القاعدة الذهبية التي سار عليها نظام الرئيس السابق صالح هي "دعْه يسرق دعْه يمر"، وهي تحوير كثيف الدلالة للمبدأ الرأسمالي المعروف "دعه يعمل دعه يمر" يتناسب مع الحالة اليمنية، بعد تجريده من ميكانزمه الخاص، ووضعه في سياق "تنافسي" من نوع مختلف. تقوم قاعدة "دعه يسرق دعه يمر" على التزام السلطة برعاية الفساد بكل أشكاله، وتمكينه من نفسها دون أدنى مقاومة في علاقة فجور علنية ومتجددة، تأخذ شكل إطلاق "التنافس الحر" في مضمار نهب الثروات العامة، وتذليل العقبات أمام النمو السريع للثراء الخاص والفاحش، وغلّ يد الدولة عن التدخل من أجل المسحوقين، وتركهم يواجهون الفساد المتوحش مجردين من كل سلاح ودون أي غطاء سياسي أو قانوني. لقد قطعت السلطة في اليمن شوطاً كبيراً في تنمية الفساد وتحويله إلى "نمط حياة" بتعبير الدكتور جلال أمين، وفي بعض الأوقات لم تتوانَ عن توسيع رقعة الفساد من أجل ادعاء شرف محاربته، كما لم تتردد في استيعاب نخب ووجوه جديدة في دائرة الفساد من أجل البرهنة على جدواه وأهميته لحفظ توازن النظام، ولعل هذا ما دعا الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى وصف الفساد في اليمن في تقريرها الصادر عام 2006 بأنه "الغراء" الذي يبقي الأمور في مكانها، ووصف نظام الرئيس المخلوع ب "نظام الفساد الكبير"، وهو لقب لا أظن أن نظاماً في العالم بما فيها الأنظمة المافوية والزبائنية بمختلف أشكالها في العالم الثالث قد حصل عليه بتلك الجدارة والاستحقاق.
سنستخدم في هذا المقال مفهوم "لا مركزية الفساد" كأداة لتحليل فساد النظام اليمني من الزاوية التي تعنينا في سياق الحديث عن فيدرالية الأقاليم، ونقصد ب"لا مركزية الفساد" شبكة متكاملة من الفاسدين المرئيين وغير المرئيين الذين ينتظمون بصورة عقلانية في صورة حلقات متسلسلة تتدلى من المركز وتتفرع عنها شبكات أخرى تصل نزولاً إلى أصغر حي أو قرية في اليمن، تلك الشبكة وإن بدت غير معقولة في نظرنا وغير قابلة للرصد والتحليل إلا أنها موجودة في الواقع، لكننا لا ندرك وجودها سوى من خلال آثارها، إنها ذات بنية مراوغة ومخاتلة وليس من السهل ادعاء الوقوف عليها أو الكشف عنها أو التعرف على آليات اشتغالها بل حتى على بعض شخوصها، إنها أشبه بالعاصفة التي لا نستدل على مرورها سوى بالخرائب وخرائط الدمار التي تركتها، ومهما ادعينا رصدها ومحاصرتها نفاجأ مجدداً أنها قد ضربت في مكان آخر وبالطريقة نفسها. إن قصورنا عن إدراك تلك "الشبكة" التي حكمتنا أكثر من ثلاثين عاماً وما تزال لا يقلل من حقيقة أن لها ترسانة من القوانين غير تلك التي نراها ونسمع عنها، ولها قواعدها ومصطلحاتها و"أخلاقها"، ولها مثقفوها وبيروقراطيوها وعلماؤها، وأحياناً تكون قريبة منا أكثر مما نتصور، أو نكون نحن جزءاً منها دون أن نشعر.
