صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طبيعة الصراع في جمهورية الجوع الكافر
نشر في المصدر يوم 06 - 09 - 2014

الجرعة السعرية المشؤومة ليست أكثر من إجابة سلطوية على السؤال التالي: كيف تحل السلطة مشكلتها الاقتصادية دون أن تمس بمصالح الفاسدين ولصوص المال العام؟ حالياً يجري التفكير في السياسة بالطريقة ذاتها في مواجهة سؤال آخر: كيف تحل السلطة مشكلتها السياسية مع الحوثيين دون أن تمس بمراكز النفوذ ومصالح القوى المهيمنة؟ الإجابة شبه الأكيدة هي "جرعة" سياسية مكثفة ومريرة خلاصتها: التفاهم مع الحوثيين عوضاً عن التضحية بالفساد من أجل المجتمع. يجدد الفساد نفسه بهذه الطريقة ويصبح الثابت الوحيد في حياة اليمنيين مهما تبدلت الأوضاع وتغيرت الوجوه.

لا تمثل الحوثية في نظر البعض مشكلة للسلطة وحسب، إنها خليط مركب من المشكلات يفرض أزمة مجتمعية على مختلف الأصعدة. كل الذين يصنفون الحوثية على هذا النحو أي بوصفها خطراً اجتماعياً يذهبون إلى شحذ أدوات الحرب والسياسة تاركين لها فراغاً اجتماعياً وفكرياً هائلاً تتحرك فيه، مشكلتهم الحقيقية تكمن في التعويل على مخالب السلطة وليس على أدوات الفكر، إنهم يحسنون نوعاً واحداً من المعارك، هي تلك التي يسمع ضجيجها، أما معركة الأفكار فلا يقوى على خوضها غير أولئك المسلحين بالحقيقة وبالطهارة معاً. سيبدو هذا الأمر مؤلماً لكل أولئك الذين تقشعر أبدانهم من مجرد التفكير خارج السياسة.. ببساطة يعني التفكير خارج السياسة ترك المجتمع يواجه مشكلاته بالفعل المجتمعي وحده، والاكتفاء بتعزيز مناعته الفكرية. بالنسبة لأولئك الذين يراهنون على هزيمة الحوثية بالحرب أو بأدوات السلطة سنقول لهم: فات الأوان، ليس غير إطلاق العنان للمجتمع كي يستعيد ثقته بنفسه ويخوض جدلية التعافي من أمراضه المزمنة التي تمثل الحوثية تكثيفاً جيداً لها. الرهان على غير ذلك يحمل مخاطر البقاء المكلف في حلبة السياسة العدمية، وقد يدفعكم إلى تقديم الفكر قرباناً لإلهة الحرب المتمنعة.

كيف لجائع أن يمانع فكرياً؟ هذا وجه آخر لتحدٍ قائم، بيد أن القوى التي تمارس السياسة كفعل غرائزي ليست معنية بهذا الأمر، لذلك تبدو ماضية في خياراتها دون توقف، إنها مثلاً تطلب من الجائعين أن "يصطفوا"، ترى ما القيمة المضافة لاصطفاف جائع بجائع آخر بدعوة من الأكثر شبعاً! بطبيعة الحال لن يخلق ذلك معادلة ثورية جديدة، في أحسن الأحوال سيعود الجائع إلى أطفاله منهكاً وأكثر جوعاً، وفي أسوأها سيأكل الجائعون بعضهم بعضاً عندما يقرر دعاة الاصطفاف فض الجموع لأن اللعبة انتهت.

الثانية دونها خرط القتاد
حتى اللحظة ما زالت سياط السياسة القبيحة المتمثلة في "تحصين الفساد" تلهب غرائزنا بدعوى الاصطفاف الوطني، ويبدو أن لا نية لأحد أن يطرح على الساديين الوطنيين الممتشقين عصا الاصطفاف الغليظة السؤال التالي: الاصطفاف مع من؟ ألم نكن في ثورة فبراير "صفاً واحداً"، قبلنا حينها الاصطفاف مع عاهات السلطة وأيتام السياسة وملوثيها، تحمّلنا "عفنهم" الثوري، وابتلعنا قاذورات مواقفهم اللا وطنية. كان يحدونا الأمل في أن يمضي ركب الثورة إلى غايته، تبادلنا معهم ابتسامات صفراء، شاهدنا للمرة الأولى بطونهم المستديرة والمغلقة على ثرواتنا بإحكام، كنا نقول لأنفسنا سراً: سيأتي اليوم الذي نبقر فيه هذه البطون ونعيد الحقوق لأصحابها بقوة الثورة، كان مكرهم أسرع منا ... حدث ذلك بكل بؤس.

