[1] انتقام النظام السابق من الشعب لم يقتصر فقط على تحالفه مع الحوثيين؛ الأمر وصل إلى أخطر من ذلك، وأشد نكاية وتدميراً من الناحية النفسية.. ونقصد بصراحة وبدون تردد أن أسوأ مظاهر هذا الانتقام هو المجيء بزعيم حوثي يعشق الخطابات الطويلة والكلام الكثير الذي لا ميزة فيه إلا أنه يساعد على استجلاب النوم! قبل عدة خطابات حوثية، وبعد دقائق من الانتهاء من خطبة طويلة جداً، نشر ناشطون صورة تسخر من طول الخطاب؛ يصوّر مجموعة من اليمنيين وهم يؤدون رقصة البرع وتحتها تعليق قاسٍ جداً يقول: [اليمنيون يحتفلون بانتهاء خطاب عبد الملك الحوثي[! كان التعليق قاسياً جداً، وتعبيراً عن ضيق كثيرين مما يجري في البلاد بفعل مليشيات الحوثيين.. وصحيح أن الأمر لما يصل بعد إلى إجبار اليمنيين على الاستماع للخطابات وصولاً إلى دمجها في المناهج التعليمية، ومن ثم اختبار الطلاب حول ما جاء فيها.. لكن هذا ليس بسبب القناعة والتواضع بل لأن الحوثيين لم يصيروا بعد سلطة رسمية في المحافظات التي يحكمونها فضلاً عن سائر أنحاء اليمن، وما يزالون يواجهون مقاومة سلمية وأخرى مسلحة.. وفي الأخير فإن هناك داخل منظومة القيادة الحوثية أشخاصاً يعرفون أن العالم لن يقبل أن تصل انتهاكات حقوق الإنسان على أيدي الحوثيين إلى فرض خطابات زعيمهم في مناهج الدراسة على.. التلاميذ!
[2] على الجانب الشخصي لا يعجبني أصلاً متابعة خطابات الزعماء، ونادرة هي المرات التي استمعت فيها إلى خطاب مباشر، وأفضل عادة قراءة النص المكتوب في حالة الضرورة القصوى؛ فهو يظل أقل سوءاً بكثير لأنه بلا صورة ولا صوت! من الموافقات الغريبة أنني استمعت عرضاً لزعيم ما تبقى من حزب الحق (حسن زيد) عصر الخميس الماضي؛ إعادة للقاء خاص معه في قناة السعيدة، وهو يبدي استغرابه من الأحزاب التي ترفض يد الشراكة الحوثية الممدودة إليهم! وفي يوم الجمعة وأنا أقرأ النص المكتوب لخطاب الحوثي وجدت المعنى نفسه موجود بالنص والمعنى، فهو أيضاً يستغرب جداً من الإصلاح لأنه يرفض الشراكة أو على حد تعبيره: [لا ندري ما الذي يريدونه أكثر من الشراكة؟] فقلت في نفسي كما قال النجاشي ملك الحبشة: [هذان يصدران من مشكاة واحدة!].. ولأن اندهاش حسن زيد كان أسبق زمنياً فبراءة الاكتشاف محفوظة له.. أو إنه قرأ خطاب الزعيم مسبقاً وعرف ما فيه.. أو أنه هو الذي أعده أو شارك في إعداده واقتراح مفرداته!
