خلال سنوات طويلة؛ ترددتْ كثيراً في الصحافة والندوات والمؤتمرات أحاديث عن أزمة العقل العربي؛ في إطار محاولة البحث عن أسباب حالة التخلف الحضاري التي تعيشها الأمة، وتخصص أشخاص وهيئات في أداء دور القيّوم أو السادن بعد أن تحول الأمر إلى تجارة فكرية مزمنة تستخدم لتصفية الحسابات السياسية وشيطنة من يراد الإساءة إليه! واليوم والعالم العربي يشهد مؤامرة الارتداد عن روح الربيع العربي وأهدافه؛ نكتشف مجدداً أن أكثر الذين كانوا يتجشأون الأحاديث حول هذه الأزمة هم أنفسهم أساس هذه الأزمة، وأسوأ مظاهرها.. ومن مصر إلى تونس إلى اليمن إلى سوريا سوف نكتشف الأزمة الحقيقية للعقل العربي.. وليس أي عقل! بل عقول الفئة الحريصة على تسمية نفسها بالمثقفين والطليعة التي رضيت –إلا قلة تحترم نفسها- أن تكون السلم الذي يصعد عليه العسكر ليدوسوا على العقول، وليعيدوا الروح والمشروعية إلى حكم البيادة والصميل والزيف؛ بعد أن ظنت الشعوب أن رياح الربيع قد اقتلعت بعضاً من أسوأ تجليات حكم البيادة، والمهم أنها هدمت الأسس التي بني عليها حكم الغلبة الجبري لاستعباد الأمة باسم الحفاظ على أمنها!
في هذه الأيام تتجلى فداحة أزمة العقل العربي في ساحات مصر وسوريا تحديداً؛ ففيهما يجد من شاء مظاهر مؤسفة من الزيف، والبهتان، وقلب الحقائق.. والأسوأ: الاصطفاف خلف العسكر وهدم كل ما تم بناه خلال زمن الربيع العربي القصير! وتسابق عتاة دعاة الدولة المدنية، والديمقراطية، ومقاولو حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، ونجوم مؤتمراتها وجوائزها الدولية لترحيب بحكم العسكر، والانقلاب على الإرادة الشعبية النزيهة، والمشاركة في أكبر عملية تزييف وعي.. على الهواء مباشرة، ومارسوا فيها كل ما يمكن أن يتخيله من صنوف التضليل والتزييف حتى فاقوا السابقين في أنظمة الفلول والبقايا في أبأس حالة تجسد أزمة العقل العربي!
••• بعد خلع حسني مبارك؛ حدث خلاف بين قوى الثورة المصرية حول خارطة طريق المستقبل؛ فالقوى غير الإسلامية طالبت بتشكيل لجنة من قبل المجلس العسكري لصياغة الدستور الجديد يعقبه انتخابات نيابية ورئاسية.. وفي المقابل طالبت القوى الإسلامية بإجراء انتخابات نيابية ينتج عنها مؤسسات شرعية تقوم هي بانتخاب اللجنة المكلفة بصياغة الدستور الجديد.. وحسم الخلاف يومها بإجراء استفتاء شعبي كانت نتيجته لصالح الرؤية الإسلامية!
وجرت في النيل مياه كثيرة، وتم إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية واستفتاء على الدستور قبل أن يطيح بكل ذلك انقلاب عسكري كان معظم مؤيديه - باستثناء حزب النور السلفي- هم المهزومين في كل الاستحقاقات الديمقراطية التي جرت بنزاهة لأول مرة منذ ستين عاماً من الحكم العسكري. والذي يهمنا اليوم هو هذه اللجنة التي شكلتها السلطة الانقلابية لتعديل الدستور أو تنقيحه أو إعادة صياغته كله إن استلزم الأمر، وكما هو واضح فاللجنة هذه هي نفسها التي طالبت بها الأحزاب غير الإسلامية منذ البداية، ورفضها الشعب في استفتاء شعبي، وقد حققها لهم العسكر كما أرادوا بقوة الحديد والنار ودماء آلاف المصريين.. وهم بدورهم لم يجدوا في ذلك أي خطأ أو حتى وجهة نظر فضلاً عن أن تكون جريمة، وراحوا يصرون أنها ثمرة ثورة شعبية خالصة!