بتسلل اللصوص إلى الثورة كنا كمن يغسل ملابسه بمياه متسخة والتشبيه الرشيق هنا للدكتور عدنان ياسين. جاءت القوى السياسية فقدمت غطاء لهؤلاء اللصوص ومنحتهم صفة القيادة، أرادت أن "تكحّل" الثورة فأعمتها وأفقدتها كل ملامحها. تلك القوى هي نفسها اليوم التي تدعو إلى الاصطفاف وتبحث عن ظهير شعبي للتعامل مع "الخطر" الحوثي. كيف لنا أن نثق بها؟ ليس قبل أن تتطهروا أيها السادة، لقد تسلحنا بفضيلة التجربة، فالمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين. واليكم جميعاً... الثانية دونها خرط القتاد.

وقفة عابرة أمام الربيع العربي
ربما كانت أحد أسباب انكسارات الربيع العربي أن ثوراته استعاضت عن الطهر الثوري بالسلمية، ولو أن الثورات مارست العنف بثوار حقيقيين، لكان أجدى من ممارسة السلمية بثوار نصفهم مزيفون. إن طهارة ونقاء الثورات أهم من سلميتها، ذلك درس يجب أن تعيه الأجيال القادمة عندما تواجه المستبدين الجدد الذين يجري تحضيرهم الآن. بغياب القيادة أيضاً أصيبت الثورات العربية في مقتل، ولئن كان كثيرون اعتبروا أن عدم وجود قيادة للثورات الشعبية هو إحدى أهم ميزات الربيع العربي وسر نجاح حراكاتها، فقد آن أوان القول إن غياب القيادة الواضحة كان نقطة ضعف أساسية في تلك الثورات، لقد تمكن الوافدون إلى الثورات من صروح الأنظمة السابقة – الحالية أن يلعبوا دور القيادة ويشغلوا هذا الفراغ، قاطعين الطريق أمام إمكانية إفراز الحراكات الثورية لقياداتها الحقيقية. وفي الأخير أمكن لهم توجيه دفة الثورات إلى حيث يريدون أو حيث لا تريد الشعوب.

صراع الإمامة والقبيلة: نحو سردية جديدة للتاريخ
بطبيعة الحال ثمة "مصطّفون" آخرون من طراز غير غرائزي، لا يأبهون ب "الجرعة" وإن مسهم الجوع، اصطفافهم نابع من حب الجمهورية والدفاع عن النظام الجمهوري، وهم يرون أن "الجوع الجمهوري" أفضل من أي رغد كهنوتي قد تجلبه الحوثية معها. "الجوع من أجل الجمهورية" شعار بات ينافس شعار "الموت من أجل الجمهورية" التقليدي، ولأن كلمة الموت أصبحت لفظة صميمة في بنية الصرخة الحوثية الداعية إلى الموت المطلق لكل ما يمثل الآخر، فإن كلمة الجوع هي الأقرب دلالياً للتعبير عن التقاء النزعة الوطنية المنكسرة والحالمة بواقع البؤس الجمهوري الناجم عن سياسات التجويع المستدام.

تستدعي لازمة الدفاع عن النظام الجمهوري – ضمن ما تستدعيه- كل تفاصيل الصراع الجمهوري – الملكي إبان ثورة سبتمبر 1962. في ذلك الصراع قاتل الجمهوريون ومعهم الشعب بضراوة من أجل إرساء النظام الجمهوري، غير أن مكر التاريخ وضع في طريقهم قوى مخاتلة كانت تصطف حيناً مع الجمهورية وحيناً آخر مع الملكية، وأكثر من ذلك كانت الجمهورية الوليدة مسيجة بجغرافية قبلية ومحيط اجتماعي غير مستأنس بعد. باختصار كانت الجمهورية أشبه بمولود ضعيف طري العظم وضعته الأقدار بين كيانين تاريخيين قويين وماكرين هما: الإمامة والقبيلة. وقبل نهاية العقد الأول من عمر الجمهورية (1967 - 1968) انهزمت قوة الملكيين الإماميين وانتصر النظام الجمهوري، غير أن الفكرة الجمهورية لم تنتصر، لقد ارتمت الجمهورية في أحضان النظام القبلي ونشأ عن التقائهما غير العفوي نظام جمهو قبلي هيمن على مؤسسات ونظام الدولة – عدا فترات قصيرة جداً- وطبع حتى الحياة الاجتماعية بالطابع الثقافي والاجتماعي الخاص بالقبيلة، وعلى إثراه انقسم المجتمع اليمني في الشمال أفقياً إلى قبيلي ورعوي. (انظر دراستنا المعنونة ب "الدولة والاندماج الاجتماعي في اليمن: الفرص والتحديات" والصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – الدوحة مارس 2013).

