكليفه بعدة مهام خارجية الشهر التالي للانقلاب (11).
غير أن حالة من الذعر قد سيطرت على كل من كان له سابق اتصال بالمفوضية البريطانية، حتى إن القائم بالأعمال يذكر أنه لم يعد يتصل به من كان له سابق اتصال علني، إلا إذا كان خلسة (12).
وحتى أولئك الذين لم توجه إليهم أية تهمة فقد سيطرت عليهم أيضاً حالة من القلق على مستقبلهم خصوصاً من كان لهم أدنى علاقة سابقة بالأمير عبدالله أو قيادة الانقلاب، ومن هؤلاء موظفو الخارجية اليمنية الذين دفعهم الخوف إلى الاقتراح على القائم بالأعمال البريطاني التوسط له وحضور أي حوار مع الإمام يتعلق بهم قبل أن يعين الإمام مسئولاً عليهم يسيء معاملتهم(13).
إن اعتماد الإمام على بعض الوشايات وتصديقها وعدم اعتماد آلية دقيقة للتحقيق وغربلة المعلومات قد جعلته يعيش في حالة شك من كل المحيطين به، عكست نفسها على إجراءاته المضطربة والمترددة والتي تعتبر صورة لسياسته الداخلية والخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بعلاقته مع كل من:
الأمير البدر وأتباعه.
الأمراء وعلى رأسهم الأمير الحسن.
المعارضة اليمنية وخصوصاً أنصار البدر كالنعمان والشامي.
السياسة الخارجية واضطراب علاقته مع السعودية ومصر من جهة ومع بريطانيا وحلف بغداد من جهة أخرى.
وقد زاد من هذا الاضطراب والتردد أن التفجيرات والمنشورات استمرت بعد الانقلاب، فبعد إعدام الأميرين عبدالله والعباس لم تحدث أية إعدامات علنية جديدة في تعز أو غيرها.
غير أن مصادر أخرى قد ذكرت أن شخصين مجهولين تم إطلاق النار عليهما بأمر من الإمام في حدائق المقام في العرضي في يوم26 إبريل 1955م(14). ورغم أنه لم يعرف هوية هؤلاء، ولا مبرر إعدامهما قرب قصر الإمام فقد توقفت رسمياً كل الإعدامات وإن اتسعت دائرة الاعتقالات والاتهامات كما أسلفنا إلا أنها تشير إلى استمرار الاضطرابات.
إن هذه الاضطرابات قد عكست نفسها على مشاعر الشعب، فبرغم الهدوء الذي خيم على مدينة تعز بعد الإعدامات العلنية إلا أن المشاعر لدى السكان قد تراوحت بين الخوف والأمل كما يصفها تقرير بريطاني والذي وصفها بالقول:
“أما مشاعر الأمل فقد كانت نابعة من الاعتقاد بأن الإمام ربما بمساعدة ولي العهد البدر سيتمكن من القيام ببعض الخطوات الإصلاحية والمشروعات التنموية للبلاد، خصوصاً أن صحافة القاهرة قد ذكرت بأن الإمام أحمد خلال مباحثاته مع البعثة المصرية والسعودية التي زارت اليمن من 7-9 أبريل قد أبدى رغبته في إخراج اليمن من عزلته الحالية وإجراء بعض الإصلاحات بمساعدة مصر والسعودية، كما أشيع أن الإمام يحضر لتشكيل حكومة جديدة”(15).
بل إن البدر قد أصدر تصريحات أخرى في مصر ضمنها الكثير من الطموحات والوعود الكبيرة، وأن قسوة الإمام سيتم استخدامها لإجراء الإصلاحات في اليمن، كما أشيع حينها بأن الإمام قد كلف البدر بعقد معاهدات مع جمال عبدالناصر والحكومة المصرية حول التعاون بين البلدين، وكان المتوقع أن يعتمد على السعودية ومصر في إجراء الإصلاحات (16).
وبالنسبة لمشاعر الخوف التي سيطرت على الناس فإنها نتيجة طبيعية للإعدامات وحملة الاعتقالات التي أعقبت الانقلاب، والخوف مما ترتب عليها من ردود أفعال ساخطة واضطرابات جديدة ربما تبناها الأمراء والجيش كرد فعل عملي لإعدام الأميرين والضباط، وبالفعل سجل أحد التقارير البريطانية حوادث جديدة حدثت خلال النصف الأول من شهر مايو منها: حادثتا إطلاق نار في قصر الإمام وفي وقت الصلاة، كانت الأولى من بندقية موجهة نحو القصر من خارجه، لم يتضرر منها أحد، ولم يعرف من هو الذي أطلق النار.
أما الحادثة الثانية فقد كانت محاولة قتل الإمام نفسه من قبل أخته شقيقة الأمير عبدالله التي حاولت إطلاق النار على الإمام من مسدس انتقاماً منها لإعدام أخيها، ولكنها فشلت، وتم القبض عليها، وغلها بالقيود وتم إرسالها إلى سجن النساء بصنعاء.
ويعلق القائم بالأعمال البريطاني على الحادثة الأخيرة بأن الإمام قد تصرف بتهور وصلافة بدلاً من استخدام الحكمة التي كان هذا الموقف يقتضيها.
ويستطرد أيضاً بأن الإمام قد أمر بتخفيض الرواتب لعدد من الضباط والجنود حتى شملت هذه الإجراءات حرسه الخاص، وقد ترتب على هذه الإجراءات انتشار إشاعات في تعز عن توقع حدوث انقلاب آخر خلال الفترة الواقعة بين 10-20 مايو 1955م(17). ويبدو أن هذا التخفيض في الرواتب لم يكن إلا إلغاء الزيادة التي أمر الإمام بإضافتها على رواتبهم قبل الانقلاب، وهو ما أكده حسين حمود سعدان بحيث ارتفع إلى تسعة ريالات من كان راتبه خمسة ريال(18)، كما سبق تأكيده أيضاً من خلال تقرير بريطاني سبقت الإشارة إليه في مكان آخر(19).
من الصعب تتبع جميع الأحداث اللاحقة غير أنه يمكن حصر أهم الأحداث الواقعة بين الانقلاب وأول تشكيل حكومي، وهي فترة ستة أشهر، على النحو الآتي :
1 في شهر إبريل تم حسم تقرير مصير المتورطين في الانقلاب (إعدامات، اعتقالات، وإطلاق من تبقى من عام1948م).
2 في شهر مايو تمت معالجة أوضاع الجيش وتسكين اضطراباتهم.
3 في شهر يونيو تمت معالجة وضع الحسن وإقالته من رئاسة الوزراء وبعثه إلى أمريكا.
4 في شهر يوليو غادر النعمان اليمن إلى السعودية، ومنها إلى مصر لاجئاً سياسياً بعد توتر علاقته بالإمام.
5 في شهر أغسطس توترت العلاقات اليمنية المصرية، وحدث تحسن في العلاقات اليمنية - البريطانية.
6 في شهر سبتمبر أعلن تشكيل الحكومة، والهيئة الاستشارية.
هناك العديد من الدوافع والمبررات لإعادة تشكيل السلطة، والتي تحمل إلى جانب ذلك عدداً من الدلالات التاريخية التي يمكن استخلاصها من المرسوم الملكي والذي ورد كما يلي:”وبعد حمد الله أستمد الإعانة والتوفيق منه تعالى، فإنه عطفاً على المرسوم الصادر منا إلى الديوان الملكي رقم (1) بتاريخ 24شوال سنة 1374ه 15يونيو 1955م، وبناءً على رغبتنا الصادقة في تغيير الأوضاع والأشخاص في حكومتنا المتوكلية حتى تكون على الوضع الذي نراه أكفل للمصلحة العامة، وأضمن لإعلاء سمعة الدولة، ورفع كيانها، ومسايرة للزمن في تطوراته، وسيراً في مصاف الحكومات العربية الشقيقة، تلك الرغبة التي جاءت نتيجة لطول تفكيرنا في تحقيق ما نتوخاه من الخير لبلادنا والرفاهية لشعبنا، فقد أمرنا بتشكيل هيئة استشارية برئاسة ولدنا الأمير سيف الإسلام ولي العهد حفظه الله، ومؤلفة من الولد حمود الوشلي، والولد أحمد محمد زبارة، والولد عبدالله بن عبدالكريم، والولد زيد يحيى عقبات، والقاضي محمد عبدالله العمري، والقاضي محمد عبدالله الشامي، والقاضي أحمد السياغي، والقاضي عبدالرحمن الإرياني، والقاضي عبدالله المجاهد الشماحي، والقاضي عبدالله عبد الإله الأغبري. وكلفناهم بدراسة الأحوال مقترنة بالنظر إلى ما تقتضيه وضع بلادنا اليمنية وإمكاناتها، وتتفق وتقاليدها وعاداتها، وتنظيم ما يدعو إليه صالح الشعب والحكومة معاً، وقد رفعت إلينا هذه الهيئة ما استحسنا تقريره، فأمرنا بإعادة تشكيل الحكومة على النحو التالي:
نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية ووزير الدفاع: سيف الإسلام ولي العهد محمد البدر
وزير الداخلية: القاضي أحمد أحمد السياغي.
وزير المالية: القاضي عبدالرحمن السياغي.
وزير العدل: القاضي أحمد بن أحمد الجرافي.
وزير المواصلات: سيف الإسلام القاسم، ونائبه عبدالله الحجري.
وزير الزراعة: محمد حسين العمري.
