يرى محللون أن معاودة الطائرات الأمريكية بدون طيار عملياتها الجوية باليمن مؤخرا (أواخر يوليو/تموز الماضي ومطلع شهر أغسطس/آب الجاري)، قد يشير من زاوية ما إلى أن إعلان مقتل الرجل الثاني في تنظيم "القاعدة بجزيرة العرب" سعيد الشهري شجع الإدارة الأمريكية على مواصلة تنفيذ مثل تلك الضربات لاستهداف ما تبقى من قيادات قليلة مؤثرة داخل التنظيم . وإذا كان يمكن اعتبار مقتل الشهري، بحسب البعض، على أنه – إجمالا - لن يكون له تأثير حاسم على قوة التنظيم على الأرض، أخذا بالاعتبار كوارث مماثلة طالت قيادات كبيرة ومؤثرة داخل التنظيم، فإنه من المهم عدم إغفال الرأي المقابل القائل بأن مقتل موحد فرعي التنظيم في السعودية واليمن، من شأنه أن يؤثر ربما على مستقبل "تماسك" التنظيم.
وعادت الطائرات الأمريكية بدون طيار إلى تنفيذ غاراتها في اليمن بغزارة بعد عشرة أيام من إعلان مقتل الشهري"، وبالتزامن مع وصول الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، يوم 25 يوليو/تموز الماضي، وذلك لمطاردة واستهداف عناصر مفترضة من القاعدة، بعد توقف دام لأكثر من شهر ونصف.
وخلال الفترة من 27 يوليو/تموز الماضي، وحتى 1 أغسطس/آب الجاري، نفذت طائرات يعتقد أنها أمريكية، ثلاث غارات جوية على ثلاث محافظات جنوبية، هي أبين، شبوة، وحضرموت، لتقتل ما لا يقل عن 14 عنصرا مفترضا من القاعدة، من بينهم أجانب.
كانت الغارات الجوية الأمريكية توقفت منذ أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، وحتى أواخر مايو/أيار الماضي، لتعاود مجددا عملياتها، ولكن بشكل متقطع، كان آخرها في التاسع من شهر يونيو/حزيران الماضي، لتتوقف بعدها، قبل أن تعود بشكل مكثف أواخر الشهر الماضي.
وإذا كان هناك من يعتقد بوجود رابط ما بين عودة تلك الغارات الأمريكية بعد أكثر من شهر ونصف من توقفها، بالتزامن مع زيارة الرئيس اليمني الأخيرة إلى الولاياتالمتحدة، فإن آخرون لا يعيرون ذلك أدنى أهمية، بقدر ما يهمهم أكثر الربط بين تلك العودة المكثفة للضربات الجوية الأمريكية، وبين إعلان، أو بالأحرى إقرار تنظيم القاعدة بوفاة رجلها الثاني في التنظيم "سعيد الشهري"، السعودي المثير للجدل، متأثرا بجراحه إثر ضربة جوية سابقة نفذتها طائرة أمريكية بدون طيار.
كان قد أُعلن أكثر من مرة عن مقتل "سعيد الشهري" الرجل الثاني في تنظيم القاعدة بجزيرة العرب، خلال ضربات جوية منفصلة، كان آخرها إعلان وزارة الدفاع اليمنية، في 24 يناير/كانون الثاني الماضي، مقتله إثر ضربة جوية في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، في محافظة صعدة اليمنية.
إلا أن الشهري – كعادته - ظهر لاحقا في تسجيل صوتي بث على شبكة الإنترنت في أبريل/نيسان الماضي ليقطع بعدم صحة تلك الشائعات.
لكن، في منتصف يوليو/تموز الماضي، أكد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب رسمياً مقتل رجله الثاني "سعيد الشهري"، المكنى ب"أبي سفيان الأزدي".
