الحياة أصلٌ والموت استثناء، السّلم أصلٌ والحرب استثناء، الرّحمة أصلٌ وليس ثمّ استثناء، والإيمان جوهره حبٌّ تاقته القلوب تعلّقًا بمُوجد الحياة، ومن سكنه حبُّ ألإله- حقًّا- فلن يجد في قلبه حيّزًا لكراهية من سواه، ومن اعتقد أنّ ربّ السّماء يرضيه سفك الدّماء فقلبه كُرهٌ وروحه زيف، ذلك أنّ الأرواح بقدر حبُّها للإله تفيض بالمحبّة على مخلوقاته. وكنتُ في مقالاتٍ سابقةٍ قد خاطبتُ الإرهابيّ بوصفه صديقاً، ولم يكن وصفًا مجازًا بقدر ما كان توصيفًا لحقيقة، فما دامت النّفوس أصلها نفسٌ واحدةٌ تقاسمتها صورٌ شتّى فالأصل أنّ كلّ حيٍّ صديق، وما دامت الأرواح كنهها روحٌ واحدةٌ تشاركتها أجسادٌ مختلفةٌ فلا ضير من مخاطبة ما تبقّى من جوهرها الحيّ ونقائها المفترض.
ولهذا فقد كنتُ سعيدًا حينما علّق واحدٌ ممنّ وجّهتُ إليهم الخطاب، وحينما قال بأنّي مخطئٌ فقد كنتُ أكثر سعادةً، ذلك أنّه ليس ثمّ ما هو أجمل من اكتشافك أن حكمك خطأٌ حينما يتعلّق الأمر بالأرواح الموات، ففي إدراك الخطأ، في هذه الحالة، انتصارٌ للحياة.
طلب أن أستمع إليه فاستمعت بلا مقاطعة، وأرسل روابط لأقرأها فتصفّحتها، رغم قراءاتي السابقة، بلا ممانعة، كنتُ أبحث عمّا يثبت خطئي في الحكم لكنّي لم أجد، وفي تعليقاته الكثيرة لم يفعل شيئاً سوى تعميق الشعور بمرارة أنّك مصيبٌ في أمرٍ تتمنى من أعماق أعماقك أن تكون فيه على خطأ.
كان متناقضاً مع ذاته هشًّا إلى حدٍّ بعيد، يتحدّث في الفضاء الرّحب بلا ضابطٍ ويرسل المفردات بلا رابط، ويشعر، إلى حدٍّ مثيرٍ للشفقة، بأنّه محقٌّ ومظلوم.
يقسم بالله كثيراً، وهل قلت أنّي لا أصدقه؟ في الحقيقة لقد كان يقسم لذاته، يشعر أنّه حتّى لا يصدّق ما يقوله ويطلب منّا أن نصدّق ما عجز، هو، عن تصديقه.
في تعليقاته، وكما لو كان الفسكونت المشطور، كان يتشظّى وجهين متمايزين، ملاكٌ والآخر شيطان، نيّرٌ والآخر مظلم، وجهٌ يخاطبك بلفظ "أخي الكريم" والآخر يقول بأنّ من يشكّك، مجرّد التّشكيك، بتاريخ "داعش" الجهاديّ المشرّف فهو ضال.
كان يتذاكى حينما قال بأنّه "ليس بيننا وبين العسكر شيء" ذلك أنّه لم يوضّح ما إذا لم يكن بينهم شيءٌ من الحبّ أم أنّه ليس بينهم شيءٌ من الكراهية، حاول التّحايل بغير داعٍ، والإجابة على غرار إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم "نحن من ماء"، في غير موضعها.
من يملك قوّة الحجّة، يا صديقي، لا يحتاج سُترة التّحايل.
كان الوجه النيّر من الفسكونت خافتًا على أيّة حال، لا يكاد يومض حتّى ينطفيء، ينزاح عن وجهٍ مظلمٍ كئيبٍ كارهٍ وبغيض، فمن "يشوهون صورتنا هم بلا شك نفاقهم واضح"، وبالمناسبة: نحن لا نريد تشويه صورتك يا صديقي، هذا ممّا لا يفعله النّبلاء، نحن نحاول، فقط، إظهارها على حقيقتها.
رفع يديه إلى السّماء " يا رب! إنّ هؤلاء بفعلهم هذا أضعفوا المجاهدين، وشمّتوا بهم الكفار، وقوّوهم عليهم".
لا شيء أخشاه أكثر من دعوة مظلوم، ورفضت أن أكون قاضٍ، رغم دراستي للقانون، خوفًا من دعوةٍ ليس بينها وبين الله حجاب، لكن: عن أيّ كفارٍ يتحدّث؟ الكفّار الذين في العرضي أم الكفّار في شبوة وأبين؟ الكفار الذين في أقسام الشّرطة أمّ الكفّار الذين تعجُّ بهم تسجيلات "الملاحم"؟
الكفّار الذين تذبحهم جبهة النّصرة، ذبحًا !!، أم الكفّار الّذين يذبحونهم أنصار "داعش"؟ لا يحتاج الأمر لمن يشوّهون صورتكم يا عزيزي، فتسجيلاتكم، أنتم، تملأ اليوتيوب، وكلّ الكفّار الّذين قتلتموهم حتّى الآن يشهدون ألّا إله إلّا الله، يصلّون ويصومون ويذهبون لأداء مناسك الحج.