وزير المعارف: سيف الإسلام علي، وينوب عنه عبدالقادر بن عبدالله.
وزير الدولة: نائب وزير الخارجية: القاضي محمد عبدالله العمري.
وزير دولة: الولد حسن بن علي بن إبراهيم.
وكيل وزير الخارجية الدائم: القاضي عبدالله بن عبدالإله الأغبري.
وزير دولة: الولد عبدالرحمن عبدالصمد أبو طالب.
وزير دولة: القاضي محمد عبدالله الشامي.
مدير مديرية الصحة العامة: الولد إبراهيم محمد بن إبراهيم، وينوب عنه القاضي يحيى العمري.
مدير مديرية الاقتصاد والصناعة والتجارة: الصنو يحيى بن حسين شرف الدين، وينوب عنه القاضي أحمد حسن السرحي.
مدير مديرية الأشغال العامة والإنشاء والتعمير: الشيخ محمد علي عثمان، وينوب عنه الولد حسين الويسي.
مدير مديرية الأوقاف: القاضي الظرافي.
“فعلى نائب رئيس الوزراء العمل بمقتضى هذا المرسوم، وتنفيذه متعاوناً مع أعضاء الوزارة، وعلى كل وزير ومدير التعاون مع زملائه وتقدير الثقة التي وضعناها فيهم والعمل على ما فيه المصلحة العامة، وصون رعايانا من كل تغريم وضرر وجور، والسير في كل عمل، طبقاً لما تهدي إليه الشريعة الإسلامية الغراء، وتقضي به تعاليم القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ونشر العدالة التي هي غايتنا، وقد أخذنا عليهم عهد الله وميثاقه في الصدق في القول والإخلاص في العمل، والنصح لله ولرسوله ولإمام المسلمين وعامتهم، والعمل على ما فيه إسعاد رعايانا، وجلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم، وأن تكون المصلحة العامة هي الغرض الأول والأخير لكل واحد منهم، وأن يجعلوا نصب أعينهم المحافظة على استقلال البلاد والذود عن حماها وتنمية مواردها والجد في كل ما يعود بالخير على أهلها والله يوفق الجميع.
10محرم سنة 1375ه (30 أغسطس 1955م )(20).
وقد علق القائم بالأعمال البريطانية في تعز على هذه التشكيلة بالقول: إنها لم تلاق الحماس المتوقع؛ إذ كان المعروف سابقاً بأن الإمام كان يخطط لإعادة تنظيم السلطة، وبعد إعلانها عبر التقدميون والأحرار عن خيبة أملهم، إذ إنهم كانوا يتمنون ويأملون إيجاد تغيير حقيقي، لكن القائمة المعلنة لم تزد عن كونها تبديل مواقع، بالإضافة إلى أن الإمام لم ينص في مرسومه على أنه سيمنح الحكومة سلطة قانونية أو دستورية حقيقية، فهو مستمر باتخاذ القرارات الصغيرة والكبيرة بنفسه، وأصبح الوزراء مستشارين فقط أو قنوات للاتصال ومن المحتمل أن يستمروا كذلك(21).
أما المعارضة اليمنية في القاهرة فقد أصدرت عدداً من الأدبيات، من ضمنها دعوة الأحرار للزبيري علق فيه على التشكيل الحكومي بقوله:”يقولون: نحن واقعيون ويجب أن نعيش الواقع الراهن كيفما كان.. ونحن نقول لهم إنكم انتهازيون”. ويقولون:”إن الإمام أحمد رئيس الوزراء قد ألف وزارة، وهذا هو مطلبكم. فنقول لهم: إن الشعب يعرف أنها مهزلة ولا وجود لوزارة”(22).
ثم أصدر الاتحاد اليمني مشروعاً للنظام السياسي المقترح أطلق عليه اسم “مطالب الشعب” حيث احتوى هذا المشروع على عدد من المطالب والمبادئ وهي:
1 المطالب القومية وتتضمن المبادئ الآتية:
أ- الملك يملك ولا يحكم.
ب- تأليف حكومة انتقالية من أبناء الشعب تقوم بإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية.
ج التزام الحكومة الانتقالية بالميثاق الوطني المرفق كدستور مؤقت أمام الشعب الممثل في الجمعية التأسيسية.
2 وفي الصفحات 6،7،8، احتوى على مهمات الحكومة الانتقالية والجمعية التأسيسية.
3 وفي الصفحات:9-17 تضمن الميثاق الوطني المحتوى على 40 مادة تتضمن الحقوق والواجبات.
4 وفي الصفحات: 18-30 تضمن النظام اللامركزي، بما فيها مزايا اللامركزية، وأسسها، ومالية الحكومات المحلية (23).
وفي توضيح (النظام اللامركزي) ينص المشروع على أنه “يرى الأحرار أن يعاد تنظيم الدولة على أسس اللامركزية، وهم في هذا ليسوا مبتدعين، وإن كانت ظروف اليمن تفرض الأخذ بهذا النظام فقد سبقتهم إلى ذلك كافة الأمم، بل إن اللامركزية كانت من الأسس التي أقام عليها الإمام يحيى دعوته الشعب اليمني إلى مقاومة الأتراك، وكان يعلن تعهده بأن يحكم أهل كل منطقة أنفسهم، غير أن الإمام يحيى لم يكن جاداً في الأمر، وإنما كان يصدر ذلك كلون من ألوان الدعاية لحكمه الجديد، حتى إذا تمكن وتسلط وهدم ما كان قد بدأ الأتراك في تثبيته من أسس اللامركزية في البلاد..
“إن مشكلة الإدارة في الحكم في اليمن تتبلور في أن السلطة متجمعة في يد واحدة، وهي ما تسمى تجوزاً بالحكومة، والأخذ بالأسس الحديثة في تنظيم الدولة يستلزم توزيع الاختصاصات بين الحكومة المركزية والهيئات المحلية”(24) .
وقد تم طبع وتوزيع “مطالب الشعب” عن طريق دار الجنوب للنشر والتوزيع في عدن، حيث علقت عليه المفوضية البريطانية بعد ترجمته كله إلى اللغة الإنجليزية بأن هذا الدستور الذي أصدره الأحرار اليمنيون موقعاً من قبل الزبيري ونعمان قد طبع في عدن فبراير سنة 1956م.
ولا يعرف كم نسخة تم نشرها، غير أن من المؤكد أن بعض الأشخاص قد سجن لحيازته نسخة منه في تعز، ويعتقد أن هذه المقترحات غير قابلة للتطبيق؛ لأنه ليس في مقدور اليمنيين آنذاك تكوين نظام ديمقراطي برلماني يستمر لعدة سنوات، بل ومما يقلل من قيمة هذا المشروع أنه لم ينص على الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها للانتقال إلى مجال تطبيق هذه المط الب.
والنتيجة الوحيدة التي يمكن الخروج بها من هذا المشروع أنه قد أثار موجة من السخط والاستياء الشعبي على الإمام، ويعتقد عموماً أن هذه المحاولة أفضل من عدة محاولات سابقة رغم وجود التناقض والتكرار وغموض الرؤية، وأحياناً وجود نصوص بلا معنى وهو ما يثير الشك حول قدرة مثل هؤلاء على الإقدام على ثورة ناجحة دون أهداف سابقة، ويذكر أن دار النشر العربي في عدن قد انتقدت هذا الدستور واعتبرته مجرد نسخة من الدستور المصري(25).
الجيش وتنظيم الضباط الأحرار
هل كان انقلاب 1955م حافزاً للجيش في أن يتقدم الصفوف الأولى ويلعب الدور الأكبر في الحركة الوطنية المناهضة للإمام أحمد؟ أم كان الانقلاب ضربة قاصمة زرعت في العسكريين روح الهزيمة والاستسلام والخضوع والخوف من المصير الذي قابله زملاؤهم من ضحايا الانقلاب؟
من خلال الوضع العام السائد في تعز خلال الشهرين اللاحقين للانقلاب رأينا كيف استمرت الحوادث والاضطرابات التي أوحت للإمام بأن الجيش خلفها، فأمر بتخفيض الرواتب التي أحدثت توتراً بحدوث انقلاب آخر.
ونتيجة لذلك بدأ الإمام كما يبدو بعد تخفيض الرواتب بتطهير وتصفية بعض وحدات الجيش النظامي “القناصة” فقام باعتقال وسجن عددٍ من الضباط، كما أمر بنقل المسئولين أو المشتركين في حوادث الحوبان مع عدد آخر من الضباط والجنود إلى صنعاء، كما أمر بإيقاف بعضهم عن العمل، وكان الاعتقاد السائد حينها أن الإمام كان يرغب بإعادة تنظيم الجيش وتطويره لتحسين خدماته الدفاعية بواسطة البعثة المصرية الموجودة في اليمن (26).
وقد صرح زبارة لأمين سر المفوضية المصرية بأن الإمام أحمد قد قرر تسريح عدد من الجنود داخل الجيش المشتبه بهم، وهم “200” من القناصة و”300” من النامون “النموذجي” مع زيادة لأفراد الجيش خمسة ريالات، ونصف مرتب إكرامية منه لكسب ولاء الجيش(27).