جاء ذلك في تسجيل مصور بث في 17 يوليو/تموز على شبكة الإنترنت، ظهر فيه زميله السعودي "إبراهيم الربيش"، ليؤكد أن "الشهري"، أصيب ثلاث مرات في غارات جوية استهدفته، وقتل في المرة الرابعة، متأثرا بجراحه.
كانت حصيلة تلك الضربات، أن أصيب الشهري في كلتا يديه وقدميه وفقد إحدى عينيه في ثلاث غارات جوية منفصلة لطائرات أمريكية بدون طيار، قبل أن يقتل في الرابعة. وفقا لما أفاد به "الربيش" ضمن تسجيله الأخير.
ومع أنه لم يحدد زمان ومكان تلك الضربة الأخيرة القاتلة، إلا أن المرجح، من سياق التسجيل والمعلومات الأمنية السابقة، أن الشهري كان أصيب إصابات خطيرة في الضربة الجوية الرابعة التي استهدفته في 28 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي بمدينة صعدة، ليلقى حتفه لاحقا بسببها.
واعتقل "سعيد الشهري"، بداية في منتصف عام 2002 من قبل القوات الأمريكية على الحدود الباكستانية الأفغانية، ونقل إلى معتقل غوانتانامو، ليتم الإفراج عنه نهاية عام 2007، وتسليمه إلى السلطات السعودية، ضمن برنامج التأهيل السعودي.
لكن الشهري الذي خرج بتعهد قبيلته من برنامج المناصحة، الخاص بإعادة تأهيل العناصر المتطرفة، ظهر مطلع عام 2009 إلى جانب ناصر الوحيشي معلناً دمج فرعي تنظيم القاعدة في اليمن والسعودية، في إطار تنظيم جديد سمي بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، والذي أتخذ من اليمن مقرا له.
وبموجب إعلان الدمج، أصبح الشهري، المولود في سبتمبر/أيلول 1973، موقع الرجل الثاني في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وعين نائبا لقائد التنظيم ناصر الوحيشي.
ويتصدر الشهري قائمة المطلوبين الأمنيين للسلطات اليمنية والسعودية والأمريكية على السواء، وتتهمه جميعها بالمسؤولية عن التخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية تتعدى الحدود اليمنية.
بالنسبة للسلطات اليمنية فالشهري يعتبر القائد الفعلي للتنظيم في جزيرة العرب، حتى رغم إعلان التنظيم، أثناء الدمج، أن القائد الأول للتنظيم الجديد هو اليمني "ناصر الوحيشي" (المكنى بأبي بصير).
وإلى جانب اتهامها له بالمسئولية الأولى عن إدارة "العناصر الإرهابية" من السعودية، فإن الرياض تتهم الشهري أيضا بقيادة المعارك ضد الجيش في محافظة أبين خلال العامين الماضيين.
وبالنسبة للسعودية، فإن الشهري يحتل المرتبة (36) في لائحة تضم (85) مطلوبا للأجهزة الأمنية السعودية. وينسب إليه التخطيط للعملية الفاشلة التي استهدفت اغتيال نائب وزير الداخلية السعودي الأمير محمد بن نايف، في أغسطس/آب 2009.
وبالإضافة إلى تلك الاتهامات فقد كشف التسجيل المصور الأخير، علاقة الشهري بالتخطيط لخطف القنصل السعودي في عدن "عبد الله الخالدي"، الذي اختطف نهاية مارس/آذار 2012، بهدف مبادلته بمعتقلين ومعتقلات في السجون السعودية، والذي مازال مختطفا في مكان مجهول حتى الأن.
ولكون "الشهري" الذي عرف بشخصيته الكارزمية، أحد أبرز الشخصيات الهامة والشهيرة في قيادة التنظيم في اليمن، فإن تأكيد وفاته من شأنه أن يثير جدلا حول ما إذا كان التنظيم في جزيرة العرب، سيتأثر نتيجة فقدانه، أم لا؟.