من رحم القبيلة الحاكمة (حاشد) ولدت العائلة الحاكمة (عائلة صالح)، وفي ذلك تجسيد لصيرورة تاريخية مطابقة لما تحدث عنه ابن خلدون في علم العمران، وهي أن الحكم القائم على عصبية أهل الشوكة ينتقل بمرور الزمن من العصبية العامة (وهي هنا القبيلة) إلى العصبية الخاصة (وهي هنا العائلة). كان علي عبدالله صالح الرئيس المخلوع صاحب تلك النقلة النوعية في التحول من القبيلة إلى العائلة في النظام الجمهو قبلي، وكان ذلك بدافع من طول بقائه في الحكم وشهيته الجارفة للاستمرار فيه أو توريثه، غير أن القوة القبلية الأساسية لم يكن بمقدورها القبول بهذا التغيير في طبيعة النظام، هنا بدأت القبيلة الحاكمة تتفكك على وقع صراع متصاعد بين عصبيتين تستخدم كل منها فكرة الجمهورية والوطن والشعب في مواجهة الأخرى. على خلفية هذا التفكك في القبيلة الحاكمة انفسح المجال أمام انطلاق حراك شعبي في 2011 تحول سريعاً إلى ثورة بتأثير عوامل ومعطيات كثيرة داخلية وخارجية، ولولا الصراع بين العصبيتين المشار إليهما داخل القبيلة الحاكمة لسحقت الثورة بطريقة دامية منذ الوهلة الأولى.

سعت القبيلة بطليعتها العصبية "الثائرة" (آل الأحمر) إلى توظيف الثورة والاستفادة منها، أكثر ما كان يعنيها هو تحريف أهداف الثورة وحصرها في القضاء على الحكم العائلي، صكّ ثوارها ومعهم بعض ثوار الأحزاب لقباً أحفورياً يعزز فكرة الفصل بين القبيلة والعائلة، ذاك هو لقب "عفاش" الذي أطلق على الرئيس المخلوع صالح، وانتشر انتشار النار في الهشيم، وأصبح في زمن قياسي على لسان كل الثوار وربما كل اليمنيين. كان ذلك مؤشراً على اكتمال توجيه الثورة نحو الهدف العائلي، أي نحو عفاش وحده، وبذلك نجا النظام القبلي من خطر الثورة. عانت الثورة من عدم وضوح فكري قادها إلى ما وصلت إليه، لقد أغفلت أن الطغيان القبلي هو الأب الشرعي للاستبداد العائلي. (حاولنا التنبيه إلى التلازم بين القبيلة والعائلة فكتبنا عن القبيلة وعائلتها ضمن مقال نشر في مجلة "مدارات استراتيجية" بعنوان "الدولة التي نريد" في 2012، ونريد التنويه إلى أننا نقصد بالقبيلة نظامها المشيخي التسلطي لا أفرادها الذين يمثلون جزءاً من المجتمع المتطلع إلى حكم القانون، كما أننا أيضاً نقصد بالإمامة عند حديثنا عنها شقها السياسي التسلطي دون تناول الفكر الزيدي الذي يرتبط بها).

