في تعليقه على خبر فوز الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون بمقعد في برلمان بلاده! أورد الأستاذ فهمي هويدي – نقلاً عن وكالة الأنباء الفرنسية- معلومة مفزعة أن من أسباب الحكم بالإعدام على زوج عمته جانج سونج تابك (67سنة) أنه "لم يكن يصفق بحماسة أثناء اجتماعات القيادة" أي عندما كان الزعيم يخطب! ولكي نعرف فداحة الجريمة التي ارتكبها عم الزعيم ومساعده الأبرز؛ فهي تهمة من الكبائر أو جناية تساوي الخيانة العظمى في بلد يقول إعلامه الرسمي عن زعيمه يوم إعلان نتيجة الانتخابات (حصل فيها على 100%): إن العصافير تغرد له.. والأجنة تصفق له وهي في بطون أمهاتها! تخيلوا العصافير تغرد للزعيم.. والأجنة في البطون تصفق له.. والعم كيم جونج يتساهل في التصفيق ويخفض نسبة الحماسة فيها؟ المفزع في الخبر ليس إعدام العم العزيز بتهمة ضعف حماسة تصفيقه، فهذا أمر قد عرف؛ ولكن فيما يمكن أن يكون قد حدث لآخرين من أعضاء القيادة العليا في كوريا الشمالية؛ وكذلك لمواطنين آخرين؛ ارتكبوا أخطاء بالضرورة البشرية طوال سنوات عمر الجمهورية الشعبية الديمقراطية (!) وهم يستمعون لخطب الزعيم المؤسس كيم إيل سونج ثم ابنه ثم حفيده الرئيس الحالي! كأن يكون أحدهم قد غلبه النعاس.. أو تثاءب (أي تقعّم).. أو التفت برأسه دون انتباه ناحية طبق التفاح الموضوع أمام الزعيم، وانشغل بحلم أكله عن الاستماع لخطبة الزعيم! لا شك أن عقوبة أمثال هؤلاء ستكون أشد نكالاً من مجرد الإعدام السريع الذي يحمل في طياته راحة من العذاب، والله وحده يعلم عدد الكوريين الذين قبض عليهم متلبسين بجريمة عدم احترام الزعيم، والتقليل من أهميته، وتاريخية الخطاب الذي كان يلقيه على مسامعهم! يعني بالعامية: "الراجل يتعب ويكتب ويقرأ وفلان أو زعطان من الناس جالس مطننن وسارح في الخيال بدل ما يسمع ويحفظ له كلمتين تنفعه يوماً ما.. وتقولوا: الإعدام كثير عليه.. الأصل يحرقوه ويقطعوه إرباً إرباً!".
العقوبة الأشد.. نكالاً! سيقول البعض: وما أدرانا أن شيئاً من ذلك قد حدث؟ وأن الأمن الكوري ضبط مواطنين نائمين أو يتثاءبون أو لا قدر الله يختلسون النظر إلى الفاكهة المحرمة؟ لنتفق أولاً أن الحالات الإنسانية المذكورة التي قد تصيب المستمعين لخطبة الزعيم من الأمور الممكن حدوثها بضرورة الطبيعة البشرية في أي مكان ومع أي خطيب! فإذا اتفقنا على ذلك فما الذي يمنع أن تكون عقوبتها أشد من الإعدام نفسه؟ فإذا كان الزعيم أعدم زوج عمته العجوز لأنه صفق بدون حماسة أو بحماسة قليلة الدسم؛ فما الحكم المتوقع على آخرين قد يكونون ضبطوا بما هو أشد إجراماً من ذلك؟ النعاس كما سلف أو التثاؤب أو الانشغال بالتوافه، واختلاس النظر المحرم إلى الفاكهة المطروحة أمام الزعيم بدلاً عن متابعة خطابه؟ بالعقل والمنطق والتجربة؛ فطالما أعدم أحد زعماء البلاد لأنه كان يصفق بدون حماسة؛ فالمؤكد أن الآخرين – الذين ناموا أو تثاءبوا أو انشغلوا- عوقبوا بأشد عقوبة في القانون الكوري، وهي الحبس المؤبد والاستماع 24ساعة لكل خطب الزعماء الثلاثة منذ تأسيس الجمهورية الكورية الديمقراطية الشعبية، وحفظ مختارات منها جزاءً وفاقاً! وافتراض أن العقوبة تشمل حفظ مختارات من خطب الزعماء الثلاثة، وأداء امتحان شفوي ونظري أسبوعياً حول مضامين الخطب المقررة؛ من باب ألا تحدث مغالطات من نوع ما؛ كأن يتظاهر المحكوم عليهم بالاستماع كذباً وزوراً؛ بينما يكونون هذه المرة في سابع نومة.. أو يحلمون أحلاماً سعيدة أن الزعيم حكم عليهم بالإعدام وأراحهم من كل شيء! من تمام العبرة أن نحاول معرفة لغز: كيف استطاع الزعيم الكوري الشمالي وأجهزته معرفة أن تصفيق العم العزيز كان أقل حماسة مما هو مفترض! أما مراقبة الحالات الأخرى كالنوم والنعاس والانشغال بالعين عن الزعيم المعبود فهذه أمور سهلة، وتكفي كاميرات المراقبة لضبط المجرمين تمهيداً لتقديمهم إلى محكمة فورية! وصحيح أن العم المنكوب كان يقترب من السبعين ومن المفهوم أن يكون تصفيقه ضعيفاً نوعاً ما.. إلا أن التهمة استندت بدون شك إلى معايير علمية؛ والذين صنعوا الصواريخ عابرة القارات والقنابل النووية في كوريا قادرون دون شك على ابتكار أجهزة ليزر حساسة لقياس قوة التصفيق من عدمه! فالتصفيق له معيار لبيان درجة الإخلاص والصدق والحماسة مثل عدد الخبطات بين الكفين في الدقيقة الواحدة! وحجم الابتسامة التي ترافقها! وهل يصاحب التصفيق هز الرأس استحساناً وتأييداً أم أن التصفيق في وادٍ والرأس في وادٍ آخر؟ إلخ المعايير التي تضبط عملية تقييم التصفيق ومصداقيته! ولا شك أن تجربة أكثر من ستين عاماً في ظل الديمقراطية الشعبية والجمهورية الملكية قد رسخت التقاليد العلمية في هذا المجال؛ بحيث لا يستطيع أي خائن أن ينكر أنه ارتكب الجرم العظيم في حق الزعيم متعللاً - على سبيل المثال- بأنه بريء، وأنه يعرف واجبه الوطني بعد أن قضى معظم عمره في التصفيق للزعيم وأبيه وجده.. لكن العبرة بالخواتيم! ديمقراطية.. التصفيق! لا أحد يعرف خطورة التصفيق وأهميته إلا من عاشوا في ظل أنظمة ديكتاتورية شيوعية أو يمينية.. وخاصة أنظمة الحكم الديكتاتورية العسكرية التي يحكمها زعماء يعامَلُون كالآلهة! ولا أحد يعرف قيمة الكفين في ممارسة الديمقراطية إلا الذين عاشوا في ظل الأنظمة المذكورة؛ فالتصفيق والكفان هما التجسيد الحقيقي للديمقراطية الشعبية أو الديمقراطية العسكرية؛ يستخدمها المسؤولون والعامة على حد سواء في التعبير عن مواقفهم وموافقتهم الدائمة للقرارات! وكما أن المواطنين يمارسون الديمقراطية بالتصفيق المتواصل، والهتاف غير المنقطع؛ فالمسؤولون مثل أعضاء الحكومات، والبرلمانات والمجالس الشعبية، وفي اجتماعات المؤتمرات العامة واللجان المركزية هم أيضاً يمارسون الديمقراطية برفع الأيدي جماعياً موافقة على كل قرارات الزعيم ثم التصفيق بقوة وحماسة! وللتذكير فإن أشهر الأوضاع التي كانت ملحوظة في الصور التذكارية التي تنشرها مثل هذه الأنظمة على الملأ؛ هي صور المواطنين والقيادات وأيديهم تصفق.. أو يلوحون بها بقوة تأييداً (على طريقة القذافي!).. أو صور المسؤولين وأيديهم مرفوعة دون استثناء حال موافقتهم الفورية على مقترحات أو قرارات الزعيم!
أمثلة إضافية: لا تظنوا أن التصفيق في ظل نظام ديكتاتوري أمر هامشي؛ ففي بعض البلدان الشيوعية كانت هناك طقوس محددة سلفاً للتصفيق.. وليس أي تصفيق، بل التصفيق بنغم معين مع ترديد شعارات معدة سلفاً تناسب المقام والمناسبة.. ولا بد أن يشارك فيه الجميع وقوفاً من أعلى مرتبة إلى الأدنى! الأستاذ محسن العيني روى في ذكريات حياته السياسية حكايته مع الديكتاتور العراقي الزعيم عبدالكريم قاسم حول التصفيق.. فقد حدث أن كان العيني في بغداد لمهمة نقابية عند قيام ثورة 26سبتمبر1962، وسمع العراقيون بنبأ الثورة قبله، ومعه سمعوا نبأ تعيينه وزيراً للخارجية.. فاستدعاه عبدالكريم قاسم لمقابلته والحديث معه.. والشاهد هنا أن الديكتاتور العراقي في ختام اللقاء أهدى العيني نسخة من مجلد يضم الخطب التي ألقاها على العراقيين.. ولم يكتفِ بالإهداء فقط بل راح يستعرض مع ضيفه اليمني عدداً من المقاطع التي قال إن الشعب صفق له عندها! وبالطبع خجل العيني من سؤال الزعيم عن كيفية معرفة هذه المعلومة أو كيف أنه ما يزال يتذكرها!
في التراث الساخر للمصريين؛ أن زعيماً سابقاً أراد أن يتأكد من صحة التقارير التي تتحدث عن شعبيته الأسطورية، فتنكر ودخل إحدى دور السينما التي كانت تعرض أخباراً مصورة عن نشاطاته العامة على الطريقة القديمة؛ وارتاح الزعيم لشعبيته عندما وجد صالة السينما تضج بالتصفيق عند ظهور صورته لكنه فوجئ بالجالس إلى جواره يلكزه بقوة في جنبه وهو يهمس له مرعوباً: صفِّق يا حمار.. حتودّي نفسك في داهية!
في حكاية ذات دلالة عن معنى التصفيق في بعض الأحيان؛ سمعتها من أحد الأخوة شارك في رحلة إلى عدن في الأيام الأولى التي تلت التوقيع على اتفاق 30 نوفمبر 1989، وأقام أعضاء الرحلة حفلاً في منطقة المعلا، وكانت هناك واقعتان ملفتتان للنظر؛ الاولى أن حشود الشباب التي حضرت الحفل راحت تردد بحماس نشيد "مؤامرة تدور على الشباب.." بما يؤكد معرفتهم لها.. أما الوقعة الثانية فقد حدثت في بداية الحفل، فبمجرد أن افتتح مقدّم الحفل البرنامج قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم.. دوى المكان.. بالتصفيق الحماسي!