الإدارة الأمريكية، مع أنها حرصت على الإشارة الى انه لا يمكنها تأكيد خبر وفاة الشهري، إلا أنها وصفت مقتله، بأنه يشكل "انتكاسة" للقاعدة.
وقالت كايتلين هايدن المتحدثة باسم مجلس الامن القومي الأمريكي، في تصريحات صحفية "ليس بوسعنا تأكيد مقتله، لكن اذا كان ذلك صحيحاً فإن خسارة وجه هام ومعروف يشكل انتكاسة في عمليات القاعدة وإسكات لصوت هام في حشد المتطرفين في شبه الجزيرة العربية والعالم بأسره".
غير أن تلك التصريحات قد ينظر إليها على أنها "مبالغ" بها إلى حد ما، بالنسبة لبعض المراقبين المهتمين بشأن تنظيم القاعدة.
ويرى بعض المراقبون أن وفاة الشهري، قد يكون لها تأثير، إلى حد ما، في الدعم والتمويل والتخطيط، والى حد قد يكون مؤثرا بالنسبة لوحدة الصف، غير أنهم يعتقدون أيضا أن ذلك إجمالا لن يؤثر بشكل حاسم على مسار وعمليات التنظيم، المعروف بقدرته على التكييف ومواجهة الصدمات التي يتعرض لها بين الحين والأخر.
ولتعزيز ذلك، يستشهد أصحاب هذا الرأي بما فقده التنظيم على مدى السنوات الماضية، وبشكل دراماتيكي، لقيادات كبيرة مؤثرة داخل التنظيم، أبرزهم الشيخ "أنور العولقي"، الأمريكي من أصول يمنية، والذي قتل في نهاية سبتمبر/ أيلول 2011.
وكان العولقي يعد منظر التنظيم الأول والعقل المدبر لعملياته العابرة للقارات وسجلت بعض العمليات الإرهابية المهمة داخل الولاياتالمتحدة ضده، كما سجلت ضده أيضا محاولات أخرى، تم كشفها وإحباطها مبكرا ، لتفجير طائرات متجهة إلى الولاياتالمتحدة عامي 2009، و2010.
وبسبب تلك الاتهامات صنفت أمريكا فرع التنظيم في اليمن كواحد من أخطر الفروع في العالم، ومثله أيضا كان ينظر إلى مقتل زميله الأمريكي، ذو الأصول الباكستانية "سمير خان"، المعروف بأنه بطل الدعاية والترويج لمبادئ القاعدة بالإنجليزية، والذي كان قتل أيضا إلى جانب العولقي في الغارة ذاتها.
وأكد الربيش في تسجيله المصور الأخير "عدم تأثر التنظيم بوفاة الشهري"، حين قال إن الشهري "قتل بعد ان نشر رسالته وأوصلها الى الناس، وكشف حقيقة النظام السعودي وفضحه، ودعا الأمة لحربه بالبيان والسنان". كما أن الربيش توعد باستمرار الحرب ضد أمريكا و"عملائها"، داعيا من وصفهم بالأعداء بعدم الفرح لمقتله، متوعداً باستمرار الحرب حتى "تدق عظام من أعلنوا الحرب على الإسلام".
وفي السياق ذاته، اعتبر الربيش أن الشهري "ترك جيلاً من المجاهدين يطلبون الشهادة لتطهير جزيرة العرب من دنس أمريكا وعملائها"، موضحاً أنهم لم يصلوا اليه حتى نجح المجاهدون في إيصال القنابل الى قصورهم، مستدلاً بتلك المحاولة الفاشلة لاغتيال الأمير محمد بن نايف، نائب وزير الداخلية السعودي.
وتضمنت كلمة الربيش الذي يعتقد أنه سيكون البديل المناسب ل"الشهري" في التنظيم، التأكيد على وحدة الصف ونبذ الخلافات بين اتباع التنظيم وأنصاره: "حتى لا يفرح الأعداء بتفرقة المجاهدين". بحسب قوله.
