[1] موقف الصحفي المصري الشهير محمد حسنين هيكل المؤيد للانقلاب العسكري في مصر بحماس ودون أي تحفّظات؛ هو إحدى المفاجآت الكبيرة في الحدث المصري؛ ليس فقط لأنه بدا سعيداً يكاد يطير في الفضاء، ولا لأنه تجاوز التأييد التام إلى التنظير الثوري الزؤام بأن ما حدث ثورة بامتياز وليس انقلاباً.. بل لأن هيكل -كمثل الناصريين والماركسيين والمصريين الكارهين لعرب الصحراء البدو- خالف قاعدة أصيلة في نهجه الإعلامي والسياسي تجعله دائماً في المربّع المناقض لدول الخليج البترولية الرجعية، وخاصة السعودية، المرتبطة بالسياسة الأمريكية في المنطقة العربية! وبمعنى آخر فإن هيكل والجماعات المذكورة اتخذوا لهم بوصلة تحدد مواقفهم؛ ملخصها: أينما تقف السعودية فثمة مصيبة ومؤامرة، ويجب معارضتها والوقوف ضد سياستها.. وعلى أساس ذلك يمكن فهم حتى موقف هيكل المثير للغط تجاه الثورة الشعبية اليمنية ضد نظام صالح، ففي رأينا أنه ظنّ أن وجود رموز قبلية شهيرة في المربّع اليمني المعارض دليل على أن السعودية هي التي تقف وراء الاحتجاجات ضد صالح؛ فاتبع بوصلته وكان ما كان من تصريحاته التي هلّل لها إعلام المؤتمر، واعتبرها حُجة على سلامة موقفه وفساد الثورة ضده!
[2] مجمل الآراء التي زيّن بها هيكل الانقلاب العسكري تصلح أن تجعل المرء يظن أنه كان قابلة فكرية للانقلاب أو من الحواريين الذين نظّروا بشكل ما لضرورة وقوع الانقلاب العسكري، وربما زينوا الأمر للعسكر بأنه فعل وطني بامتياز.. وهو أعلن آراءه المؤيدة والمنظّرة للانقلاب مساء اليوم الثاني له أي قبل أقل من مرور 48 ساعة! ولخطورة الحدث فإنها تبدو فترة قصيرة جداً لشخص مثله لا يظهر عادةً بمثل هذه السرعة (بل قيل إنه كان في المصيف شمال مصر وجيء به على عجل ليظهر على الشاشة مبشراً ومنظراً للثورة المصرية – الخليجية – الغربية!).. لكن المُهم أن تقييمه لما حدث يبدو صناعة معلّبة سابقة التجهيز، وليست من وحي الحدث، كما أن بعض تفاصيل ما قاله لا علاقة عضوية لها بالانقلاب، بل يمكن القول إن الانقلاب في جوهره مضاد لها، مثل تسويق وهم أن الانقلاب وإزاحة مرسي ضربة للنفوذ الأمريكي في مصر وارتهانها للأمريكان.. بالمصري الفصيح: السياسة الأمريكية انضربت يا رجالة بالانقلاب العسكري.. ومعادلة تعاملها مع السلطة المصرية منذ أربعين تعرّضت لضربة جوِّية في الصميم!
[3] هناك عدد مما يستحق التعليق عليه في تنظيرات هيكل للانقلاب العسكري، ولن نتهم بالأخبار التي نثرها كعادة الصحافة المصرية عن اجتماع مزعوم لمكتب الإرشاد وما حدث فيه، أو ما قاله أردوغان لمرسي أو ما قاله السيسي له.. الخ الفبركات الصحفية التي ينثرها الصحفيون المصريون عادة وكأنّهم يعلمون الغيب، ويخترقون الجدران، والحدود، ثم يتضح أنها أكاذيب ومجرد أقاويل قهاوي أو مقايل -كما نقول في اليمن- ليس هذا هو المُهم، لكن هناك تنظيرات هيكلية خطيرة تنقض فكرة حكم الدستور والشعب التي تبلورت خلال التجربة الإنسانية للخلاص من الطغيان والاستبداد، لم يكن يتوقّع أن هيكل بعد كل هذه السنين والتجارب يتحول إلى منظّر لهدمها بتأليف جُمل بلاغية والتلاعب بالكلمات لإثبات صحتها.
