قال صالح سميع، وزير الكهرباء، إنه يخشى أن يرى في المستقبل يمناً بلا كهرباء. لم يكن جاداً حين عبر عن خشيته بتلك الطريقة الفكاهية. في الواقع إذا تحدثنا عن احتمالين: أن يحصل المواطنون على طاقة كهربائية، أو أن لا يحصلوا عليها، فإن الاحتمال الأول يبدو ممكناً أكثر من الثاني. لكن لماذا بدا صالح سميع كما لو أنه أراد أن يقول نكتة ثقيلة، لا فرضية تاريخية؟ عقد الرجل مؤتمراً صحفياً وتحدث عن أمرين متوازيين: انهيار قطاع الكهرباء، وإعادة إعمار قطاع الكهرباء. قال إن هناك مشاريع ضخمة لإنتاج الطاقة، ومشاريع آخرى موازية لتدمير الطاقة. ثم استنتج في سرده أمام الميكرفونات أن الشعب اليمني قد يصبح شعباً بلا نور. كان ممكناً أن يصل لاستنتاج آخر لكنه فضل تلك الخلاصة الفكاهية التي لا تضحك أحداً. جلال عامر، الكاتب المصري الراحل، توقع قبل موته أن يكون هناك «شعب بلا نور». سرعان ما صار الأمر حقيقة في اليونان. فقد التقطت عدسة مصور صحيفة «دي فيلت» الألمانية صورة ليلية لقطاع واسع من مدينة أثينا عاصمة اليونان يغرق في الظلام باستثناء محل صغير على ناصية شارع. علقت الصحيفة: آخر رجل في أثينا سيطفئ الأنوار.
سيكون ذلك الرجل الأخير الذي سيطفئ النور هو صالح سميع، ربما. سميع سيقول، كالعادة: بل أنا أول رجل سيفعل ذلك. سنحصل، عندئذٍ، على شعب بلا نور. الانهيار الاقتصادي في اليونان أوجد تلك الصورة المفزعة. في اليمن، ثمة ما هو أخطر من انهيار المؤسسات المالية: انهيار المجتمع أفقياً. دعونا لا ننسى أن هناك قرحاً كبيرةً تنمو، وتترك نزيفاً. تزحف بأقدام «أميبيّة» قاتلة في كل الاتجاهات. في طريقها تطفئ الأنوار بالطبع.
إذا استمعنا لخبراء طب الطوارئ سنجدهم يقولون دائماً للمتدربين عالج ما يقتل المريض أولاً. صالح سميع لا يمكنه أن ينفذ تلك التعليمات فهو ليس المعالج. في واقع الأمر هو أحد المرضى الذين يشرفون على الموت. الذي يقتل المريض أولاً هو القرح الكبيرة التي تكبر في كل الاتجاهات تطفئ الأنوار وتفعل ما هو أكثر خطورة من «وضع العصا في العجلة» بحسب وصف الرئيس هادي.
القبيلة أيضاً، وهي حقيقة اجتماعية تاريخية كالأنهار والجغرافيا ليست المعالج، ولا القاتل. ليست الرجل الذي يطفئ الأنوار. هذه الجريمة المنظمة التي تنفذ على مدار الساعة من المتوقع أنها تحقق مكاسب لرجال أعمالها. لكنها أيضاً نوع من اللعب على المكشوف. تبدو انتقاماً مبالغاً في وضوحه، وفي أفضل مكاسبها لن تكون سوى على هذه الصورة: لقد انتقم المهزوم وفشل المنتصر. هذا النوع من المعادلات لن يجلب المهزوم المنتقم مرة آخرى لتتويجه بطلاً، بل سيطرد المنتصر العاجز. بتعبير ما: عندما تفشل حكومة باسندوة، نصف رجالها من جماعة صالح، فلن يكون بمقدور أحد أن يجني ثمرة هذا الفشل. الرئيس السابق كان رجلاً مغامراً، وشجاعاً. لقد استطاع أن ينتقم من خصومه حتى تجاوز أبعد حدود الجريمة. مثلاً: عندما كان علي الصراري معتقلاً عنده في صنعاء، بعد حرب صيف 94، كان ضباط صالح يحضرونه إلى مجلسه للتلهّي. يلوك الأخير أعواد القات بشهية دب على جبل. يقهقه، يلقي النكات البذيئة، ثم يقول للصراري: أبناء الشهداء يصرون على قتلك، وأنا أمنعهم. عندما يلمح علامات التوتر والقلق في ملامح خصمه المعتقل يغمره ذلك الشعور الكاليغولي المتوحّش، يتنفس بعمق، ثم يعيد الصراري إلى معتقله. يوماً ما، أتوقع، سيروي علي الصراري هذه الأحداث بالتفصيل، أو هذا ما أرجوه من الرجل الذي أعرفه جيداً.
لن يثبت صالح فرضية كبيرة عندما يدفع الناس للقول: يا إلهي، إنه يجيد الانتقام. فهو لم يؤلف كتاباً كبيراً حول الطرق الموعودة لتوفير الطاقة التي عجزت الحكومة عن اكتشافها.
كل ما في الأمر أن هناك مجموعة منظمة تعمل بدأب كبير على تدمير أبراج الطاقة.
ثمة قاعدة في علوم السياسة تقول: من يعمل على نسف الجسور وتدمير الأبراج لا يصلح لأن يكون وزيراً للأشغال. هذه البدهية هي أيضاً واحدة من عقائد الجماعة البشرية، التي لا تحتاج لبراهين كثيرة.
انهزم صالح سميع، على الرجل أن يعترف بذلك. هو ليس في حزب الإصلاح لكن هذا أيضاً ليس السؤال الأهم. لو كنت في مكانه لاستقلت من منصبي، وتركت مقعد يوم الثلاثاء لرجل آخر من المؤكد أنه أيضاً سيفشل. أو كنتُ سأفعل شيئاً آخر سآخرج على الجماهير بجدول أرقام وحسابات وبيانات كل صباح، سأحول اللعبة إلى مجرمين وعدالة، لا خطاب سياسي. ربما كانت لديه حسابات معقّدة، أو أنه يريد أن يقول إنه لا ينهزم بسهولة. هذا اللون من الحسابات متوقع، لكن من المتوقع ألا ينجح سميع في المستقبل أمام هذه الجريمة المنظمة. أي أنه سيضحي بمستقبله السياسي.
تحدُث كثيراً معادلات ضخمة ضد الثورة، كل الثورة. لكن الرئيس السابق الذي أسقطته الثورة قرر أن يسقط كل أعمدة الكهرباء. ثمة رواية بالغة الذكاء لإيتالو كالفينو اسمها «الفسكونت المشطور» تتحدث عن رجل شقته المدفعية التركية إلى نصفين: نصف من الشر الخالص، ونصف من الخير الخالص. ذهب «نصف الشر» إلى البلدة يقطع الأنور، والأزهار، يذبح الماشية، يسمم المياه، ويقتل النسوة. بينما اتجه النصف الجيد من الرجل إلى ترميم كل بشاعات النصف السيئ.
في المشهد الأخير يلتقي النصفان ويخوضان معركة كبيرة تنتهي بالتحامهما معاً في مخلوق متعادل من الخير والشر. دعونا نكن أكثر واقعية من فكرة انتظار النصف الخيّر من صالح، ذلك الذي فقده في مكان ما في زمن ما، ربما في ميناء المخا قبل نصف قرن من الزمن. فربما كان النصف الشرير، الذي نراه أمامنا منذ ثلث قرن، قد قتل النصف الخيّر، ودفنه في رمال تهامة إلى الأبد.