كلّ الكفّار الذين قتلتموهم حتى الآن، باستثناء كفّار غزوة منهاتن، من المسلمين، وكفّار غزوة منهاتن لم يكونوا جنوداً أميركيين، لقد كانوا أطفالاً ونساءً وعجزة، أغلبهم لم يكونوا يعرفون ما هو الشّرق الأوسط فضلًا عن أن تكون لهم أطماعٌ استعماريّةٌ فيه، لقد كان جهاداً على غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي أوصانا، حتى عندما نضطر للقتال، ألّا نقتل شيخًا ولا امرأةً ولا نقطع شجرة، ليس ثمّة فرقٌ كبيرٌ إذن، سوى أنّ رسول الرحمة كان يدعو النّاس للدّخول في دين الله أفواجا، وأنتم تدعونهم للخروج من دين الله أفواجا.
وراء كلّ نفسٍ كافرةٍ قتلتموها أمٌّ كافرةٌ أيضًا تقوم اللّيل وترفع يديها إلى السّماء تدعو عليكم، وقبل أن يخرج صوتها المخنوق من أعماقها تكون السّماء قد أرسلت لعناتها إلى أعماق أرواحكم.
بعد رفع يديه بالدّعاء علينا ذكر نواقض الإسلام، كان النّاقض الثامن من نواقض الإسلام "مظاهرة المشركين على المسلمين"، أصبح الأمر واضحًا تمامًا إذن، لكنّي حاولت، رغم هذا، مغالطة ذاتي، وجّهت إليه سؤالًا مباشرًا: هل تعتبرون الجنود الذين يقاتلونكم الآن في شبوة مظاهرين للمشركين، الدولة أيضًا، منظمات المجتمع المدني، الصحفيين، كل من يكتب ضدكم الآن: هل تعتبرونهم مظاهرين للمشركين؟
لكنّه لم يجب. كان سكوتًا أوضح من الإجابة، نحن كفّارٌ إذن، لكنّه خاطبني قبلها بلفظ "أخي الكريم"، لست كافرًا إذن، لكنّه رفع يديه إلى السّماء ودعا عليّ ، وعليكم، وعلى من خالفوه أجمعين.
نحن كفّارٌ إذن، أليس كذلك؟ لكنّه، رغم هذا، لا يشعر بأنّه "فسكونت"، وقد استعرت هذه الشّخصيّة الرّوائية لتحاشي إطلاق الصّفة المفزعة عليه: منافق. لأنّي، رغم كلّ شيء، ما زلت أعتقد بأنّ داخل كلّ إرهابيّ إنسانٌ كامنٌ، وصديق.
صديقي الإرهابي: يؤسفني أن أخبرك بأنّ الإسلام الّذي يدعو إليه رسول الرّحمة لا يعرفه الإسلام الّذي تدعو إليه أفكاركم العفنة، والقرآن العظيم أرحب وأبهى وأجمل من القرآن الّذي تقولبونه وفقًا لأفئدتكم الّتي لا تفقه، وقلوبكم التي لا تعي.
ثمّ أنّي قرأت البحث العلمي، وفق توصيف كاتبه، الّذي لا يتجاوز 15 صفحة، إلّا أنّه، على صِغره، كان شديد الإطناب بشكلٍ يمكننا معه اختزاله إلى صفحتين، وبهاتين الصّفحتين، يا إلهي!، تريدون إحراق العالم.
أمّا الإسلام، يا عزيزي، فهو أعمق من أن يُختزل بهذا الشّكل المعيب، ولقراءة القرآن تحتاج لقراءة تناغم الكون حركةً وسكوناً، فهم الحياة على تناقضاتها، تذوّق الجمال في الماء والسّماء الخلجان والفراشات، ذلك أن الله، وهو الحكيم الخبير، خلق الكون وفق نظامٍ رائعٍ ومعقّد، كلّ ما فيه متوائمٌ ومتناسقٌ من أصغر جزءٍ في الذّرة حتى أكبر مجرّة، و"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ".
لا يجوز، إطلاقًا، أن تنزع آيةً عن سياقها أو تنزع سياقها عن السّياق العام الكلّي، ولكي تقرأ القرآن فعليك أن تفهم تمامًا بأنّ للقرآن رؤيته الشموليّة للحياة باعتبارها فلسفةً رائعةً تقوم على إعلاء شأن الإنسان الّذي خلقه الله في أحسن تقويم، رحمةً أكبر من أزقّة تفكيرك، وغفرانًا أوسع من أن تحيط به ذواتكم المتكلّسة.
ولهذا، قبل أن تقابل الله بالصّلوات، قابل النّاس بالمحّبة.