لا شك أن البحث عن سبب هذا الحماس الهيكلي للانقلاب، الذي يعني بصورة ما عودة نظام مبارك بدعم خليجي سعودي لا شية فيه، يحتاج إلى تفسير، ولست مع الذين يقولون إن موقف هيكل الأخير له علاقة ما –بطبيعة المشاعر الإنسانية- باتهام ابنه الدكتور حسن هيكل في قضية فساد وغسيل أموال والتلاعب بأموال البورصة تورّط فيها الابن بالمشاركة مع علاء وجمال ابني حسني مبارك؛ وهي القضية المعروفة بقضية البنك المصري الوطني والمجموعة المالية القابضة (هيرمس) التي يتولّى هيكل الصغير فيها منصب الرئيس التنفيذي المشارك. ورغم أن القضية بدأت من قبل وصول الدكتور مرسي إلى الرئاسة إلا أنها -كما يبدو- لما تنته بعد (تعاملت الصحافة المصرية الحكومية والخاصة مع القضية إلا ما ندر بالصمت الرهيب والتجاهل!) فقد أصدر النائب العام في مارس الماضي قرارا بالتحفّظ على أموال هيكل الصغير ومنعه من السفر.. وما تزال القضية منظورةً أمام النيابة، وهيكل الصغير ينفي التّهم (أمر طبيعي).. لكن بدون شك، فالاتهام مؤلم لرجل مثل هيكل الأب لم يعرف عنه للأمانة ممارسات فساد مالي ولا حتى أخلاقي، وجعل أحد أسباب معارضته لنظامي السادات ومبارك هو ذلك الفساد المهول الذي حدث في زمنيهما.. ثم ها هو اسم ابنه يظهر في إحدى أخطر قضايا الفساد.. ومع من؟ مع ابني عدوه اللدود الذي كتب فيه كتابه «مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان».. ووجّه إليه من الاتهامات ما يجعل كتابه عن السادات «خريف الغضب» شهادة حسن سيرة وسلوك له بأثر رجعي!
لسنا مع هذا القول، والأقرب للمعقول أن هيكل لم يستطع أن يتقبّل إلى النهاية مثل كثيرين الصعود الإخواني الكبير إلى السلطة بأريحية وخضوع حقيقي لمقتضيات العملية الديمقراطية؛ رغم إنه سبق أن قال إنه نصح المشير طنطاوي باستدعاء رئيس حزب الحرية والعدالة (الدكتور مرسي نفسه) وتكليفه بتشكيل الحكومة، كذلك كان له موقف معلن ضد المطالبين باستقالة مرسي أثناء الخلاف على الدستور مبرراً أنها أخطاء وليست جرائم، لكن يبدو –إذا استبعدنا فرضية اتهام الابن ووصول قضيته إلى مرحلة حرجة- أن الطبع غلب على التطبّع.. وقد أثبتت الحوادث الأخيرة أن ثارات ومعارك السنوات الستين بين التيارات السياسية والفكرية العربية ما تزال حاضرة بقوّة في الأذهان ومؤثّرة في المواقف، وأنها لم تتوارَ إلا مؤقتاً في مواجهة الخصم المشترك؛ أي الحكام الوراثيين!
كذلك يمكن القول إن قضية الديمقراطية والحكم بالشرعية الدستورية ليست مما يغرم به الأستاذ منذ اشتغل بالعمل العام منذ الأربعينيات حتى يجعلها فرقاناً يعرف بها الحق والباطل، ولذلك سارع فور الانقلاب لصك عبارة خطيرة إن «شرعية الشارع أقوى من شرعية الصندوق»، لتجميل وجه الانقلاب العسكري على أول شرعية دستورية من نوعها في مصر.. وهي عبارة مفهومة في حالة واحدة فقط أن يكون الصندوق في بلد يحكمه أمثال مبارك وصالح والأسد وابن علي، وأن ينتفض الشارع ضد نظام ديكتاتوري كما حدث مع مبارك وغيره.. أما سلطة انتخبها الشعب بحُرية ونزاهة فشرعية الشارع المزعومة يفرح بها فقط أمثال فلول مبارك وبقايا صالح (وللأسف أمثال هيكل وجبهة الإنقاذ المصرية).. وأمثال المرتزق العالمي بوب دينار وأجهزة المخابرات العالمية مثل «سي أي إيه» التي طالما نجحت في تحريك الشارع بالبلطجية والمرتزقة، وإثارة الأزمات والفوضى للانقضاض على سلطة وطنية منتخبة أضرت بمصالحها مثلما حدث في تشيلي في عهد الزعيم اليساري سلفادور اللينيدي، ومع الفنزويلي تشافيز، ومن قبلهما مع الزعيم الإيراني مصدق، ومؤخراً مُرسي مصر. (المفارقة أن أول كتاب لهيكل كان حول الانقلاب العسكري ضد مصدّق، وهو بعنوان: إيران فوق فوهة البركان)!