[3] ولأن "الشراكة في الوطن والسلطة والثروة" هي أكثر مفردة وطأها الحوثيون بأحذيتهم (كما كان النظام السابق وأتباعه يطأون بأحذيتهم مفردات الديمقراطية، والثورة، والوحدة، ومزاعم الالتفاف الشعبي حولهم)، ولأنني قبل كتابة هذه الكلمات صباح السبت قرأت خبراً عن تعيين وكيلين حوثيين من نوعية "المهتدي والكبسي" في وزارة الثقافة؛ فقد بدأت أقتنع بأن مفهوم مصطلح الشراكة الحوثية سيتحول إلى لغز أكثر صعوبة من لغز الثقوب السوداء في الكون، وقد يخصص له المبعوث الدولي النحس كل جلسات الحوار القادمة.. ومع ذلك فليس عيباً أن نكرر طرح مقترح أن يقوم الحوثيون بعمل تطبيقات عملية (كما هو موجود في تمارين الرياضيات والفيزياء) على إيمانهم بالشراكة؛ حتى نرى نماذج من شراكتهم العظيمة المرفوضة من قبل الأحزاب.. البطرانة! وعلى سبيل المثال الطازج؛ فقد كان يمكن أن يتم تعيين الوكيلين الجديدين في وزارة الثقافة وفق مفهوم الشراكة؛ إما الشراكة الحزبية كأن يكون أحدهما من الإصلاح أو الناصري.. أو الشراكة المناطقية كأن يكون أحدهما من محافظة جنوبية.. أو الشراكة الطائفية كأن يكون واحد منهما منتمياً لمذهب مخالف لمذهب الحوثيين بل من المعادين لهم! وعلى سبيل المثال البايت؛ تخيلوا لو أن الحوثيين أظهروا للشعب قائمة "130 مسؤولاً" الذين أكد الرئيس هادي مؤخراً أنهم أرادوا منه أن يصدر قرارات بتعيينهم قبل نشرة الأخبار المسائية مصحوبة بتهديدات له إن لم يفعل؛ مما اضطره إلى إعلان استقالته! تخيلوا لو حدث هذا ثم ظهر من خلال القائمة أنها ملتزمة بمفهوم الشراكة وفق مقررات مؤتمر الحوار الوطني؛ فنصفهم من المحافظات الجنوبية.. وللنساء 30% وللشباب 20% منها.. وفي المحصلة فالقائمة موزّعة على الأحزاب والمستقلين بنسب متساوية، وفيها من خصوم الحوثيين الكثير بمن فيهم نائب رئيس الجمهورية المقترح، ونصيب الحوثيين لا يزيد عن نصيب أي حزب آخر!
تخيلوا أن هذا قد حدث، فلا شك أن الأمر سيكون مثالاً عملياً عن انطباق القول مع العمل كما هو شأن المؤمنين حقاً، وعن التزام الحوثيين باستحقاقات الشراكة، وتبرئة لذمتهم من غضب الله ومقته الذي توعد به الذين يقولون ما لا يفعلون.. وسيكون أعظم تجسيداً للشراكة، وأشد وقعاً وحجة على الخصوم من الخطابات والتصريحات الطويلة المُملة عن الشراكة! ولن يجد زعيم حوثي: أصلياً أو فرعياً، أساسياً أو احتياطياً حاجة ليخبط صدره أو يلطم خده وهو يستغرب من "بواقة" الإصلاحيين من عدم قبولهم للشراكة والأيدي الممدودة إليهم! وسنتأكد حينها أن الحوثيين فعلاً لا يطيقون الهيمنة على الآخرين، ولا الاستحواذ على السلطة، ولا الاستئثار بالمناصب، ولا الغلبة على الآخرين والتحكم فيهم كما هو حال خصومهم!
[4] كما لاحظتم، فإن الأمثلة السابقة كانت محدودة وسهلة التنفيذ، ولم تصل -لا قدر الله- والشر بعيد إلى درجة المطالبة بتطبيق الشراكة في المناطق الواقعة تحت السيطرة التامة للحوثيين مثل صعدة وعمران من مستوى المحافظين إلى درجات أقلّ أهمية.. ولم تشمل الشراكة في أعداد المطلوب تجنيدهم في الجيش والأمن.. ولا الشراكة في وسائل الإعلام الرسمية كأن تظهر المسيرات المعارضة للانقلاب الحوثي.. ولا في اقتسام المعسكرات والقواعد العسكرية والأسلحة والطائرات، ومما أفاءت به الغزوات من الغنائم.. الخ.. الخ.. الخ!
