سأحاول هنا الكتابة بطريقة مختلفة في التعليق على الجرائم العنيفة التي راح ضحيتها الكثير من إخواننا في الأمن والجيش، متجاوزاً التنديد والشجب والاستنكار بالطريقة التي تعايشنا معها حتى أصبحت "كليشة" جاهزة للتعليق على تلك الجرائم، وقد تزيد بعض التعليقات بالمطالبة بالتحقيق في تلك الجرائم، وهو مطلب بدهي، لكننا نغفل كثيراً عمّا يمكن أن نسميه "الخطوة التالية" لتلك الإدانات والمطالبات، في محاولة الإجابة على سؤال: كيف يمكن متابعة الجهود المخلصة في تعقب المجرمين ومعرفة نتائج التحقيقات؟ ولا أريد الوقوع في تكرار ما قلته في مقالة "التحقيق عجّل الله فرَجَه"، لكننا حقاً بحاجة إلى أن ننتقل بالوعي الجمعي إلى ما بعد التنديد والمطالبة بإجراء التحقيق في تلك الجرائم البشعة التي لم نعد قادرين على إحصائها بسهولة!، كما أن المشكلة الأمنية في بلادنا بحاجة إلى نقد الذات بكل تجرد ومصداقية من أجل تلافي الأخطاء التي تتغذّى منها تلك الجرائم.
وقبل الحديث آملُ بأن ندع المزايدات في موضوع الإيمان بالقضاء والقدر، جميعنا في هذه الأرض الطيبة مسلمون ومؤمنون بقضاء الله وقدره، ومؤمنون أيضاً بأن الله وهب للإنسان العقل ليفكر في أموره ويُدبّر شؤونه ليحقق الأسباب بما يعود عليه وعلى غيره بالخير ويمنع الشر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم .. الآية) وروي عن النبي الكريم قوله "اعقلها وتوكل" يخاطب رجلاً سأله: أترك ناقتي وأتوكل أم أعقلها وأتوكل؟
ما يحدث لإخواننا من رجال الأمن والجيش من اعتداءات وحشية متكررة يسلط الضوء على ماهية الأسباب الاحترازية التي يتخذونها في مواجهة تلك الجرائم، وهل تتم موافاتهم وإحاطتهم علماً وتدريباً بكل أساليب العصابات الهجومية والدفاعية من أجل الاستعداد والقدرة على مواجهتها، بما يحقق احتراف العمل الأمني الذي يسهم في التقليل من الخسائر والضحايا!
مجموع ضحايا الجريمة الأخيرة في حضرموت يتجاوز العشرين جندياً، وهذا يعني غياب أو لنقل ضعف روح الجاهزية ووضع أسوأ الاحتمالات، يجب أن نعترف بوجود حالة من الاسترخاء في صفوف غالبية جنودنا، نجد ذلك كمواطنين في نقاط التفتيش وفي سيارات الشرطة وعند بوابات المنشآت الأمنية، هناك شرود واشتغال بتوافه الأمور من التجمّعات وتبادل الأحاديث وترك السلاح بعيداً، وعدم التدقيق في القادم والذي يليه، وما الذي يحمله بيده أو يخفيه، هناك غياب لمهارات الفراسة واستشعار الخطر!
كما أن القيادات المباشرة لأولئك الجنود الضحايا تتحمل جزءاً من مسؤولية ما حدث، فلا شك أنها تدرك أهمية الموقع الذي كان الجنود يرابطون فيه، وبالتالي يجب أن تخطط تلك القيادة لكل السيناريوهات وتستعد لأسوأ الاحتمالات، وما هي خطوات المواجهة والبدائل الجاهزة لأي طارئ!
ما حدث ليس جريمة إنسانية فحسب، بل مؤشر خطير ويزداد خطورة لدى المواطن البسيط الذي أصبح يشعر بل ويعبّر بمرارة وقلق في موضوع عجز السلطات الأمنية عن حماية نفسها ومنتسبيها، متبعاً ذلك بالسؤال المخيف: كيف ستحمي غيرها؟ كان الناس يتسابقون للدفع بأبنائهم ليكونوا ضباطاً وجنوداً في الشرطة، أما اليوم فتبدو الحسابات مختلفة.
نأمل أن تعيد قيادة المؤسسة الأمنية حساباتها جيداً في رفع كفاءة مستوى الحذر والجاهزية لدى منتسبيها، وتعميم الحالات المتقدّمة المعمول بها في الدول الناجحة أمنياً، فلا شك بأن التحدِّي الأهم أمامها اليوم هو رد الاعتبار لها ولمنتسبيها، والذي سيعني تبعاً لذلك رد الاعتبار للدولة وحفظ أمن المواطن والوطن.