لا أدري كيف فاتت أروى عبده عثمان- مؤسسة بيت الموروث الشعبي اليمني– حكاية "عم عكبور" وهي تتنقل من أعالي جبال صعدة الشاهقة, إلى شطآن عدن الهادئة, لتوثق "الموروث الشعبي الشفاهي" من الحكايات والأقاصيص العجيبة! ليس – فقط- لعجائبيتها ولتداخل هذه الحكاية مع الأدب اللاتيني الرمزي, الذي بلغ الذروة في عهد الراحل ماركيز, وقبلها السرد "الحكمي" على ألسنة حيوانات ابن المقفع في رائعته "كليلة ودمنة", ولا لمستها الإنسانية التي تتجلى من العنوان" العم الفأر" بل ولارتباطها بوصف وتحليل الواقع المرير يمنياً وعربياً. كم روت لنا أمي- حفظها الله- ونحن صغار, تلك الحكاية, "السُماية" أو"السُمائة" كما نقول بالدارجة المحكية في محافظة إب, ونحن لا نكل أو نمل بأن نطالبها أن تعيدها مراراً وتكراراً لنا سواء في "أماسي" ما بعد العشاء, أو كحكاية "قبل النوم", تماماً كما يفعل أبناؤنا اليوم مع أشرطة وكتب فأر "ديزني"- ميكي, وغيره من الشخصيات الكرتونية.
ما زالت صورة "عم عكبور" ترتسم في مخيلتي الطفولية ك "عكبري" أو" فأر" وقور, أصلع, فوق صخرة صلدة قوية, يجول بنظرة بعيداً ساهماً. قبل أن يلحظه "الغراب" وينا ديه: ياعم يا عكبور, مالك فوق الصفا "قنبور"؟ فيجيبه متأوهاً, مستوحشاً, وحيداً: - الفارة بنت الفار, بنت شيخ التجار, شلت كمها على فُمها, وسارت حانقة عند أمها!
(وهنا , وياللمفارقة, ينبري غراب البين عارضاً وساطته الإنسانية, لكن يتضح لنا ان "الأخ غراب" سيستغل هذه الخصومة, ليجني مصلحة شخصية. فكيف ل "غراب البين" - مثلاً- أن يقو ل "عم عكبور" خذ باقة ورد, واذهب إلى البيت, وقل لها قولاً حسناً جميلاً, واستجب لطلباتها بالمعروف!). -أردها لك, وأيش تدي لي؟ -أدي لك "دودي" طري. وما إن يدق "الغراب" على باب كبير التجار, حتى تنبري له زوجة "عم عكبور" الفارة: من ذي على بابي؟ وأنا مع أحبابي فوق السرير والحرير! أنا وسيط "العم عكبور" جيت أرجعش للبيت. فما كان منها وقد استشاطت غضباً إلا أن قالت له: اذهب يا أسود اللون يا أعور العين! (كيف لا وهي تنتظر أن حبيبها عكبور جاء يصالحها). وحين رآه "عم عكبور" عائداً منكسر الكبرياء, استفسره, فأجاب: لقد قالت لي كلمة , حتى طارت "الصبيغة"(1) من فوق ظهري. "وهنا يعلن غراب البين انسحابه من الوساطة، وما إن يولي الغراب مقفياً, حتى تظهر " الحدا" أو"الحدأة" مكرراً معها الحوار ذاته: ياعم يا عكبور, مالك, فوق الصفا "قنبور"؟ الفارة بنت الفار, بنت شيخ التجار, شلت كمها على فُمها, وسارت حانقة عند أمها! أردها لك, وأيش تدي لي؟ أدي لش"عِنصرِة". وحين دقت الباب, جاءها الرد: من ذي على بابي؟ وأنا مع أحبابي فوق السرير والحرير! أنا رسول"العم عكبور" جيت أرجعش للبيت. ( مرة أخرى, تتفاجأ بأن الطارق ليس زوجها عكبور, فتنفعل قائلةً: أيش تشتي؟ يا"نتافة" يا "حتافة" يا ذي زلجّتي عيال "الحافة"!(2) وحين رآها, "عم عكبور" يتطاير الشرر من عينيها, قالت له: لقد قالت لي كلمة, حتى طارت "الصالحية"(3) من فوق راسي.