ربما إن عملية إعادة تنظيم الجيش كانت تمثل رغبة الأمير البدر، أما الإمام فربما كانت خبرته القاسية مع الجيش النظامي قد جعلته يولي عنايته للجيش البراني؛ إذ رفع مرتباتهم الشهرية من الحد الأدنى الذي كان يتراوح ما بين 4-5 ريالات، إلى 10-15ريالاً خلال الثلاثة الأشهر التي أعقبت الانقلاب بالإضافة إلى صرفيات يومية من الحبوب، وكان معظم هؤلاء مجهزين بسلاحهم الشخصي، ويتم تزويدهم بالذخيرة من قبل الحكومة وكانوا يتمتعون بحرية في أعمالهم وتحركاتهم أكثر من الجيش النظامي(28).
باستثناء تلك الحوادث الفردية لم يحدث خلال شهري إبريل ومايو أي حادثة جديدة، غير أن القلاقل بدأت تنمو من جديد خلال شهر يونيو 1955م “الشهر الثالث لسقوط الانقلاب”، وأصبح الرأي العام في تعز يعبر عن عدم الرضا والارتياح للوضع الذي تعيشه البلاد، لاعتقادهم أن الإمام ليس لديه قناعة بأهمية الإصلاحات، وبالتالي انتشرت شائعات جديدة بقرب حدوث انقلاب آخر خلال أيام معدودة، الأمر الذي أفزع السكان في تعز، وجعلهم يتحركون لمغادرة المدينة من جديد، بعضهم مع عوائلهم وبعضهم أرسلوا عوائلهم فقط والبقية كانوا على أهبة الاستعداد.
وقد عبر المسئولون الحكوميون عن استعدادهم للدفاع عن الإمام هذه المرة، أما الجنود فقد أظهروا تذمرهم من حالتهم المعيشية، كما انتشرت عدد من المنشورات في المساجد تضمنت تحذيرات موجهة للإمام بعدم تجاهل مطالب المتذمرين أو المتظلمين المجهولين دون تحديد لهوياتهم، على الرغم من الاعتقاد السائد أنها صادرة عن الجيش لكسب حماس الناس، ولفت النظر إلى حالتهم المعيشية بعدما فقدوا التعاطف الجماهيري معهم خلال الانقلاب.
وقد ترتب على ذلك استمرار الإمام بنقل بعض الضباط إلى صنعاء، وإلقاء القبض على بعض أتباعه من الجيش غير النظامي والحرس الملكي الذين كان الإمام يشك بوجود دعم من قبلهم للأمير عبدالله، كما قام بجمع الذخيرة المحفوظة في قصوره ومخازنه حتى لا يتمكن الجيش من استخدامها إذا فكر في انقلاب آخر(29).
ويروي الأستاذ الناظري أن ثمانين جندياً تعاهدوا حينها على أن يعيدوا الكرة بانقلاب جديد على الإمام، فانتقل الإمام حينها إلى دار الناصر وأصدر توجيهاته إلى المقدم أحمد الآنسي بترحيلهم إلى صنعاء، وأمر بصرف راتب شهرين لهم مقابل رحيلهم، وقبل سفرهم رددوا زاملاً من إنشائهم قالوا فيه:
قالها البداع من صلب ناجي
خاطرش (30) يا ساحة الجحملية
خاطرك يالمام (31) من قلب شاجي(32)
ما أمور إلا وتصبح جلية.
فوصل نص الزامل إلى الإمام فأمر بتأخير سفر الذي أنشأ هذا الزامل عن رفاقه وأكرمه بمأمورية إلى ريمة(33). وحينما انتقل الجيش إلى صنعاء أحدث هناك مشاكل وحوادث جديدة تحت مبررات عديدة، منها عدم اقتناعهم بنوعية الحبوب التي صرفت لهم كتغذية، فاقتحموا مخازن الحبوب، وجهزوا أنفسهم بنوعيات جيدة، ولما علم الإمام بالمتاعب التي يثيرها بعض أفراد الجيش أصدر توجيهاته إلى أمير جيش صنعاء لإرسال بعضهم إلي البيضاء على مناطق الحدود وإرسال آخرين إلى مناطق متفرقة(34).
وذكرت بعض التقارير أن الجنود رفضوا الذهاب قائلين: إن الإمام لا يذكرهم إلا عندما يحتاجهم في مشكلة، فأرسل الإمام أحد كبار المسئولين إلى صنعاء للتحقيق في القضية، غير أنه عاد فاشلاً، مما اضطر الإمام إلى إرسال ولي العهد البدر في 15يونيو 1955م للقضاء على اضطرابات الجيش وحسم المشكلة، مع الإقامة في صنعاء لمتابعة التطورات(35). وفي نفس الوقت الذي انتقل فيه البدر إلى صنعاء وجه الإمام باستدعاء عدد يتراوح بين 2000 إلى 3000 مقاتل من قوة الدفاع القبلية وتوجيهها إلى صنعاء لحفظ النظام، لعدم اطمئنانه إلى الجيش النظامي فيها (36).
على ما يبدو أن التذمر قد ساد الجيش خلال فترة الثلاثة الأشهر التالية لسقوط الانقلاب، وأصبح ولاؤه موضع شك الإمام، وحسب المصدر فقد أوقف فرقة من الجنود في تعز لرفضهم التحرك إلى البيضاء، وأشيع بعدها أن أغلب هؤلاء قد هربوا إلى المملكة السعودية مع بعض الفارين من ضباط الجيش لطلب الأمان(37).
وتذكر الوثائق البريطانية أن الشعور المعادي للإمام قد بدأ يطفو على السطح من جديد، وذلك في صفوف الجماهير وفي صفوف الجيش، حتى في الصفوف القبلية التي كان يعتمد عليها الإمام لضرب الجيش خصوصاً بعد إعدام الأميرين عبدالله والعباس (38).
وسواء صحت هذه المعلومات التي انفردت بها الوثائق البريطانية، أم أن الوقائع والأحداث كانت فردية، ولا ترقي إلى مستوى التعميم على الجيش كله، فإن التساؤل الذي يفرض نفسه في حالة صحتها هو: ما الذي أوجد هذا التحول وخلق روح التذمر وحب التمرد والعصيان في نفوس هؤلاء الجنود الذين عرفنا سابقاً كيف كانوا يهرولون إلى الإمام مذعورين من سوء العاقبة؟ وينضمون إلى صفه وضمن جنوده ويقومون بتنظيم الجمهور المحتشد في ساحة الإعدام ويحرسون الإمام عند حضوره للإشراف على إعدام الثلايا وضباط الجيش أمام أعين أفراد الجيش دون أن يتحرك أحدهم بعملية انتقامية فيطلق النار على الإمام تحت تأثير مشهد الإعدامات حتى ولو كانت عملية انتحار؟ قد تكون عملية إعدام الأمراء وقادة الجيش سبباً في التحول، ولكن لماذا تأخر هذا التحول بضعة أشهر؟.
إن محمد أحمد نعمان يؤكد أن “الإمام حينما أقدم على قتل أخويه فإنما أقدم على أخطر عمل في حياته؛ إذ إن عملية ذبحهما كانت مثار الاشمئزاز والتقزز والاستخفاف بالإمام وبمزاياه، بل لقد اهتزت اليمن كلها لهذا الحادث أشد من أي حادث آخر، وكان أشد الناس عداوة للأمير عبدالله أبعدهم تفكيراً في إعدامه على يد أخيه.. وحينما أعدمهما جمع الناس في كل مكان، فاضطربت أعصاب الإمام أكثر وتناقضت آراؤه، وأصبح أشد فتكاً وريبة في الناس جميعاً أكثر من ذي قبل”(39).
وربما كان هذا التحول انعكاساً لنشاط سري يعمل على الإيقاع بين الإمام وجيشه؛ إذ إن التذمر في الجيش كان احتجاجاً على إجراءات اتخذها الإمام بنقل بعضهم إلى مواقع غير مرغوبة، أو لإيقاف بعضهم أو اعتقالهم وسجنهم، وكانت هذه الإجراءات التي اتخذها الإمام مبنية على أساس أن الجيش خلف الحوادث الفردية التي ذكرناها سابقاً من تفجيرات ومنشورات، ولكن لا يوجد أي دليل يؤكد أن تلك الحوادث كانت من قبل الجيش.
فمن هو المسئول إذا لم يكن الجيش؟ هل كان الجيش نفسه ضحية لنشاط قوى سياسية سرية، والتي أتهمتها كثير من المصادر اليمنية والخارجية بأنها خلف كل الأحداث في اليمن بما فيها الانقلاب؟ أو كما وصفها المقال السابق بأن الرؤوس التي سيقت إلى المقاصل ليست إلا آلة صماء تحركها أيدي قوية في كهوف الظلام؟ (40)، وهو تلميح إلى عملاء لبريطانيا والغرب داخل البلاد تعمل على زعزعة الأمن في البلاد.
عموماً ومهما كانت الأسباب، يمكن القول: إن الجيش النظامي الذي كان تابعاً في انقلاب 1948م أصبح شريكاً في التخطيط لانقلاب 1955م، ثم منفرداً بتنفيذ الانقلاب لصالح الأمير عبدالله، وبالتالي رغم الهزيمة في الانقلاب، فقد أصبح الجيش قوة سياسية جديدة يستحيل تجاوزها أو تجاهل مطالبها بعد الانقلاب، وقد حاولت التعبير عن وجودها بتلك التمردات البسيطة، الأمر الذي فرض على الإمام وولي عهده التراجع عن إصرارهم السابق بإنزال العقوبات على ضباط الجيش وإعطاء الأهمية الخاصة للجيش تدريباً وتسليحاً، ثم السيطرة على تشكيلاته، وإعادة تنظيمه؛ حيث تم إنشاء معسكرات جديدة من ضمنها فوج البدر، كما جاءت صفقة الأسلحة الروسية لتحديث وتجهيز هذا الجيش الذي أصبح متطلعاً إلى الانفراد بالسلطة على غرار الثورة المصرية في الوقت الذي تساعده الظروف الداخلية والخارجية على اغتنامها.