هذه الشبكة اللا معقولة وغير المرئية تحظى برعاية دائمة من "المركز" الذي يشكل القلب منها، وهي من الناحية الفعلية أداته في الحكم والسيطرة بعد أن جرى وضع الدولة ومؤسساتها وقوانينها جانباً، على أن مواقع عناصر هذه الشبكة تتفاوت في سلم الفساد من حيث الدرجة والقوة، بين غيلان كبيرة تمتص دون رحمة أرزاق الناس وأقواتهم وثروات البلد السيادية، وتستنزف ماليتها العامة، وتهضم دون عسر كل ما يرميه إليها المركز من صفقات ومناقصات ومقاولات وعمولات، وبين "قطط" صغيرة تهيم في طريق الفساد لتأكل كل ما يقع تحت يديها من أقوات البسطاء، أو تقتات على ما يتركه لها الكبار. والأهم أن المنخرطين في لعبة "لا مركزية الفساد" هم من جميع فئات المجتمع: سياسيين ومثقفين وشيوخ قبائل وحقوقيين وقضاة وأكاديميين، معارضين وموالين، حداثيين وتقليديين. وهؤلاء جميعاً سواءً كانوا أفراداً أم مؤسسات لديهم ما يشبه التفويض الكامل بممارسة الفساد دون الرجوع بالضرورة الى المركز، فالأهم في لعبة "لا مركزية الفساد" هو أن تفهم قانونها العام، أي أن تمارس اللصوصية بانضباط في إطار القانون العام للنهب والفساد الذي يرعاه المركز، ودون التسبب للمركز بمشكلات كبيرة أو تجاوز خطوطه الحمراء.
من خلال لعبة "لا مركزية الفساد" يسعى المركز حثيثاً لتوريط المجتمع في الفساد، وإشاعته كثقافة وممارسة، بحيث يبدو جسم المجتمع مصاباً بداء المركز، وفاقداً القدرة على محاسبته ومواجهته، كما تظهر بين المجتمع وبين فساد المركز حلقات من الفساد المحلي والقروي والمشيخي والمدرسي والنقابي .. إلخ ينبغي على المجتمع تحطيمها إن أراد الوصول إلى فساد المركز وتحطيمه، وهي مهمة غاية في الصعوبة.
عندما قامت ثورة فبراير 2011 كان أخطر ما واجهته هو هذه التركيبة التي أفرزها نظام "لا مركزية الفساد"، فالأغلبية الصامتة التي ترددت في الانضمام للثورة رغم قناعتها بالتغيير، والتي كان يمكن لانضمامها النشط للثورة أن يحسم الأمور باتجاه آخر، وقفت في حيرة شديدة أمام هذا المزيج من الفساد المتشابك والمتداخل، لم يكن بمقدورها مثلاً أن تفرّق بين فساد علي صالح وفساد علي محسن، بين فساد قيادي في الحزب الحاكم وفساد وجيه محلي ينتمي إلى المعارضة، بين فساد شيخ قبلي وبين فساد مثقف حداثي يدعو للدولة المدنية. "كلهم فاسدون" كان هذا هو منطق الأغلبية الصامتة، وللأمانة منطق قطاع كبير من الثوار الشباب الذين تمكنوا – بمشقة بالغة- من إجراء ترتيب سريع للأولويات يسمح لهم بالمشاركة في الثورة كفعل جماهيري هدفه الإطاحة برأس النظام أولاً ثم الإطاحة بأزلام الفساد الأخرى التي هي - شئنا أم أبينا- جزء أصيل من النظام.
قامت الثورة إذن على "فلسفة" التغيير الرأسي من أعلى، والحقيقة أن ثورة فبراير – وأنا أقول هذا الكلام بألم شديد- كشفت لنا عن محدودية قدرتنا كيمنيين في هذا الظرف على تحقيق التغيير السياسي الشامل بطريقة رأسية، لذلك دعونا الآن نبدأ بالتغيير من أسفل، والتغيير من أسفل هو تغيير مجتمعي قائم على إطلاق سلسلة من الثورات الاجتماعية الصغيرة – مهما كان في هذا المفهوم من مبالغة- كاستراتيجية اجتماعية تنطلق أفقياً في كل إقليم على حدة، هنا فقط يمكنني الحديث عن الخيار الذي يقدمه نظام الدولة الفيدرالية متعددة الأقاليم في تمكين المجتمع من محاصرة جيوب الفساد بصورة يمكن أن تكون فاعلة، وفي تحقيق تنمية مجتمعية ممكنة.
