في إحدى أمسيات العام 2003، صعد الكاتب الصحافي جهاد الخازن إلى منصة ندوة دارالثقافة والعلوم في دبي ليتحدث عن الإعلام في الوطن العربي، ومهد لمحاضرته بمقدمة رشيقة وقصيرة، قال: "أرجو أن تشبه محاضرتي فستان الصبية، طويل بما يغطي الموضوع، وقصير حتى لا يفقد إغراء متابعة من ترتديه". وفي الواقع فقد كان الخازن -من خلال محاضراته أو عموده اليومي في صحيفة الحياة اللندنية- يثير إعجابي على الدوام، سواء وهو يكتب في السياسة أو في الملابس النسائية الداخلية التي يمكن وضعها في علبة كبريت. الأسبوع الماضي كان برفقة زميله غسان شربل في صنعاء، وكتب ثلاث حلقات متتابعة نشرتها صحيفة الحياة ومواقع إلكترونية يمنية، وبدا لي أن هذا الرجل فقد سحره وجاذبيته دفعة واحدة، وكأن الفستان الطويل والمغري الذي كانت ترتديه مقالاته قد سقط فجأة، لتظهر مكانه بدلة عسكرية يمنية منحتها الموائد التي دعي إليها أكثر من نجمة، ما أطلق لسانه في مديح الفقر وحرية الصحافة، يقول عن البلد الذي زاره: "الفقر مقيم وقد اكتسب اليمنيون مناعة ضد سلبياته، أما الثراء فجاوز اليمن ونجا شعبه بالتالي من فيروس المال". بذمتكم من يستطيع هضم مثل هذا الكلام عن المناعة وفيروس المال، ثم هو بعد ذلك يستعير لسان من استقبلوه في وزارة الإعلام والقصر الرئاسي ليتحدث عن الرئيس الذي "لم يستغل أي وضع أمني لقمع الحريات أو اضطهاد المعارضين فلا سجناء سياسيين ولا خوف من الاستخبارات، والصحافة اليمنية حرة إلى درجة أن بعضها فالت من كل عقال". يعرف القارئ أن هذا الكلام غير صحيح، ولا يعكس إلا وجهة النظر الحكومية، وكنت حتى قبل يوم من قراءة المقال، على استعداد دائم أن أتفق واختلف برحابة صدر مع ما يكتبه على الدوام، لكني لم أتوقع أن يتورط الخازن في التحريض ضد زملائه الصحافيين، أما الآن فأتوقع منه ما هو أسوأ، فهو يرى في حكم الفرد لمدة تزيد عن اثنين وثلاثين سنة "دليل على حكمة الرئيس وحنكته".! وهو قال: "أن الرئيس أقل اهتماماً بالحراك الجنوبي والحركة الانفصالية فيه" لسبب بسيط هو أن الرئيس وحدوي، ولذلك لا داعي لأن يهتم كثيراً بما يحدث هناك..! لا أجد منطقاً في الكلام السابق من رجل يقول عن نفسه أنه "مواطن عربي أصابته سوسة الحرية والديموقراطية بعد طول إقامة في الغرب"، إلا إذا كان للقات رأي آخر، فجلسات الخازن في اليمن "لم تخلُ من تخزين" بحسب كلامه، وهو تبادل مع "الإخوان في تلك الجلسات النادرة حديثاً صريحاً"، وبسبب من تلك الصراحة لم يجد في اليمن ما يخبر به القارئ العربي سوى ما سمعه من جانب السلطة التي نختلف معها في إدارتها السيئة للبلد، ولا نصدقها إن هي كررت حديثها الذي مللناه ونقله لنا الخازن كمبشرات جديدة عن "الحكم الذاتي والإصلاحات الإدارية وعن الفساد وأسبابه وطرق معالجته". في نهاية مقاله الثالث عن اليمن بدا كمن يريد القول أنه لا يتفق مع كل ما سمعه أو كتب عنه، فقال في نقطة أخيرة: "للحكم في اليمن إيجابيات وسلبيات، إلا أننا ذهبنا إلى صنعاء لمقابلة الرئيس، وسمعنا كلام الجانب الرسمي عن أحداث اليمن من الشمال إلى الجنوب فلا أجزم برأي لأنني لم أسمع كلام المعارضة"، وهو لو أراد أن يسمع لفعل، لكنه على الأرجح لم يرغب في ذلك، لسبب بسيط أنه لا أحد يتوقع من رجل يوفر له الأمير خالد بن سلطان طائرة خاصة لنقله إلى صنعاء، ويستقبله وزير الإعلام ويلتقي برئيس الجمهورية ويتغدى مع ابن أخيه ليكمل مقيله مع المسوري والشاطر وبورجي أن يركل هذه النعمة بمقال حيادي قد يقال عنه فيما بعد أن صاحبه "قليل أصل وما يطبعش فيه"، حتى وإن بدا صادقاً وقريباً من هموم الرجل اليمني البسيط الذي لم يجد ما يغري في الكتابة عنه سوى أن "ساقيه باديتين لأنه يلبس ثوباً قصيراً". أكتب عن الخازن لأني كنت أشعر منذ أوائل التسعينات -وأنا أقرأ له الصفحة الأخيرة في أعداد مجلة الوسط القديمة المتناثرة للبيع على رصيف ميدان التحرير- أنه صديقي، وبدا وهو يصعد إلى الطائرة الخاصة أنه قد تركني وحيداً وخذلني، وهكذا كتبت له تعليقاً كمن يكتب معاتباً صديقه: "قرأت ما كتبت عن بلدي فشعرت أني وحيد ومخذول، ومثل كثير من اليمنيين الذين لا يجدون من يجلس معهم ليسمع منهم.. ذهبت يا جهاد كما يذهب كثير من زملائك إلى قصر الرئيس وأصحابه وتبادلت معهم الابتسامات والضحك، وأنت تفكر بترجمة ما ترى حولك من رفاه ونعمة لتكتب عنه في اليوم التالي، وأخشى أن تبدأ غداً من حيث انتهيت إليه اليوم، ولن تجد من يصدقك بعد ذلك عن الاصلاحات الدستورية والحرية الصحفية ومحاربة الفساد.. معذور يا جهاد. كيف يمكن الاقتراب من هموم اليمنيين إذا كنت تسافر بطائرة خاصة، ويستقبلك وزير وتلتقي بالرئيس وتتغدى مع ابن أخيه وتكمل المقيل مع اللواء والسفير والعميد"! من فضلك يا جهاد.. لماذا نقبع نحن اليمنيين في ذيل قائمة الدول العربية عندما يتعلق الأمر بالتنمية البشرية ومعدلات دخل الفرد والشفافية ومحاربة الفساد، ثم نتصدر القائمة في معدلات الأمية والفقر والبطالة؟ ولماذا يبدو أننا نقوم بعمل بطولي وعربي ونحن نتبرع لأبناء غزة، فيما يفوق دخل الفرد هناك ثلاثة أضعاف دخل المواطن اليمني هنا؟. أنا يمني وأشعر بالحزن وعندي من الهم ما يكفيني، فأرجوك لا تتركني وحيداً ودعني أستمر في قراءتك واحترامك.