وهكذا نجد أن الآثار التي خلفها الانقلاب على المؤسسة العسكرية قد أظهرتها قوة سياسية وعسكرية تعمل مستقلة عن المعارضة وخارج إطارها، فكأنما كان الانقلاب تجربة لم تخلق الإحباط بفشلها، بل خلقت حباً للمغامرة والتكرار.
ويري زيد الوزير أن القوى العسكرية اليمنية بدأت نشاطها السياسي فجأة بانقلاب 1955م نتيجة إفلاس القوى المدنية المعارضة وعجزها عن تحقيق شيء ما.. وبالتالي فإن هذا الانقلاب قد خلق إحساساً قوياً لدى العسكريين بوجه خاص بإمكانية تحملهم مسئولية العمل السياسي، والقضاء على العهد الغاشم، وظل هذا الإحساس ينمو ويتصاعد فإذا كان الأسلوب العسكري في1955م قد فشل فإن التفكير العسكري قد نجح حيث ظلت حركة الثلايا تعمل عملها في النفسية العسكرية حتى قيام الثورة، ولم تكن محاولة اغتيال الإمام أحمد في حادثة مستشفى الحديدة عام 1960م على أيدي ثلاثة ضباط إلا تأكيداً للنزعة الجديدة (41).
الجدير بالذكر أن إحدى الوثائق البريطانية المؤرخة 23أغسطس1955م قد وصلت إلى قناعة باستحالة القيام بأي انقلاب منظم بعد أن تمكن الإمام من إفشال الانقلابات السابقة. وتوقعت نجاح عملية جديدة تمثل مغامرة فردية لاغتيال الإمام من قبل بعض الجنود الذين تتوفر لهم الفرصة لتنفيذها36. فهل محاولة الحديدة عام 61م استمرار لتلك المحاولات أم كانت هي الأولى التي نجحت في إطلاق النار، ولكنها فشلت في القضاء عليه؟
لقد خضع الجيش لتطورات وتدريبات وحصل على تسليح نوعي من المعسكر الشرقي وإن كان أغلبه لم يُستخدم حتى قيام الثورة، كما تم تطوير المؤسسة العسكرية بفتح المدارس والكليات العسكرية واستقدام المدربين المصريين الذين ربطتهم بطلاب الكليات روابط حميمة ساعدت على نجاح تكوين تنظيم الضباط الأحرار بناء على معطيات وظروف وعوامل جديدة يمكن الإشارة إليها في مكان آخر من هذه الدراسة.
غير أنه يمكن الإشارة إلى الدور الروسي في تحديث وتسليح الجيش اليمني ففي نوفمبر1956م أنزلت السفينة الروسية خمسين مدفعاً مضاداً للطائرات جُلبت من تشيكوسلوفاكيا، بالإضافة إلى أسلحة خفيفة وذخيرة ومعدات عسكرية مختلفة (42).
في 13 يونيو1957م وصلت شحنة ثانية إلى ميناء الصليف. وفي 12يوليو وصلت ثالثة وبعدها رابعة. واشتملت هذه الدفعات على أسلحة من صواريخ غريبة الطراز، وثلاثة أنواع من الدبابات ومئات الأطنان من الذخيرة، ووصل معها أيضاً خمسة وثلاثون مدرباً من الجيش الروسي(43).
وفي نهاية الأسبوع الأول من أغسطس وصلت سفينتان تحملان أسلحة أخرى، وأنزلت من هاتين السفينتين أسلحة خفيفة ومدافع مضادة للطائرات ودبابات من طراز ت-34 وعربات نقل.
وبعد أسبوع وصلت الشحنة السابعة من الأسلحة، ووصل معها خمسون فنياً على درجات متفاوتة، ومن مختلف أقطار شرق أوروبا، وكان من بينهم عدد من الطيارين. وفي الأسبوع الرابع من أغسطس وصلت الشحنة الثامنة، وبذلك تكون تكلفة جميع هذه الإمدادات نحو خمسة ملايين جنيه استرليني(44).
الأسرة المالكة وتيارا الحسنيين والبدريين
لم يظهر أو ينتشر مصطلح البدريين والحسنيين إلا بعد احتدام التنافس مرة أخرى عام1957م، وهو تطوير أو استمرار للصراع في مشكلة التعاقب على العرش والمعروفة بمشكلة ولاية العهد، والتي أخذت شكلاً تنظيمياً مدعوماً من بعض الدول العربية وأطراف الحرب الباردة؛ فقد برز انقسام القوى السياسية بين مؤيد لأحقية البدر في العرش، ومن بينها حركة المعارضة التقليدية، وطبقة المستنيرين، ويدعمهم الرئيس جمال عبدالناصر والمعسكر الشرقي، وتمت تسمية هذه القوى بالبدريين في مقابل المؤيدين لأحقية الحسن في العرش ومن بينها الأمراء والأسر المحافظة والتقليدية، وتدعمهم المملكة العربية السعودية والمعسكر الغربي، وتم تسميتهم بالحسنيين.
وقبل أن نتوغل في هذين التيارين، سنحاول تتبع ورصد الموقف بعد فشل انقلاب 1955م، وكيف تزعم الأمير الحسن تياراً سياسياً منسوباً إليه.
كنا ذكرنا سابقا أن الإرياني حصر نتائج الانقلاب بإعلان ولاية العهد رسمياً للبدر بالإضافة إلى إعدام الأميرين عبدالله والعباس، ونفي الحسن إلى أمريكا وسجن مجموعة من الأمراء الصغار(45) مما يعطي انطباعاً بأن الانقلاب ليس إلا فصلاً من فصول الصراع بين الأسرة المالكة على العرش، وهذا القول صحيح إلى حد ما؛ إذ إن مشكلة ولاية العهد قد وصلت إلى ذروتها في النصف الثاني من عام 1954م بين أنصار البدر وأنصار الحسن، وتم تجميدها من قبل الإمام نهاية عام 1954م ليستغلها عبدالله ويصل إلى العرش قبل البدر والحسن.
عندما انتصر الإمام أحمد واعتقل أخويه وأرسلهما إلى حجة مكبلين كان أول مرسوم يصدره بعد يومين من سقوط الانقلاب هو مرسوم إسناد ولاية العهد إلى البدر، والذي نشرته جريدة النصر تحت عنوان ( تصريح ملكي خطير) قالت فيه: “في 16 من الشهر الجاري (شعبان ويوافق 9إبريل سنة 1955م” صدر تصريح ملكي شريف من جلاله مولانا أمير المؤمنين الناصر للدين أيدهم الله تعالى، يقضي بإسناد ولاية العهد للعرش اليمني إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سيف الإسلام البدر محمد بن أمير المؤمنين أيدهم الله، وعليه: فقد أصبح يطلق على سموه هذا اللقب المنيف رسمياً، وإن هذا التصريح الملكي الكريم كان له صدى مدو بين جميع طبقات الشعب؛ إذ تجاوب مع رغباتهم واتجاهاتهم إلى تحقيق هذه الأمنية الغالية التي ارتفعت بها أصواتهم عالية ينشدونها منذ زمن غير قصير فلقد كان لسمو الأمير البدر مكانة سامية بأفئدة أبناء الشعب وشبابه”(46).
ولم تورد النصر نص المرسوم حتى يمكن معرفة حيثياته وديباجته، إلا أن سبأ قد نشرت نص البلاغ الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية اليمنية بعد يومين من صدور المرسوم والذي قد لا يختلف عن نص المرسوم الملكي؛ إذ جاء فيه: “نقلت وزارة الخارجية للمملكة المتوكلية اليمنية إن حضرة صاحب الجلالة الملك الإمام الناصر قد تفضل فوافق على طلب أهل الرأي من العلماء والأعيان من الأمة اليمنية بتعيين نجله حضرة صاحب السمو الأمير سيف الإسلام البدر محمد ولياً لعهد المملكة المتوكلية اليمنية، واستخلافه من بعده، وبذلك فإن سموه الملكي قد أصبح ولي العهد الشرعي للمملكة المتوكلية اليمنية من بعده، وأمل البلاد في مستقبلها إن شاء الله تعالى.
تعز في 18 شعبان 1374ه 11 إبريل سنة 1955م (47).
من الذي أقنع الإمام بضرورة إعلان ولاية العهد مباشرةً؟
يذكر حسين الشافعي رئيس الوفد المصري في المؤتمر الصحفي الذي عقده في القاهرة عقب رجوعه من اليمن قائلاً: “ووصلنا إلى تعز فاستقبلنا الإمام في (الفلا) التي أمطرت بالرصاص بعد أن كان مضطرباً مرعوباً، ثم هنأناه، واجتمعت به لبحث الموضوع مرتين، وتم الاتفاق على أشياء كثيرة، تتصل بالأمور التي تؤثر على الاستقرار، وأهمها ولاية العهد…فقد استطعنا أن نقنع الإمام بإعلان ولاية العهد التي أعلنت بالفعل، وأرسلنا برقية إلى الرئيس عبدالناصر أبلغناه فيها بأمرها، وأذاع نبأها صوت العرب. وكان لهذا هالة من الفرح والبشر، فقد كان الشعب كله تقريباً يطالب بهذا للقضاء على أي أثر قد يسبب في إثارة فتنة”(48). وأضاف حسين الشافعي: “...بأن الإمام أصبح مقتنعاً بولاية العهد ومؤمناً بضرورتها، ولهذا وفقت البعثة المصرية في الحصول على الإمام بإعلان ولاية العهد للبدر(49).