لا مفر من التفكيك التحتي لنظام لا مركزية الفساد، أي جعل الناس يواجهون حلقات الفساد الصغرى في القرى والمديريات والمحافظات بوسيلة حضارية مدنية مقننة، تلك هي الوسيلة الأفضل للتغلب على نواتج لا مركزية الفساد وإذابة ذلك "الغراء" الذي أبقى على النظام السابق كل هذه السنين، وما يزال يهددنا بإنتاج نظام جديد على الشاكلة نفسها، ويتطلب ذلك تحقيق ثلاثة شروط في تقديرنا: الأول: هو إضعاف الحس الرعائي للمركز، وكف يده عن التدخل في مسار تلك المواجهة المنتظرة، ومنعه من تقديم يد العون للفاسدين والمتنفذين وتقويتهم كما هو دأبه، ولا شك أن رفع دعم المركز عن هؤلاء الفاسدين سيجعلهم أضعف مما هم عليه بكثير.
الثاني: إيجاد إطار مختلف لتلك المواجهة التي هي في الحقيقة عملية تنمية مجتمعية تبدأ بتحرير المجتمعات المحلية من قيود الفساد والاستبداد المحسوسة والمباشرة. إنها إطار ينظم الجماهير المحلية، ويطلق طاقتها، ويمنحها حريتها في العمل والإبداع والمبادرة، ويحفزها على المشاركة وهي تدرك أن بمقدورها أن تحاسب وتراقب، وأن تضغط وتؤثر، وأن ترى عوائد التنمية في معاشها ومناحي حياتها، لا أن تصب مجهوداتها في أيدي قلة فاسدة يدعمها مركز مشوه، هذا الإطار باختصار شديد هو "الإقليم الفيدرالي" بالمفهوم المتعارف عليه، والذي نعده الأنسب لتحقيق تنمية مجتمعية حقيقية وإنجاز تلك المهمة التاريخية.
الثالث: هو أن تكون الدولة الاتحادية ذات الأقاليم نتاج اتفاق وقناعة مشتركة، أي أن تكون خلاصة حوار تواصلي ومجتمعي شامل لا نتاج ضغط خارجي، وهذا يتطلب عرض فكرة هذه الدولة على المواطنين، وتركهم يتناقشون ويتساءلون ويجدون إجابات مقنعة عن مخاوفهم وعن تصورهم للمستقبل، فالصعوبات في طريق هذه الدولة ليست هينة وسبيل تذليلها هي اقتناع الناس بجدواها أولاً.
تبقى الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في المقال السابق: ما هي الضمانة لعدم سيطرة "النخب الفاسدة" على الأقاليم بعد البدء بمشروع الدولة الاتحادية ذات الأقاليم؟
يجب الاعتراف دون مواربة أن الأمر ليس بسيطاً، ففي بداية تجربة الأقاليم الفيدرالية ستقفز نخب فاسدة إلى صدارة المشهد في أكثر من إقليم، وستكون أقرب إلى الفوز في الانتخابات بأنواعها، أجل سيحدث ذلك دون شك لأن النخب الفاسدة لن تتخلى عن مواقعها بسهولة، لكن ذلك سيحقق فائدتين، الأولى: هي أن كثيراً من النخب المسيطرة على المركز ستضطر إلى نقل جزء كبير من "أنشطتها" إلى الأقاليم من أجل خوض معركتها الأصلية هناك، لأنه لا معنى لاستمرار نفوذها في المركز ما لم يكن مدعوماً بنفوذ قوي في الإقليم (المنبع)، غير أن الجديد في هذه المعركة هو أنها ستكون معركة النخب الفاسدة لوحدها وبدون مساعدة المركز، كما أنها ستؤدي بمرور الوقت إلى تشتيت جزء كبير من قوة تلك النخب الضاغطة على المركز وتحولها باتجاه الإقليم، وهذا جيد بالنسبة لنمو مؤسسات المركز.