وعمليا، يتمتع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بتاريخ كبير يشهد له بقدرته على التماسك ورص صفوفه إثر كل كارثة تحل به، سواء تلك الضربات التي يتلقاها بين الحين والأخر، عبر الغارات الجوية الأمريكية التي غالبا ما تنجح في استهداف شخصيات قيادية كبيرة في الصف الأول، أو عبر الحملات العسكرية (القليلة) على الأرض التي تنفذها قوات الجيش اليمني بمساندة ودعم أمريكي.
إلا أن ثمة أمرا جديدا ظهر على السطح مؤخرا، وهو الخلافات الداخلية بين قيادات التنظيم الذي أظهر التسجيل الأخير وهو ما قد يعمل على إضعاف قدراته على التحرك بحرية، فيما لو استمر يتصاعد أكثر، بدون التوصل إلى تفاهمات وحلول مشتركة.
وإذا كان التسجيل الأخير للربيش، قد حاول أن يبعث رسالة اطمئنان لأنصار التنظيم ب"بقاء قوته"، إلا أنه تضمن، أيضا، تلك الرسالة الأخرى التي كشفت وجود تلك الخلافات الداخلية.
ويرى مراقبون أن تلك الهواجس القادمة من اختلاف أتباع التنظيم، من الواضح إنها توحي بجو مشحون بالسخونة ومناخ غير ملائم يعيشه التنظيم، المحاصر جواً بالطائرات الأمريكية بدون طيار، وبرا بتلك الحملات العسكرية التي تنفذها بين الحين والأخر قوات الجيش اليمنية المدعومة بخبرات وإشراف أمريكي.
ويرى محللون أن الأمر قد يؤثر بإضعاف التنظيم الداخلي، الأمر الذي قد يؤثر بدوره على قدراته الخارجية في ترتيب وتخطيط عمليات أخرى ناجحة في مواجهة شركاء عالميين في الحرب على الارهاب، بضمنها تلك العمليات العابرة للقارات.
وهو ما يتضح، بحسب أصحاب هذا التوجه، أولا: من خلال تراجع مثل تلك العمليات خلال الفترة التي أعقبت اغتيال العولقي، ثم من خلال فشل تنفيذ بعض العمليات النوعية في الداخل، لاسيما بعد إصابة الشهري ووفاته لاحقا، مستشهدين في هذا المقام بآخر محاولة فاشلة لانتحاريين في محافظة شبوة فشلوا مؤخرا في استهداف محطات تصدير الغاز (أواخر يونيو/حزيران، ومطلع يوليو/تموز الماضيين)، وأدت إلى مقتل أحد المنفذين، وفرار الأخر، قبل الوصول إلى هدفيهما.
على أن الأمر الأكثر أهمية، هنا، هو القول بأن معاودة الطائرات الأمريكية بدون طيار عمليتها الجوية مؤخرا قد يشير إلى أن إعلان مقتل الرجل الثاني في التنظيم، فتح شهية الإدارة الأمريكية على مواصلة تنفيذ مثل تلك الضربات الناجحة لاستهداف ما تبقى من قيادات قليلة مؤثرة داخل التنظيم، هذا من جهة.
من جهة أخرى، قد يتعلق الأمر بتخلخل صفوف التنظيم على الأرض ودخوله في حالة تخبط في الحركة والتخطيط، ما أدى بدوره إلى انكشاف تحركاته على الأرض، أو ربما نتيجة تسرب معلومات استخباراتية تكشف عن هذا الضعف والتخلخل الداخلي، ما سيعني أن العمل على مواصلة تلك الضربات في مثل هذا الظرف المؤثر، قد تساعد على المزيد من التشكيكات البينية، عطفا على الخلافات الداخلية؛ وبالتالي استغلال مثل هذه الفرصة الذهبية بتكثيف تلك الضربات الجوية لمزيد من إضعاف وحصر حركة التنظيم في نطاق ضيق ومحدود.