راهناً يتحرك الحوثي بكثافة ضد القبيلة كبنية سلطوية، في المناطق التي مر بها حاول محو آثارها: قلل من الاعتماد على العرف وأحل "أحكام الشريعة" القاطعة في المنازعات (تاريخياً كان الإمام يحيى يطلق على العرف القبلي حكم الطاغوت)، قام بتسوية قضايا ومنازعات مستحكمة أهملها أو تلاعب بها النظام القبلي لعقود طويلة، قسم القبيلة إلى سادة ورعايا، وما يزال يحاول وضع الولاء للنظام القبلي تحت هيمنة ولاء ديني يملك هو زمام التحكم به. يتحرك الحوثي إذن نحو البنية السلطوية الأم أي القبيلة، ولا ضير بالنسبة إليه أن يتحالف أو يغض الطرف مؤقتاً عن "العائلة". بطبيعة الحال لايعني ذلك أن الحوثية تسعى إلى تحقيق ما عجزت عنه ثورة فبراير، إنها تتحرك وفق أجندتها الخاصة، وفي وعيها استئناف الصراع التاريخي بين الإمامة والقبيلة بعد أن تكون قد أعدت العدة للوصول إلى المناجزة التاريخية، والهدف هو ترتيب العلاقة بين الإمامة والقبيلة وفق هرمية جديدة - قديمة، تحتل الإمامة فيها صدارة السلطة والمجتمع، وتعود القبيلة فيها إلى موقع "الأنصار"، ومن الطريف أن مفهوم الأنصار التاريخي هو الأقرب اليوم إلى اللفظ المتداول في الإعلام المعادي للحوثية والمثير للسخرية (الزنابيل)، دون أن يتنبه مروجوه إلى الصلة بين المفهومين.

تاريخياً لعبت القبيلة في بعض المراحل دور الأنصار (أي الزنابيل) بالنسبة للأئمة الزيديين، فقد كان مدعي الإمامة يخرج في منطقة نائية شاهراً سيفه ضد السلطة القائمة معتمداً على قوة أنصاره القبليين، وقد اهتم الفكر الزيدي بقضية المناصرة تلك ووضع لها شروطاً وضوابط وأحكام ليس هنا مجال الحديث عنها، غير أن قبليين طموحين كانوا يرفضون القيام بدور الأنصار ويضعون أنفسهم نداً "وطنياً" للإمامة الوافدة، ومن هؤلاء آل الأحمر الذين خاضوا مع الإمام يحيى حروباً طويلة بعد اشتراكهم معه في طرد العثمانيين من اليمن 1918، وشكلوا تحالفاً من قبائل حاشد وبكيل لمناوئة الحكم الإمامي، لكن الإمام يحيى انتصر سنة 1921 على خصومه القبليين واضطر الشيخ ناصر بن ناصر الأحمر قائد ذلك التحالف الفرار إلى مكة بعد سقوط مناطق حاشد وحجة، نتيجة لذلك رضخت القبيلة مرغمة للحكم الإمامي وقبلت بلعب دور الأنصار مجدداً، فشاركت في حروب الإمام وكانت أداته العسكرية في توسيع حكمه إلى مناطق البلاد الأخرى، كما شاركته حروبه ضد السعودية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وهكذا أصبحت حاشد وبكيل جناحي الإمامة كما أطلق عليهما بعض الباحثين.

من اللافت غياب أي دور فاعل للقبيلة بصفتها الجماعية في حركة النضال الوطني منذ انتهاء عصر التمردات القبلية على الإمام يحيى في العشرينيات وحتى قبيل ثورة سبتمبر بعامين تقريبا، لقد بدأ عصر النضال المدني ضد الإمامة وحكمها الاستبدادي بعد هزيمة الإمام المنكرة أمام آل سعود بنخبة وطنية مثقفة، فشكل الشهيد أحمد المطاع العلوي في الثلاثينيات هيئة النضال، وظهرت أسماء مناضلين وطنيين من امثال الوريث والزبيري والموشكي والنعمان والشماحي والأغبري والحورش وبعض سيوف الإسلام، ورغم الجذور القبلية للكثير منهم فقد تحرك جميعهم بوعي وطني فردي.