وهكذا انتصر البدر وأنصاره بانتزاع الموافقة من أبيه على تعيينه ولياً للعهد، بعد أن خاض مع عمه الحسن تنافساً علنياً، ومع عمه الأمير عبدالله تنافساً سرياً، واعتبر الإمام الانقلاب مؤامرة من الأمراء للقضاء عليه بسبب تردده في مشكلة ولاية العهد التي حسمها بعد الانقلاب لصالح ابنه معلناً بذلك عداءه للأمراء الذين اضطربت علاقتهم به أكثر من ذي قبل، ومن ثم فقد كان لهذا الاضطراب أثر في تفكك البنية الداخلية للأسرة المالكة وانهيارها.
ففي اليوم الذي سبق إعلان ولاية العهد رسمياً، أصدر الإمام تعليماته باعتقال الأمراء الصغار الذين كانوا متواجدين في تعز أثناء الانقلاب وترحيلهم إلى صنعاء، وهم الحسن بن الحسن، ويحيى بن الحسين، وعلي بن الحسن والحسن بن علي (50).
وكان هذا الأخير أكثر الأمراء الشباب نباهة وطموحاً ونشاطاً، وربما كان أكثرهم قرباً من الإمام، وقد نشط مع بقية الأمراء خلال الانقلاب لصالح الأمير عبدالله، ربما دون معرفة الإمام أحمد واطلاعه، مما يفسر سبب تأخير اعتقالهم إن لم يكن السبب التمهيد لإعلان ولاية العهد حتى لا ينشطوا ضدها، ويبدو من رسالة الحسن بن علي الموجهة إلى عمه الإمام أحمد أن اعتقالهم كان مفاجأة ودون أن يتمكنوا من العودة إلي أماكن إقامتهم لاستصحاب مستلزماتهم؛ إذ تقول الرسالة: مولانا أمير المؤمنين أيدكم الله تلقينا أمركم بالتوقيف مع الأخ يحيى بن الحسين بالسمع والطاعة، ويعلم الله أن انتصاركم غاية المطلوب، فأنتم والدنا واحنا تركنا جميع أداتي (هكذا) وكتبي، في مقامكم بصالة، ولم آخذ شيئاً نظركم بإرسالها في الطائرة صحبة العسكري الذي بمعيتي يحيى أحمد، فهي بنظرة وأني لفي الحاجة إليها، وجوابكم بلسم أطال الله بقاءكم”.
ولدكم الحسن بن علي، 15 شعبان 1374ه 8إبريل1955م(51).
وقد أجابه الإمام ببرقية مختصرة قال فيها: “الولد الحسن بن علي، سبق الجواب وسنأمر بعزم العسكري بالأدوات، ولقد خاب الأمل فيك يا حسن وما كان والله يخطر على البال أن يكون هذا منك”(52).
كانت مشكلة وراثة العرش أو ولاية العهد أحد وأهم وأعوص المشاكل التي أقلقت العرش الملكي اليمني منذ تأسيس هذه المملكة عام 1918م. وكانت من عوامل وأسباب انقلاب 1948م حيث تردد الإمام يحيى في إسنادها رسمياً إلى ابنه أحمد متحاشياً بذلك ردود أفعال أسر السادة الهاشميين الطامحين إلى العرش بحسب النظرية الزيدية التي لا تجيز وراثة العرش، ومع هذا فقد أثيرت ولاية العهد، وتزعم معارضتها بيت الوزير الذين أزيحوا من مناصبهم فأعدوا عدتهم وتحالفوا مع بقية المعارضة، وتزعموا انقلاب 1948م، وأطاحوا بالإمام يحيى لمنع ابنه أحمد من الوصول إلى العرش.
وعندما انتصر الإمام أحمد كان أول مرسوم أصدره عقب اعتلائه العرش عام 1948م هو إطلاق اسم المملكة المتوكلية اليمنية على اسم دولته، ليؤكد بذلك أحقية أسرته في وراثة العرش اليمني، مبطلاً بذلك دعاوى وطموحات بقية الأسر الطامحة وحصر الأحقية في أسرته، فخلق نوعاً من الطمأنينة لدى إخوته الذين شاركوه في استرداد العرش، بعدم استئثاره بالعرش في بنيه، وإن كان الأمر قد استمر مبهماً لعدم تعيين أو تسمية ولي العهد.
كان المفترض أن يتزامن التحول إلى النظام الملكي الوراثي مع ترشيح ومبايعة ولي عهد المملكة، غير أن الإمام أحمد قد تردد أيضاً في هذه المسألة كما تردد أبوه، ليس بسبب مخالفتها لنصوص النظرية الزيدية وآثارها فحسب، بل بسبب تردده بين إخوته وعلى رأسهم الحسن، وبين ابنه البدر الذي كان يميل إلى ترشيحه وتعيينه، وبسبب هذا التردد تأجج التنافس العلني وظهرت كتلتا البدر والحسن، مما اضطر الإمام أحمد إلى تجميد حملة البيعة لولاية العهد ومنع الخوض فيها، وعمل على إخراج أخيه الحسن إلى الخارج بمهمات رسمية لم يعد منها حتى تفجير الانقلاب، وهكذا وعلى الرغم من أن معركة ولاية العهد عام 1954م – 1955م لم تكن هي ذروة الخلافات المستترة بين الكتل المتطاحنة على العرش ووراثته وخصوصاً بين كتلة الحسن وكتلة البدر، إلا أنها قد أفرزت كتلة ثالثة برئاسة الأمير عبدالله الذي تعاون معه زعماء الانقلاب ليقطع الطريق على كتلتي البدر والحسن معاً وليصل إلى العرش من أقرب طريق، ولكنه دفع حياته ثمناً لهذه المغامرة، وانتصر البدر، وظل الحسن في منفاه يشكل تهديداً مباشراً وخطيراً على حكم البدر، كما نشط الأمراء الشباب في تركيز الأضواء على الأمير الحسن وتمكنوا بالفعل من عزل البدر “أسرياً” فاستمر البدر في تعاونه مع القوى الوطنية والناصرية(53).
وكانت مصر أول من قدم عدداً من المقترحات بشأن ترتيب السلطة في اليمن بعد مرور ستة أشهر من تشكيل الحكومة والهيئة الاستشارية من ضمنها: تنازل الإمام عن كل السلطات السياسية لولي العهد البدر ويبقى الإمام رمزاً للدولة، كما تضمنت هذه المقترحات إرسال نائب إب القاضي أحمد السياغي إلى الولايات المتحدة لزيارة الحسن وإقناعه بالعودة إلى اليمن على أن يخضع شكلياً لسلطات البدر، وذكر حينها أن الإمام قد وافق على هذه المقترحات بما فيها تعيين محمد عبدالله الشامي مستشاراً شخصياً للبدر، وإدخال بعض التعديلات على الهيئة الاستشارية.
غير أن المقترحات المصرية قد تأجل تنفيذها - حسبما يعتقد حاكم عدن – إلى أن يعرف موقف الحسن، ويضمن الإمام الدعم البريطاني للبدر(54).
حركة المعارضة اليمنية التقليدية وانقساماتها
من النتائج الهامة لانقلاب 1955م على مستوى المعارضة اليمنية إغلاق ملف انقلاب 1948م وإطلاق المعتقلين في سجون حجة بعد استمرارهم فيها أكثر من سبع سنوات؛ وعلى الرغم من اختلاف المصادر في تحديد جهة إطلاقهم من السجن بين الإمام والبدر، إلا أن السنيدار قد ذكر أن البدر والنعمان اتفقا على إطلاق بقية المساجين في حجة عقب وصولهما إليها أثناء الانقلاب؛ ولكن نائب حجة عبدالملك المتوكل رفض إطلاقهم، مبرراً هذا الرفض بأنهم مسجونون بأمر الإمام، ومادام الإمام أحمد على قيد الحياة فلا يمكن إطلاقهم إلا بأمره، ووعدهم بالتماس الموافقة على إطلاقهم إذا تحقق للإمام أحمد الانتصار، وفعلاً أبرق النائب إلى الإمام عقب انتصاره يهنيه بالانتصار ويعرض مشكلة السجناء لديه من عسكريين ومدنيين، وأكد للإمام أنهم اثبتوا إخلاصهم وصفاء سريرتهم، فوافق الإمام أحمد على إطلاقهم، فاستدعى الجميع وأخذ منهم البيعة للبدر، وصرف لكل سجين خمسة عشر ريالاً. وقام البدر بتوزيعهم كموظفين بين حجة والحديدة، وسمح لبعضهم بالعودة إلى صنعاء(55).