[5] الحوثي كرر في خطابه الأكاذيب الشائعة عن التعايش التاريخي بين اليمنيين على اختلاف مذاهبهم، وعدم وجود حروب أو نزاعات ذات طابع مذهبي! وكأنه لم يسمع عن حروب الألف عام التكفيرية ضد المخالفين كالإسماعيليين، والمطرفية والأيوبيين والأتراك والمشبهة والمجبرة، ولم يسمع عن حروب الإمام المتوكل على الله إسماعيل والإمام يحيى ضد كفار التأويل وإخوان النصارى في تهامة وتعز وإب والجنوب! والحق إنه ليس بدعاً في ذلك فقد شاعت هذه الأكذوبة طويلاً، وكان المستكبرون الذي اضطهدوا الشعب اليمني: مذهبياً وسلالياً وجهوياً هم الأكثر ترديداً لها، وسار وراءهم المغفلون التاريخيون؛ لإخفاء تاريخهم الطويل في اضطهاد الآخرين المختلفين معهم: سلالياً ومذهبياً، وتكفيرهم وتهميشهم من السلطة والثروة، والعسكرة.
فعندما قامت ثورة 26 سبتمبر لم يكن في جيش الإمام كله إلا ضابط واحد من خارج المذهب هو الوالد يحيى مصلح مهدي الذي التحق بالجيش في أواخر عهد الإمامة في غياب الإمام أحمد بعد أن رفضوه أول الأمر؛ لكنه أثار ضجّة في وجوههم على طريقته المشهورة مندداً بمخالفتهم لحديث الشراكة والإخاء المذهبي (نفس ما يفعلونه اليوم!) فأجبر البدر على الأمر بقبوله تفادياً للفضيحة!
[6] حتى في ممارسات العمالة للأجانب، يمارس الحوثيون الإقصاء والاستئثار بها؛ فهم مسموح لهم أن يتحالفوا مع من يشاءون مثل "إخوتنا في المؤتمر الشعبي العام!"؛ لكن الآخرين متهمون بالعمالة إن فعلوا مثلهم! والتعاون مع الأمريكان مسموح وحلال إن كان الطرف الآخر هم الحوثيون، أمّا الآخرون فعملاء إن فعلوا مثلهم؛ على فرض صحة التهمة! الاتصال بالسعودية ناهيكم عن التحالف معها، واستمداد الدعم منها حرام وخيانة.. مع أن الإمام البدر وعمه الحسن بن يحيى (الملقب بزين العابدين!) وعائلتهم مدعومين بفقهاء المذهب وفي مقدمتهم العلامة مجد الدين المؤيدي (مجدد الهوية الزيدية الحديثة!) كانوا متحالفين معها في الستينيات، ويعيشون على أموالها وفي أحضانها! ولم يترددوا أن يستعينوا بصليبيين أوربيين، وبشاه إيران الزنديق عميل أمريكا، وباليهود الصهاينة في إسرائيل لدعم مليشيات البدر وتدريب المجاهدين (!) والعمل خبراء مع قادة الإمامة الطيبين الطاهرين(!).. ورغم كل ذلك فلم يروا في ذلك قذارة ولا سلبية ولا سوءاً ولا أمراً غير شريف.. ولم يخدش ذلك في إنسانيتهم ولا في وطنيتهم ولا في أخلاقيتهم ولا في إسلامهم (كما يقولون عن الإصلاحيين الذين لم يفعلوا عُشر ما فعلوه!).. وظلوا كما كانوا طيبين طاهرين مكرّمين مفضلين! ولكيلا يحتج ضد هذا الكلام بأن كل تلك التحالفات كانت صحيحة وحلالاً، لأن المذهب الهادوي يجيز التحالف في الحرب مع الكفار والمنافقين والفسقة ضد المسلمين البُغاة (أي الرافضين لهم!)، بل يؤكد أن محاربة المسلمين البُغاة أولى من محاربة الكفار.. لكيلا يقال هذا نريد فقط أن تقولوا ذلك لليمنيين صراحة.. وأن من يريد التحالف مثلهم مع الكفار والمنافقين والفسقة فعليه أولاً أن يعتنق المذهب حتى تكون تصرفاته شرعية ووطنية وإنسانية، وينجو من انتهاكات حقوق الإنسان المشهورة باسم.. خطابات عبد الملك الحوثي!