وفي التلفزيون المصري الرسمي ظهر أعضاء لجنة الخمسين؛ لتعديل الدستور أو تنقيحه أو إعادة كتابته كله؛ بحالة رهيبة من الجدية والآلاطة المصرية المشهورة عن الباشوات والبهوات وأولاد الذوات، وأعلنوا أن الوطن (!) هو الذي اختارهم، فلم تطرف لأحد منهم عين مدنية، ولا اختلجت عضلة ديمقراطية فيهم، ولا اهتزت شعرة للشرعية الشعبية في رؤوسهم شكاً في أن تكون لجنتهم غير شرعية ولا تتفق مع المعايير الديمقراطية بوصفها معينة من قبل سلطة انقلاب عسكري، أو ريبة في أنها لا تمثل التوافق الوطني بسبب رفض قوى مصرية كبرى لها، أو رفضاً لأن يهيمن عليها طرف معين بحكم غلبة العلمانيين فيها، أو تحفظاً من أن المدة الممنوحة لهم لاستكمال عملهم هي شهران فقط؛ وليس ستة شهور التي كانت دليلاً كافياً لتوجيه تهمة سلق الدستور للجنة السابقة!
لا شيء من ذلك حدث بالمرة كما حدث منهم في المرة السابقة، وفيها فجروا أزمة خطيرة في مصر وأحرقوا البلاد، وقسموا الشعب والوطن بحجة أن لجنة الدستور غير شرعية، وغير متوازنة، وتفتقد التوافق الوطني، ثم تآمروا مع العسكر ورجال مبارك وداعميه الإقليميين والدوليين للانقلاب على الحكم المدني الأول من نوعه في مصر. وظهر أبرز أعداء اللجنة السابقة لإعداد الدستور بوجوه "مصلّبة" مطمئنة أنهم على الطريق المستقيم (ألم يختارهم الوطن؟).. فالدكتور جابر نصار (أحد رجال جمال مبارك) الذي رفع دعوى قضائية ضد اللجنة السابقة؛ رغم أنه عضو فيها؛ بأنها غير شرعية، وتم بسببها حل اللجنة الأولى التي شكلها البرلمان المنتخب.. حتى هذا لم يجد في اللجنة الجديدة عواراً ولا شبهة قانونية يهرول بها إلى القضاء؛ رغم تشكيلها من قبل سلطة انقلابية غير شرعية.. ومثله عمرو موسى الذي قاد انسحاب الفلول والعلمانيين من كل صنف وملة وممثلي الكنيسة من لجنة كتابة الدستور بعد إنجاز معظم أعمالها؛ بحجة رفض فرض مواد خلافية (كان من أبرز اعتراضاته رفضه مادة تنص على أن الدولة تعمل على تعريب العلوم والمعارف!).. عمرو موسى هذا عين رئيساً للجنة الجديدة، وظهر متقناً لدور العمدة الحمش تماماً كما كان يفعل أيام كان أميناً عاماً للجامعة العربية، ولم يجد في تشكيل اللجنة ولا في أهدافها المعلنة إهانة للشعب الذي وافق على الدستور (بصرف النظر عن التحفظات عليه)، ولا وجد في غلبة وهيمنة تيار سياسي وفكري على عضويتها ما يجعلها وسيلة لفرض مواد خلافية وتهميشاً للآخرين، وقبل ذلك لم يجد أن اللجنة القانونية التي وضعت مسودة التعديلات؛ وحذفت ما تشاء وأضافت ما تشاء وعدّلت ما تشاء بسرية تامة؛ أنها فرضت ما تريد غصباً عن كل مخالف لها.. بل وجد في كل ذلك شرعية تبيح له أن يشارك في اللعب بالدستور.. وبوقاحة ليس لها مثيل!
••• ما صار مؤكداً بعد الانقلاب العسكري في مصر: أن لا كرامة لدستور في بلد عربي.. فضلاً عن الوثائق السياسية والاتفاقيات، ومخرجات الحوارات والتفاهمات.. طالما أن أي مجموعة من الأحزاب تعطي لنفسها الحق في أن تنقلب عليها، وأن تتآمر مع العسكر والقوى الإقليمية والدولية لإلغاء كل ما اتفق عليه أو استُفتي عليه الشعب بالسهولة نفسها التي يتحدثون بها عن الدولة المدنية، والدستور المدني، والإرادة الشعبية، والصراخ ضد رفض التهميش والإقصاء!
المحنة العربية في هذه البلوى لا تقتصر على مصر؛ ففي كل بلد عربي حدث الانقسام نفسه: من اليمن إلى تونس إلى الأردن وغيرها من بلاد العرب.. في الأردن رفض اليساريون في تكتل النقابات إقامة مهرجان في مقرهم ضد الانقلاب والمجازر التي حدثت! وفي اليمن سارعت مكونات عديدة في مؤتمر الحوار لتأييد الانقلاب العسكري ضد الحكم المدني! وفي تونس انحاز معظم اليسار والعلمانيين تأييداً للانقلاب العسكري، وبدأوا يحشدون أنصارهم لتكرار ما حدث في مصر بالشعارات نفسها، ومؤيدين بالقوى الإقليمية نفسها وقنواتها الفضائية التي صنعت الانقلاب العسكري في مصر!