فإذا كان إطلاقهم لم يتم إلا بعد تحقيق الانتصار، فإن هذا يخالف كثيراً من المصادر التي تؤكد أن البدر قد أطلقهم عقب وصوله إلى حجة، بل وكلف علي محمد نعمان وعلي محسن باشا ومحمد علي الأكوع بقيادة جيش يتحرك إلى تعز لإنقاذ الإمام أحمد حيث وصل هذا الجيش بعد انتصار الإمام مباشرة وحضروا جانباً من حفلة الإعدام في أول يوم للإعدامات وهو إعدام الثلايا؛ حيث استغرب الإرياني مفارقات الأحداث بين موقفه وموقفهم مستشهداً بالمثل القائل “مصائب قوم عند قوم فوائد” (56). وعلى الرغم أن معظم المصادر قد أكدت أن جميع نزلاء حجة من سجناء 1948م قد أطلقهم البدر آنذاك إلا أن الشامي يستثني آل الوزير لعدم وجود أي موقف لهم في قضية ولاية العهد التي أثيرت قبل الانقلاب، فقد قال: إن الذين لم يستفيدوا من ولاية العهد ولم يدخلوا معركتها ولا خاضوها، لا تأييداً ولا محاربة، ولم يرضوا بها لا كرهاً للبدر، ولا حقداً على أبيه أو إخوته ولا تزلفاً أو مجاراة للأحرار في داخل اليمن أو خارجها في السجون أو خارج السجون، هم آل الوزير وخصوصاً أبناء الأمير علي بن عبدالله، فلقد أطلق البدر كل من كان في سجون حجة من آل نعمان والسلال والسنيدار والمطاع وأبو طالب والعمري والفسيل والسياغي وغالب، والعشرات من إخوتهم، ولكنه لم يوافق على الإفراج عن قاسم وعلي الوزير وزيد بن علي الوزير ومن بقي من أولاد عمهم آل الوزير، وكان أخوهم إبراهيم قد نزح إلى القاهرة مع أخويه عباس ومحمد، وعند انقلاب 1955م لم يؤيدوا الإمام ولا ولي عهده ولا حضروا حفلة التكريم التي أشاد بها الأستاذ محسن العيني”(57).
وعلى أية حال فالغالب أن الإمام قد تولدت لديه قناعة بصدق تحولات المعارضة القديمة، وعدم استعدادهم للعودة إلى نشاطاتهم السابقة لعام 1948م، فالبعض قد أظهر صدق ولائه للبدر وخوفه على الإمام، وقام بدور كالدور الذي قام به كل من النعمان والشامي لدعم البدر والانتقال معه إلى حجة لتحريض القبائل لإنقاذ الإمام المحاصر والابتعاث إلى العربية السعودية لإقناع العاهل السعودي لبذل المساعي الجادة لتخليص الإمام أحمد من الحصار والتعاون معه ومع البدر أو التوسط لحل المشكلة، وهو ما تم بالفعل لو لا أن الإمام أحمد قد انتصر، فعاد النعمان والشامي مع اللجنة المصرية السعودية التي تحولت إلى وفد للتهنئة.
وصلت الوفود يوم الخميس، ونزلت دار الضيافة في تعز، وتولى الشامي صباح اليوم التالي تعريفهم على مدينة تعز بينما كان النعمان يستعد لإلقاء خطبة عقب صلاة الجمعة في المسجد الذي سيحضره الإمام والوفود وجموع كبيرة من المصلين.
ويذكر الشامي أن النعمان بعد كيل المدح والثناء على الإمام “بدأ يلوم الخونة والمجرمين دعاة الشقاق والذي يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض الفساد، ودعا الشعب إلى الطاعة والولاء في السر والعلن لأمير المؤمنين وإمام المتقين وعدم الإصغاء أو الاستماع إلى ما يقوله الجاحدون، وعدد نعم الإمام وحكومته على الشعب، ثم استشهد بالآية الكريمة: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا”(58)، وهذا يتعارض مع ما طرحه النعمان في الخطبة التي ألقاها في عيد الفطر، والتي سيتم الإشارة إليها فيما بعد. إن هذا الموقف قد دفع الشامي كما ذكر عن نفسه إلى إلقاء قصيدة شعرية أمام الإمام أحمد، وكان مطلعها :
قف خاشع الطرف إجلالاً وإكباراً
واخفض جبينك إذعاناً وإقراراً
ويعرض لجميل الإمام عليه بقوله:
فدتك نفسي التي أحييتها كرماً
وصنت عزتها بالجود مدراراً
تعفو وتصفح لا عجزاً ولا حمقاً
لكن حناناً وإكراماً وإعذاراً(59)
يبدو أن الإمام أحمد قد شعر بالارتياح والتقدير إزاء الدور الذي لعبه النعمان والشامي أثناء الانقلاب وتأثر بما ألقياه من نثر وشعر بمناسبة انتصاره، فرجح أن يكملا المشوار وأن يقربهما منه ومن ابنه البدر أكثر، فكلفهما بعضوية وفد الشكر الذي يرأسه البدر إلى السعودية ومصر الذي تقرر سفره مع الوفدين السعودي والمصري يوم 11 إبريل 1955م (60).
كان الأمير البدر قد انتقل من حجة إلى الحديدة حينما وصلته برقية الإمام أحمد بالاستعداد للتوجه مع الوفدين المصري والسعودي لتقديم الشكر إلى جلالة الملك سعود وإبلاغه بأنه سيحرر اللازم مع نعمان والشامي، ويذكر الشامي أن أول إعلان من قبل الإمام أحمد لولاية العهد رسمياً قبل نشرها في الصحف، هي في هذه البرقية، إذ تصدرتها العبارة الآتية: من أمير المؤمنين إلى الولد سيف الإسلام البدر ولي عهد اليمن حفظه الله، وأن الإمام قد سأل الشامي عن رأيه في العبارة والوقت المناسب لإعلانها، فأجابه بالإيجاب قائلاً: “رائع جداً”(61) .
بعد وصول الوفد اليمني إلى جدة وصل إليها من مصر كل من الوزير المفوض في القاهرة ومعه من زعماء المعارضة أبو الأحرار محمد محمود الزبيري، والأستاذ/ يحيى زبارة عن الاتحاد اليمني في القاهرة لمقابلة البدر ومناقشة الضوابط الخاصة بضمان الاستقرار في اليمن(62) وذلك بناء على البرقية التي وجهها الأمير فهد بن عبدالعزيز إلى الوزير المفوض في القاهرة عبدالرحمن أبو طالب يستدعي فيها الزبيري للاجتماع في جدة مع البدر (63).
وقد رأس البدر جلسة خاصة نقل فيها الواصلون من اليمن للواصلين من مصر تفاصيل أحداث الانقلاب، وتحدث النعمان عن البدر متفائلاً به وبمستقبل زاهر في ظله، مبشراً لهم بأن الإمام سيشكل حكومة جديدة برئاسة ولي عهده، وسيكون من أعضائها البارزين الزبيري ونعمان والشامي وغيرهم. وكشف تقرير سري رفعته المفوضية العراقية في جدة عما تم في الاجتماع بين البدر والزعماء اليمنيين الأحرار ومنها: بقاء الاتحاد اليمني في القاهرة على رأس حركة الأحرار، ومناقشة ما تم الاتفاق عليه في القاهرة أواخر 1954م من أسس الإصلاحات الدستورية المنوي إدخالها إلى اليمن.
ويذكر التقرير بأن البدر سيتولى عند عودته من السعودية رئاسة الوزراء وممارسة سلطاته. ويضيف التقرير بأن الحركة الأخيرة “الانقلاب” في اليمن نشبت بسبب التدخل الأجنبي فيها بل من الاستياء العام الناتج عن عجز الإمام من إدارة المملكة بسبب مرضه وعدم استغلال ثروات البلاد، ومن المؤكد أن تتم الإصلاحات في اليمن على يد السيف البدر(64) .
وطبقاً لرواية الشامي فإن النعمان قد حاول إقناع الزبيري وزبارة بضرورة العودة إلى اليمن للمشاركة في بنائه، فاعتذر زبارة بينما تردد الزبيري في البداية مكتفياً بالاعتذار. غير أن النعمان أستمر في إقناع الزبيري حتى كاد يوافق لولا أن الشامي قد أوحى له في حديث منفرد بخطورة الوضع وعدم الاطمئنان إلى الإمام مما ولد قناعة لدى الزبيري بالإصرار على عدم العودة، قائلاً: لن أعود الآن، إني أريد أن يظل رأسي على كتفي، ثم اعتذر للبدر وحمله نقل تهانيه للإمام وتمنياته أن يظل حزب الاتحاد اليمني مستمراً بموافقة الإمام وأن يكون له مقر في تعز (65).
ويؤكد العيني أن الملك سعود قد قدم للزبيري ضمانته الشخصية بأن لا يمسه سوء إذا عاد إلى اليمن، ولكن الزبيري رفض العودة ما دامت الأوضاع باقية كما هي(66).
ويبدو أن القائم بالأعمال العراقي في جدة قد اطلع على ما دار حول عودة الزبيري حيث جاء في تقريره:”وقد علمنا بان الرأي قد استقر على عدم ذهاب الزبيري إلى اليمن ليبقى على رأس حركة اليمنيين الأحرار في هذه البلاد. وسيمكث هنا بضعة أيام ثم يعود إلى القاهرة. مع العلم أنه سبق التفاهم على الإصلاحات قبل أربعة أشهر في القاهرة على أسس الإصلاحات المنوي القيام بها في اليمن بما فيها دستور جديد للبلاد وإطلاق جميع المعتقلين وإسناد المناصب المهمة لهم” (67).
قبل عودة النعمان والشامي إلى اليمن، والزبيري وزبارة إلى مصر، كان الإرياني والشماحي قد أفرج عنهما، وأصبح الجميع من أنصار البدر وأتباعه. كما كانوا قبل تجميد مشكلة ولاية العهد عام 1954م.