كان العام 1959 نقطة تحول في عودة القبيلة إلى الصدام مع الإمامة وبداية مشاركتها في النضال ضدها، وقد حدث ذلك بصورة متدرجة، فعندما سافر الإمام أحمد إلى روما للعلاج أناب عنه في صنعاء إبنه محمد البدر الملقب بالناصر، وحين أحس البدر بتحركات مضادة لحكمه في صنعاء وبضعف ولاء الجند والرعية وتراخيهم عن الطاعة استنجد بقبائل حاشد التي وفدت إلى صنعاء وعسكرت بالآلاف على مداخلها. كان ذلك كافيا لبعث الطمأنينة لدى البدر، وكبح أي محاولة للتمرد عليه قد يجري التحضير لها. استخدم البدر في مكافأة القبائل أموال طائلة تركت ميزانية الدولة خاوية، غير أن تحولا خطيرا في العلاقة بين الإمامة والقبيلة حدث آنذاك، فجموع حاشد التي سارعت إلى نجدة البدر وإطفاء مخاوفه من تمرد محتمل حلت على مشارف صنعاء وفي يقينها أن حقبة الإمام أحمد قد انتهت وأن عهد البدر في الحكم لن يطول، ويقال أن الجموع المحتشدة كانت تردد بصورة جماعية الزامل التالي الذي يعكس طموحها السياسي للحكم:
إمامنا الناصر ومن بعده حميد.. سبحان من رد العوايد لهلها
( والناصر هو محمد البدر ابن الإمام أحمد أما حميد فهو شيخ مشائخ حاشد آنذاك حميد الأحمر)

على خلاف ما توقعته مشيخة حاشد القبلية حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد عاد الإمام أحمد معافى من روما وكان أول ما قام به هو جز رأس الشيخ حميد الأحمر والتنكيل بمشائخ حاشد. كانت تلك نقطة تحول ثانية جعلت القبيلة تعود إلى الواجهة وتلحق بركب النضال من أجل الثورة، ثم تصدرت لاحقا واجهة ذلك النضال لتتحكم بمسار الثورة رغم أنها ظلت طوال قرابة أربعة عقود أداة حماية النظام الإمامي. هذه العودة الخاطفة إلى التاريخ كان لابد منها لمعرفة حقيقة الصراع الدائر اليوم وتمييزه عن حلقات أخرى من الصراعات المتداخلة به.

تحت وطأة الصراع المتجدد بين الإمامة والقبيلة يئن هذا الوطن، وتستنزف عقول ابنائه الذين يراد منهم التوقف عند تمظهرات الصراع لا الوقوف على حقيقته، وعلى الأرض يتهيأ الوطن لاستقبال موجة جديدة من هذا الصراع التاريخي الكريه، حيث يبدو واضحا أن الإمامة افرزت أداتها لخوض ذلك الصراع متمثلة بالحوثية، في حين ما تزال القبيلة في طور إفراز أداتها الصراعية وتجاوز ما تعرضت له من ضربات في الفترات الأخيرة، وهي ( أي القبيلة) إما أن تصارع الإمامة بتحالف زعماء حاشد الذين فرقتهم ثورة فبراير ( كانت قد ظهرت بوادر لمثل ذلك التحالف بعد لقاء جامع الصالح العيدي، وقد استخدم في وصفه تعبير آخر مخادع هو المصالحة الوطنية)، وإما أن يقرر علي عبدالله صالح - بعد ترك الحوثيين يقومون بمهمة تصفية أو اضعاف خصومه القبليين والسياسيين- خوض معركة القبيلة مع الإمامة منفردا، مدفوعا بحلم التوريث الذي أصبح أكثر اقتناعا أن فشله فيه حتى الآن يعود إلى اهماله العصبية القبلية في السنوات الأخيرة من حكمه، ولعل هذا الخيار الأخير هو المرجح، فالحوثي وصالح يستفيد كلاهما من الآخر آنيا، لكنهما يمثلان معا الحلقة الأخيرة في صراع الإمامة والقبيلة، إذ هما معا يطلبان الشيء ذاته: السلطة.

قبل الوصول إلى تلك النقطة يواجه اليمنيون أكبر عملية استغفال في تاريخهم الحديث، الأولى تحدث باسم المسيرة القرآنية، ولا صلة لها بالقرآن، والثانية باسم الاصطفاف الوطني ولا علاقة له بالوطن. فأين يذهب اليمنيون؟ ليس سوى الممانعة بالموقف الصميم المتسلح بالوعي، ليس سوى الاعتصام بحبل هذا الوطن، والعض على فكرة التعايش فيه بالنواجذ، ليس سوى النأي بسلامنا الاجتماعي من ارتداد الصراعات. لقد قلنا منذ فترة قصيرة لن تنطفئ نار الصراعات إلا عندما يكف البسطاء عن تقديم أنفسهم وقوداً لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.