[4] أثناء كتابة هذه الكلمات تذكّرت أن لهيكل كتاباً باسم المقالات اليابانية التي نشرها في صحيفة يابانية، وتناول فيها قضايا في سنوات التسعينيات؛ مثل: حرب الانفصال في اليمن والأزمة الجزائرية بعد الانقلاب العسكري ضد نتائج الانتخابات، وما حدث في مصر هو نسخة ثانية لما حدث يومها في الجزائر مع فارق مُهم أن الانقلاب الجزائري حدث بعد الجولة الأولى من الاقتراع، أما الانقلاب المصري فقد حدث بعد عام من تولِّي الرئيس الإسلامي منصب الرئيس (ولا نقول السلطة التي تعني قوّة السيطرة على البلاد؛ فقد ثبت الآن أنها ظلت خارج نطاق سيطرته وبالدّقة في أيدي فلول النظام السابق) كذلك لم يتورط الإسلاميون في مصر في شباك التصريحات الإعلامية المثيرة لمخاوف الآخرين حول الأسلمة وفرض الحجاب، وتغيير نمط الحياة التي قيل في الحالة الجزائرية –صدقاً أو كذباً- إنها أعطت إشارات خاطئة ومفزعة دفعت الجيش بتأييد عالمي للانقلاب على الديمقراطية الوليدة!
سيكون ممتعاً قبل أن نبدأ في مناقشة تبريراته للانقلاب المصري أن نعرف بعد 21 سنةً موقف هيكل من الانقلاب الجزائري مقارنةً بموقفه من الانقلاب المصري، وسوف نكتشف أن الأستاذ حصلت لديه ردة ديمقراطية مدنية غير مبررة.. ليس فقط لأن الوضعين كانا متشابهين في أساسيات المشكلة مما يقتضي بالإنصاف الموقف نفسه من الانقلابين، ولا لأن الأصابع المتآمرة ربما تكون هي نفسها هنا وهناك، ولكن لأن الموقف من قضايا احترام الإرادة الشعبية المتجسّدة بحرية ونزاهة لا يجوز أن يتعامل معها رجل بتاريخ هيكل الإعلامي وعلاقاته الدولية ومع النخب الليبرالية الغربية بمثل هذه الطبيعة الشرقية الجاهلية التي تتخذ لها مرتكزات مثل: إن متّ ظمآن فلا نزل القطر.. أو: عنزة ولو طارت!
في 27 إبريل 1992، نشر هيكل مقالاً بعنوان: «الحل الإسلامي والفرصة الضائعة في الجزائر.. الموجة الإسلامية القادمة في الشرق الأوسط»، ويهمنا منه تقييمه للحدث الجزائري.. أما كلامه عن الظاهرة الإسلامية بشكل عام ففيه نظر كبير سنعود إليه يوماً ما! المُهم يقول هيكل: [لقد أضاع الشرق الأوسط وربما العالم الإسلامي بأسره فرصةً كبيرةً كان يمكن لها أن تضعه على الطريق الصحيح(!!) وهذه الفرصة هي الانقلاب البارد الذي حدث في الجزائر في مطلع السنة. كانت الجزائر بعد ثلاثين سنة من الاستقلال والأمل والإحباط، والدعاوى الثورية، وأحلام التنمية قد وصلت إلى اقتناع بأن حل مشاكلها يكمن في التيار الديمقراطي الذي يطرح نفسه بشدّة في العالم الثالث بعد كل التراجعات والتفاعلات ورياح التغيير التي هبّت على العالم في الحقبة الأخيرة.