وهكذا أصبح هؤلاء وهم من زعماء المعارضة في 1948م في الاتجاه المعاكس للأمراء، فحينما نجد مصدراً من المصادر يتحدث عن أنصار البدر أو أتباعه في هذه الفترة، فغالباً ما يتصدر القائمة نعمان، والشامي، والزبيري ثم الإرياني وآخرون من قادة المعارضة اليمنية. وقد لعب النعمان دوراً كبيراً في إحباط الانقلاب، مما اعتبر نصراً للإمام وولده وحركة المعارضة اليمنية (68).
كان تأثير النعمان على البدر تأثيراً غير عادي؛ إذ كان يملي عليه القرارات التي يتخذها والمواقف والآراء التي يتبناها حيال مختلف القضايا والمواقف الداخلية والخارجية، وكان يلقي باسمه الكلمات والخطابات، حيث أورد البيان الملكي السعودي الصادر عن زيارة البدر للسعودية بأن النعمان وزير المعارف، قد ألقى كلمة شاملة باسم الضيف تناولت الروابط بين البلدين والعائلتين(69). ولهذا ورغم حساسية هذا التأثير فإن إخلاصه في الدور الذي لعبه أثناء الانقلاب قد منحه ثقة الإمام وركونه إليه، فأصدر قراراً ملكياً بتعيين الأستاذ أحمد محمد نعمان مستشاراً عاماً للبدر كمكافأة له على دعم البدر في الانقلاب(70).
وفي منتصف شهر رمضان (مايو 1955م) غادر ولي العهد تعز في زيارة رسمية إلى عدد من الدول العربية بدأها بمصر لتقديم الشكر والامتنان للرئيس جمال عبدالناصر والحكومة المصرية، ورافقه أحمد محمد نعمان، وجميل بركات.. وآخرون بالإضافة إلى رئيس البعثة العسكرية المصرية وملحق عسكري مصري آخر(71).
كانت مرافقة النعمان للبدر طبيعية بحكم منصبه الجديد (المستشار السياسي العام لولي عهد اليمن) وكان الإمام قد استدعى نعمان إليه قبل سفره إلى مصر وكلفه باقتراح قائمة الوزارة التي كان الإمام ينوي تشكيلها.
ويذكر نعمان الابن: إن النعمان كتب القائمة ولأول مرة بعد أن كان الإمام قد طلبها منه مراراً، لأنه كان يطلبها بعد أن يستشهد ببيته المشهور:
إني لأغمض عيني ثم أفتحها
كثيراً ولكن لا أرى أحداً
“أما هذه المرة فقد طلبها منه بعد أن سلم له جوازاً ديبلوماسياً ليسافر إلى مصر وليس بعد هذا مرحلة للثقة بين الإمام والأستاذ نعمان الذي لم يستطع أن يحصل على ترخيص لزيارة صنعاء حيث يلقي بعض أقاربه إلا بعد الانقلاب”(72) .
ما الذي عكر صفو العلاقة بين الإمام والنعمان بعد أن منحه هذه الثقة؟ ومتى ظهرت الخلافات من جديد على السطح؟.
تتفق كثير من المصادر على أن البداية كانت من القاهرة خلال رحلة مايو 1955م حينما رافق البدر في هذه الزيارة الرسمية ، حيث نشرت الصحف المصرية بالخط العريض تصريحات للبدر ضمنها التلميح إلى قرب الانتخابات، وأشيع حينها أن هذه التصريحات كانت من قبل النعمان على لسان البدر والذي ذكر أيضاً بأن قسوة الإمام ستحول إلى الإصلاح في اليمن(73).
وكان نعمان قد عقد فعلاً مؤتمراً صحفياً “أعلن فيه اعتزام الإمام تأليف وزارة شعبية برئاسة ولي العهد وإخراج الأموال المخزونة كلها للإنعاش الاقتصادي في اليمن، وأعلن أن اليمن ستربط سياستها الخارجة بالسياسة العربية التحررية التي تقودها مصر الثائرة، وكان هذا أول تصريح من نوعه لمسئول يمني كبير منذ قام الخلاف في البلاد المصرية حول الأحلاف الأجنبية والأحلاف العربية”(74).
ويعتقد العيني والشامي أن المشكلة ليست في التصريحات الصحفية فحسب، بل تكمن فيما ألقيت من كلمات خلال الحفلة التي أقامها الاتحاد اليمني والطلبة اليمنيون في القاهرة تكريماً للبدر وابتهاجاً بانتصار الإمام وذلك في دار المفوضية اليمنية في القاهرة.
وطبقاً لما أورده العيني الذي كان حاضراً “فقد تدافع إلى الحفل أولئك الذين كانوا على اتصال بالمراسلات مع السيف عبدالله ليثبتوا إخلاصهم وولاءهم، وتهالك الكثيرون منهم، وفقدوا أعصابهم وتخلوا عن وقارهم وبالغوا في التزلف والخضوع، وفي هذا الحفل أعلن شباب البعثة تمنياتهم ورجاءهم أن يكون هذا هو نهاية الظلم والفساد وبداية لعهد جديد تحل فيه الحرية والعدالة والمساواة محل الاستعباد والظلم، وأن تنتهي المذهبية والفرقة والتمييز السلالي الذي تميز به الحكم المتوكلي..”
“ووقف أحمد محمد نعمان وكان مستشار الأمير آنذاك فألقى كلمة قال فيها: إن ما يعانيه الشعب من ظلم واضطهاد وما يقاسيه من مذهبية وفرقة وتمييز إنما هو نتيجة للحكم الفاسد. وقد انتهى الحكم الفاسد. ونحن في بداية عهد جديد.. واكتفى الأستاذ بهذه الكلمات نظراً لصفته الرسمية في الوفد الذي يرافق الأمير، أما القاضي الزبيري فقد كانت كلمته بياناً هاماً عن موقف الأحرار وعن سياستهم، وكان حديثه موجهاً إلى البدر وإلى رجال الإمام وإلى الإمام في تعز، ختمها بقوله: “لسنا أعداءً شخصيين للإمام أحمد، ونتمنى أن يقود هو حركة الإصلاح في اليمن، ولكننا نحتفظ بحقنا في معارضته ومقاومته، ليفهم الإمام وولي عهده ورجالهما أن القضية لم تنته بعد، وأن كل شيء مرهون بما يكسبه الشعب”(75).
ويستطرد العيني: إن ما ألقي من كلمات قد أحدثت انقساماً بين الموجودين؛ فبعضهم استنكروا ما ورد فيها من عتاب للإمام أحمد وشروط وتقريع طالبي الاتحاد اليمني أن يغير لهجته في التخاطب مع الإمام؛ لأن مثل تلك اللهجة تغضب الإمام (76).
فإذا صح ما ذكرته هذه المصادر عن وقائع ذلك الحفل فإن لهجة الكلمات تثير الاستغراب، وإذا كان الزبيري يملك بعض العذر باعتباره يعبر عن مطالب المعارضة، فإن النعمان لا يملك عذراً وهو في ذلك المنصب، فإذا كانت تلك هي لهجته وهو في مهمة رسمية للإمام الذي منحه الثقة وطلب منه اقتراح الحكومة التي ينوي تشكيلها، فكيف لو كان مبعداً عن المناصب! ثم مادام الإمام قد حاول التقرب إلى الأحرار فلماذا يتم إقامة سدود منيعة وحواجز جديدة تبعدهم عن مركز القرار والتأثير، خصوصاً وأن النعمان قد أصبح قائداً للبدر أو زعيم الظل كما يقال، وكان بإمكانه تمرير الكثير من الخطوات الإصلاحية التي ينشدها الأحرار عبر البدر دون أية مواجهة مباشرة مع الإمام – إن كان لهم رغبة في الإصلاح - فإذا لم يكن للنعمان مبررات لا نعرفها فإن هذا الموقف قد أخرجه عن كياسته وفراسته المعهودة ووقع في الفخ دون أن يدري.
ومن جهة أخرى فإن فعاليات القاهرة وتصريحات النعمان باسم البدر ربما تم نقلها إلى الإمام بطريقة أكثر إثارة وأكثر استفزازاً، من قبل أولئك الذين كانوا يحضرون الاحتفال، وإلا فإن ما نشرته الصحف الداخلية اليمنية تتضمن مطالب ومعلومات أكثر حساسية ولم تزعج الإمام بدليل السماح بنشرها، خصوصاً وأن النعمان أصبح في موقع يثير أحقاد وحسد كثير من القوى التي تخشى على مصالحها ومراكزها إذا استمر النعمان في مركزه الحساس.
عموماً فقد عاد النعمان مع البدر بعد أسبوع من الزيارة، ويذكر النعمان الابن أن الإمام قد هدد النعمان بقوله المشهور “سيفي هو الدستور” وأنه عينه في وزارة المعارف في نفس الليلة التي هدده، مؤكداً له أنه سيدعمه بقلمه ولسانه وسيفه، مما أعتبره نعمان تهديداً مبطناً، وتمت إزاحته عن البدر حيث كان مسئولاً أيضاً عن الشئون الخارجية في الدولة (77) وهذا التحديد في الزمن يثير الاستغراب، فبين عودة النعمان من مصر في رمضان وفراره إليها في ذي الحجة ما يقرب من ثلاثة أشهر، فلماذا لم يفر النعمان عقب التهديد؟ وما الذي حدث خلال هذه الفترة؟
من الراجح أن اطلاع الإمام على فعاليات القاهرة والذي أعقبه تنزيل النعمان من منصب المستشار السياسي للبدر كان في وقت متأخر، على الأقل بعد موسم عيد الإفطار لذلك العام حيث شارك النعمان بكلمة خطابية خلال حفلة الجيش ثاني أيام العيد الذي كانت أول أيامه الاثنين 23 مايو 1955م أمام الإمام أحمد نشرتها بنصها الكامل كل من جريدة سبأ وجريدة النصر، كان لها تأثير كبير، وصفتها الصحف بأنها كلمة اهتزت لها المشاعر واستحسنها الإمام وقوطعت بالتصفيق عدة مرات.