الثانية: هي أن النخب الفاسدة ستجد نفسها في مواجهة جماهير الإقليم بصورة مباشرة وصريحة ووجهاً لوجه، فمثلاً سيسيطر الحوثيون على إقليم تكون محافظة صعدة جزءاً منه، وقد يسيطر مشائخ بعدان على إقليم تقع بضمنه محافظة إب، ويسيطر آل الأحمر على إقليم تكون فيه محافظة عمران ... وهكذا، ولكن في جميع الأحوال سيكون على هذه النخب أن تخوض معركة جديدة عليها كل الجدة، أي أنه سيكون عليها أن تنجح أو تفشل في إدارة الإقليم وتنميته، فإذا فشلت واستمرت في غيها وفسادها فسيكون عليها مواجهة عواقب ذلك الفشل وتحمل نتائجه، وربما مواجهة فورة اجتماعية من جماهير الإقليم قد تقود إلى تغيير خارطة القوى الاجتماعية على مستوى الإقليم.
علينا أن لا نقلق من مثل تلك السيطرة المؤقتة للنخب الفاسدة على بعض الأقاليم في حال حدثت، لأنها مرحلة ضرورية لا بد من المرور بها، وهي الخطوة الأولى لكسر هيمنتها وفسادها ثم تجاوزها بصورة كلية لاحقاً.
قد يقول قائل: لكن هناك شكلاً آخر للسيطرة هو أن تكتفي "النخب الإقليمية" بلعب دور خفي ولا تدفع بنفسها إلى الواجهة حتى لا تتحمل عبء حكم الإقليم وبالتالي عواقب الفشل في حال حدوثه، فتظل تمارس نفوذها بصورة غير مرئية، هذا أمر وارد أيضاً، وإن كان تجفيف مصادر الفساد الكبرى في المركز سيدفع النخب الإقليمية إلى الانغماس في شؤون الأقاليم لتعويض بعض ما فاتها في المركز أو للحفاظ على مكانتها الاجتماعية على أقل تقدير، كما أن الشباب الطموح من أبناء تلك النخب لن يستطيع مقاومة إغراء ممارسة الحكم في الأقاليم وسيندفع إلى الواجهة بقوة وربما بنزق. على أية حال لا يجب أن نغفل ونحن نناقش هذا الأمر أن عجلة الوعي تتحرك، وأن التطور المجتمعي سيأخذ مداه، وأن مشاركة الناس في شؤون الإقليم ستكون أبعد عن اللامبالاة لأن في ذلك مساس بحاجاتهم الضرورية والمباشرة، وأن شباب الإقليم ومتعلميه وقواه الحية ومثقفيه وصحافته وناشطيه لن يتخلوا عن أدوارهم بسهولة. بمعنى آخر ليس علينا أن نصور المجتمع وكأنه في حالة سكون وجمود كامل، وأن النخب الفاسدة وحدها من يخطط ويتحرك في فراغ مجتمعي خالٍ من أي استراتيجية دفاعية.
هل سيستغرق هذا الأمر وقتاً طويلاً، أجل، فمن ذا يملك أن يقول للتغيير الاجتماعي كن فيكون!
فدعونا إذن نذهب الى المستقبل ونحن نمتلك الثقة بأنفسنا، دعونا نتغلب على الخوف من فيدرالية الأقاليم، حتى لا يأتي زمن نأسى عليها كما نأسى اليوم على "حكم محلي" كان ممكناً بعد الوحدة، دعونا نعش موحدين في وطن فيدرالي يقوم على مفاتيح ثلاثة: تنمية، ديمقراطية، ووحدة تعايشية "غراؤها" أخوة وطنية ودينية وحضارية لا تنفصم عراها.