توالت رسل الوساطة من جميع حيوانات الغابة, وكانت "العمة عكبرة" تردهم رداً قاسياً, فمطلبها معروف ولا يحتاج لإرسال الألوف. ولما استيأس "عم عكبور" من "العودة الشرعية" لزوجته ظهر هنا عدوه اللدود في ثوب صديق, سيد القطط "النسمي", ويستمع لنفس الشكوى. الفارة بنت الفار............ ماذا ستعطيني؟ سأعطيك "عكبري صغير". لم يأخذ "النسمي" سيد القطط, ويعطي معها كثيراً, بل قال لها: لديك مهلة إلى اليوم, لتعودي "لعم عكبور" وإلا فإنه ,سيُصعِّد, ويتزوج, من أخرى؟
فما كان من "العمه عكبره" إلا أن سارعت بجمع حاجياتها, ولملمت أشياءها, هنا نصل الى الذروة الدرامية, حين تزل قدمها, وتجد نفسها - بعد كلمات بليغات مسجوعات (أين الرجال الشداد, والحبال الوثاق, ينقذوا شمس الضحى غارقه في البحار)- لقمة سائغة في فم " النسمي", الذي لا يجد غضاضة في التهامها بدلاً عن "مستحقاته" عند "عم عكبور" وهي "العكبري الصغيري".
أرعد "عم عكبور" وأزبد, حين عرف بمصير"حليلته", وأخذته الحمية, ونادي بنفير الاصطفاف العام لمجتمع "العكابر" لمواجهة "النسمي" وأنصاره من القطط في "قاع حزيز".. النتيجة كانت معروفة سلفاً, كانت تلك"العكابر" المسكينة هدفاً سهلاً لمخالب "الأنسم", وحين لاذ "عم عكبور" بالفرار إلى "جحر" صغير,كان "النسمي" يلتقمه بفمه. وهنا يحاول "عم عكبور" استخدام الدهاء والإغراء, والبلاغة الصوتيه بفمٍ مرتعش, فيقول , ل "النسمي": - قل "صنعااااااء" عله يفتح فمه, واسعاً, فيهرب. لكن القط الخبيث يقول: -بل"حزيييييز" (جازاً على أسنانه), وتنتهي الحكاية مع لعبة كلامية يقول فيها الفأر: قل "صنعااااء"، ويتوالى رد "النسمي": حزيز.
من غير أن نعرج على الفرنسي"لافونتين" رائد القصة الحديثة "التي استنطق فيها الحيوانات, لأغراض نقدية وهجائية, مروراً بالأديب الساخر زكريا تامر والشاعر الباهر سليمان العيسى بأهدافه التربوية للأطفال, فإن لكل بيئة قصصية مغزاها التربوي الذي يرتبط بثقافة العصر, وكذلك بنية "حكائية" تعبر عن روح المبدع, وهي بلا شك ستحيلنا في العصر اليمني الحالي, إلى الروح الثورية التي تناول بها سيرة "فأر" مغاير تماماً ل "عم عكبور", الشاعر والأديب الكبير د.عبد العزيز المقالح, في بنيته السردية المعنونة: "إلى فأر" ذهبت مثلما أتيت ملعون المساء والنهار أيامك الطوال عار وعهدك القصير عار أكبر منك نملة أشهر منك ريشة على جدار يا أمسنا الذبيح يا فأرنا القبيح يا قاتل الأطفال يا مهدم الحياة والديار ظننت أنك الإله .. أننا العبيد تفعل ما تريد تعبث في مصائر العباد فخانك الظن وخانك الرشاد أصبحت كومة من الرماد تنام في انفراد تصحو على انفراد تسألك الريح، يسألك الجماد ماذا صنعت قل .. ماذا صنعت للبلاد؟ ماذا تركت من ذكرى على ضميرها ومن أمجاد؟ لا شيء يا صغير لا شيء غير لعبة المزاد رفاقك القرًاد والقوًاد وعاصف الفساد ماذا تركت للذين يقرأون؟ ماذا سيكتب الأطفال عنك حين يكبرون؟ سيكتبون .. مر من هنا منتفخاً فأر صغير يرتدي ثوب مغامر جلاد
هوامش: الصبيغة: كانت الاسم المستخدم قديماً في اليمن, لما يعرف اليوم ب "الشال" أو "الغترة" وقد جاءت التسمية لأنه كان قماش يصبغ باللون الأسود. وما زالت تروى عند بعض كبار السن في بعض الأرياف. الصالحية: الطرحة, أو الحجاب الذي تلف به المرأة رأسها. نتافة: خطافة، حتافة: قتالة, من الحتف. "يا ذي زلجتي عيال الحافة": يا من قضيتِ على أولاد الحارة.