وعلى العموم فقد أصبح الإمام كما يبدو يشعر بخطورة كل من يحبط بالبدر، وتأثيرهم عليه وعدم الاطمئنان إلى ولائهم أو صدق إخلاصهم.
وتذكر الانقلاب وما ترتب عليه من ضحايا، معتبراً ذلك نتيجة الحملة التي قادها أنصار البدر من المعارضة اليمنية لولاية العهد. ويروي الشامي أن الإمام استدعاه هو والنعمان والقاضي محمد الشامي وأحمد السياغي ومحمد عبدالله العمري وغيرهم من أقطاب دولته وبحضور البدر وقال لهم بصوت يقطر ألماً:
“كل هذا الذي حدث سببه ولاية العهد لو سلمنا منها ما حدث الذي حدث. أليس كذلك”؟ عقب الشامي بأنه حاول إقناع الإمام أن إخوته من الأمراء هم الذين كادوا وأثاروا الأحقاد مما لم يكن متوقعاً عند الجميع (78).
ورغم هذه المبررات فقد بدأ يعمل على إبعاد المحيطين بالبدر، وكان الشامي أحدهم، حيث عينه قائماً بأعمال المفوضية اليمنية، وممثلاً لليمن في الجامعة العربية، ربما لموقفه من ولاية العهد ولرأيه في الصراع اليمني البريطاني؛ حيث ينصح بالمهادنة والملاينة مع البريطانيين، وأنه لا جدوى من المواجهة العسكرية، وحرب العصابات، وكان قبل هذا المنصب قد عينه الإمام مديراً لمكتب الشئون الاقتصادية في وزارة الخارجية كممثل لليمن في اللجنة الاقتصادية (79).
أما النعمان فقد سبق أن ذكرنا أنه بدأ يعيش حالة من التربص الحذر عقب عودته من القاهرة رغم لهجة الكلمة الخطابية التي تعبر عن الإخلاص والثقة والإذلال، ويروي زبارة في مخطوطة: إن الإمام حينما طلب من النعمان اقتراح تشكيل حكومة صالحة، استجاب النعمان، واقترح نفسه في منصب وزير المالية(80)، فضلاً عن منصبه المستشار السياسي لولي عهد اليمن، غير أن الإمام قد عينه في المعارف، ثم عينه مستشاراً للمعارف بدلاً عن منصبه السابق، وأخيراً أبلغه أنه قد تم تعيينه مديراً للمعارف بحجة، وهو المكان الذي قضى فيه عدة سنوات في السجن، فشعر بأن الإمام بدأ بالتدرج به للعودة إلى السجن مرة أخرى، فقرر اغتنام أول فرصة للفرار من اليمن(81).
ومن تقرير بريطاني مقتبس عن ملف أعدته القنصلية الأمريكية في عدن بعنوان “هروب الشيخ نعمان إلى القاهرة” 25 أغسطس 1955م، يمكن التعرف على تفاصيل وخلفيات المشكلة، حيث جاء فيه اعتماداً على الصحف الصادرة في عدن، وفيها مقال عن أخبار واردة من جدة، بدأ بتقديم الأستاذ نعمان ودوره في الانقلاب، وكيف استطاع مخادعة وغش الأمير عبدالله، فوقف مع البدر وطار على نفس الطائرة إلى السعودية لمقابلة وفد الجامعة العربية وإبلاغهم بالحالة في اليمن، وحينما عاد النعمان بعد فشل الانقلاب كان يحتل موقعاً قوياً في اليمن، وعند الإمام بالذات الذي اعتاد أن يستشيره في القضايا السياسية العليا؛ بل وعينه مستشارًا سياسياً لابنه البدر الذي تعين أيضاً ولياً للعهد، ولم يبق النعمان وقتاً طويلاً في موقعه الجديد؛ إذ إنه نقل إلى مجال التعليم ليخدم مستشاراً بوزارة المعارف التي لم يلبث فيها كثيراً أيضاً، فسرعان ما ألغي هذا المنصب، وتم تحديد نشاطات نعمان فقط في الشئون التعليمية في حجة، وهو المكان الذي قضى فيه عدة سنوات في السجن(82). ويعتقد القنصل الأمريكي أن هذا التغيير في سياسة الإمام تجاه النعمان، إنما هو ناتج عن ضغط كبار المسئولين من الزيديين المتطرفين، الذين لا يرغبون إلا بالزيود في المناصب العليا للدولة، وحسب التقرير فقد كشف الإمام عن سياسته الجديدة حينما هدد النعمان بالقتل بسبب تصريحاته الصحفية، التي أصدرها في القاهرة، خصوصاً فيما يتعلق بتطبيق النظام الدستوري في اليمن(83).
ونتيجة لهذه التهديدات سيطرت حالة من الخوف الشديد على النعمان، وبدأ يتطلع إلي أية فرصة سانحة تمكنه من إنقاذ نفسه، وهي الفرصة التي قدمت له من قبل الإمام حينما عينه عضواً في الوفد الذي يرأسه البدر إلى العربية السعودية خلال موسم الحج، وكان النعمان قد رتب بعناية مع أفراد عائلته الذكور آخذاً في الحسبان احتمال تعرضهم للتعذيب بعد سفره، وربما يتم إعدامهم، ولهذا شوهد أخوه وابنه في عدن قبل يوم واحد من انتشار أخبار رحيله إلى القاهرة.
وبعد أيام من وصول النعمان إلى القاهرة استضافته إذاعة صوت العرب للإدلاء بحديث حول اليمن، فأدلى بتفاصيل الانقلاب وأسباب قيامه بدعم الإمام. ثم انتقد سياسة الإمام واتهمه بقتل الضباط والجنود بدون محاكمة؛ إضافة إلى أن الإعدامات قد تمت بحضور الوفدين المصري والسعودي؛ لكي يشعر الناس أن مصر والسعودية تسانده؛ أما فيما يتعلق بالنزاعات اليمنية - البريطانية، فقد ذكر نعمان أنه نصح الإمام عدة مرات ألا يثير هذه النقطة في أية مباحثات مستقبلية حتى لا تسوء الأحوال في اليمن بشكل كامل، وربما أن سكان المستعمرة سيفضلون بأنفسهم الانضمام إلى حكم الإمام، كما شكر النعمان الحكومتين السعودية والمصرية على مساعدتهما للأحرار ومنحه حق اللجوء إليهما، كما مدح ولي العهد سيف الإسلام البدر، وقال بأنه الرجل الذي تحتاجه اليمن.
ويختم التقرير الأمريكي بالقول: إن الأمير البدر أصبح في حالة حرجة جداً، وأصبح خائفاً أن يتهمه الإمام بالتواطؤ مع النعمان ومساعدته على الفرار، وكان المراقبون يتوقعون عدم عودة البدر إلى اليمن، إلاّ إذا توسط ملك السعودية بينه وبين أبيه، فإذا تعثرت هذه الوساطة فربما يفضل البقاء في السعودية لمدة غير معروفة(84). غير أن البدر قد عاد إلى اليمن، ولو أنه لقي استقبالاً فاتراً، غير ما يمكن قوله إن رحيل النعمان إلى مصر قد نقل المعارضة إلى مرحلة جديدة يمكن التحدث عنها في إطار الحديث عن الآثار الخارجية والدول التي كانوا يقيمون فيها لتأثر نشاطاتها بعلاقة هذه الدولة أو تلك باليمن سلباً أو إيجاباً.
وهناك قضيتان تحتم التعرض لذكرهما. إحداهما: أن المعارضة اليمنية قد انتقلت إلى نفق من الانقسامات المتعددة وكان الانقلاب أحد أسباب هذا الانقسام. وثانيهما: تبرير الاتحاد اليمني لموقفه من الانقلاب من خلال بيانه الرسمي.
لم تكن الانقسامات التي حدثت في المعارضة اليمنية إلا انعكاساً للوضع السياسي المضطرب في الداخل والخارج، فإذا كان الإمام أحمد أخفق في إرساء قواعد ثابتة تضمن استمرارية العرش والسلطة بيد أسرته وذريتهم، فقد أخفقت المعارضة من أن تستعيد نشاطها السياسي الموحد أو تلملم صفوفها، أو تتفق على استراتيجية سياسية ذات منطلقات فكرية واضحة تستهدف التغيير أو التطوير أو إصلاح الأوضاع الراهنة آنذاك بما يحقق التفاف وقبول غالبية المجتمع اليمني.
ومن استعراض مصادر الاتحاد اليمني في القاهرة الصادرة بين عامي 56-1962م لا نجد فيها إلا جدلاً وردوداً على اتهامات وتبادل الاتهامات وتقريعاً للمنشقين عن الاتحاد...إلخ(85).
فبعد عام 1955م تنكر الغالبية من أعضاء الاتحاد اليمني في القاهرة، وأعلنوا خروجهم منه، وانضم الكثير منهم إلى صف الإمام؛ أما بالنسبة للاتحاد اليمني في عدن فقد استقال رئيسه أحمد عبد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.