ويوم 26 ديسمبر 1991، ذهب الناخبون الجزائريون إلى صناديق الانتخاب، ويوم 27 ديسمبر أعلنت نتيجة المرحلة الأولى وإذا جبهة الإنقاذ الإسلامية تكتسح وتحصل على 80% من الأصوات، وكان مؤكداً أن المرحلة الثانية سوف تعطي للإنقاذ الإسلامي النسبة نفسها من مقاعد المجلس النيابي الجديد.. لكن بقايا المجموعات السياسية التي تحكم الجزائر متحالفة مع قيادة الجيش وعناصر البيروقراطية فقدوا أعصابهم وأوقفوا التجربة في منتصف الطريق، والغريب أنهم قاموا بهذا الانقلاب البارد باسم الديمقراطية، بدعوى أن الإسلاميين إذا وصلوا إلى السلطة سوف يضعون نهايةً للديمقراطية باسم الدين، وبالتالي فإن الحل هو ضرب الديمقراطية باسم الديمقراطية.. وهذه لعبة خطرة!
إن الإسلام السياسي احتمال معلق على آفاق العالم العربي والشرق الأوسط، والناس يتراجعون إلى حماية الدّين بحثاً عن يقين وأمل وكرامة في فترة من الضياع والإحباط والهوان؛ نتيجة لأزمات معقّدة اقتصادية واجتماعية وسياسية ودولية، وآخرها أزمة وحرب الخليج. ولقد كانت الفرصة السانحة في الجزائر هي أن الإسلام السياسي يدخل لأول مرّة من باب الشرعية، ويمر إلى السلطة عن طريق صناديق الانتخاب، وكان يجب أن يستكمل الطريق الديمقراطي مسيرته طالما أن الجميع قبلوه، وطالما أن السلطة الحاكمة في الجزائر هي التي اتجهت إليه بعد أن انسدت كل الطرق الأخرى!
إن اعتراض الطريق الديمقراطي في منتصفه ليس دليل عجز عن التحدِّي فقط، ولكنه إلى جانب ذلك ضعف في الأعصاب، وعندما تهرب أي سلطة من التحدِّي بالوسائل السياسية، وعندما تفقد أعصابها أمام لعبة هي التي وضعت قواعدها فذلك أقرب ما يكون إلى مأزق يؤدي إلى صراعات طويلة وفي الغالب أنها ستكون دموية!
....... ولو أن فكرة تداول السلطة جرى احترامها بإملاء نتائج الانتخابات لما كان في وسع التيار الإسلامي أن يعارضها بعد ذلك، ولاضطر للخضوع إلى القاعدة لكن الذين تعرّضوا بالدبابات لنتائج صناديق الانتخابات قدموا سابقة بالغة الخطورة!
....... وأخيرا في الجزائر جاء البديل الذي وصل عن طريق صناديق الانتخابات، وربّما كان تركه للفرصة وترك الفرصة له ضروريين؛ فإذا نجح فمعنى ذلك أن هناك فرصةً لبديل قادر على التحقيق، كما أن الديمقراطية قادرة على الحياة.. وإذا لم ينجح ؛ وهذا هو الأرجح؛ فإن ذلك من شأنه إثبات أن مشاكل الدنيا لا بُد لها من حل دنيوي، وكان مؤكداً أن يحدث ذلك أثره في العالم العربي والعالم الإسلامي، وأن يجد الكل أنفسهم أمام ضرورة الاختيار بالعقل وليس الإحباط!
لكن الفرصة ضاعت هذه المرّة، وكانت فرصة ضخمة غير قابلة للتكرار بسهولة!]
••• هذا ما كتبه منظّر الانقلاب المصري الأخير عن الانقلاب الجزائري الأول؛ مما يجيز لنا أن نقول له: ما عدا مما بدا.. على حد تعبير الإمام علي لمن بايعوه ثم خرجوا عليه.. وقطعاً فحتى كون مصر «أم الدنيا» لا يجيز لسياسيها ومفكريها أمثال هيكل وبعد تجربة مرّة أن يعطوا الانقلاب العسكري شهادة حسن سيرة وسلوك بمبررات هي ثلمة تاريخية في حق أصحابها.. وهو ما سنناقشه بدءاً من الغد -بإذن الله.