كثيراً ما تواجه الصحافي عدة تعطيلات، من بينها أن ترفض شخصيات سياسية أو ثقافية الإدلاء بتصريح أو مشاركة الرأي في تحقيق أو سبر آراء أو إجراء حوار، بدعوى أنه يعمل لصالح مؤسسة إعلامية تخالفها الرأي، وتتّهمها بالمناسبة بأشنع الأوصاف. يعبّر هذا السلوك عن احتقان وعدم ثقة عامة تسود المنطقة. إزاء طلب التصريح أو إجراء حوار ثمة رؤيتان متناقضتان لكنهما تصبّان في مجرى واحد.
الأولى هي "الرفض الجاهز"، فلكل "قبيلة عربية" صحافتها وفضاءاتها الثقافية والفكرية ولا مجال للتعاون مع "الخصم"، فهو مغالط ولن يتناول التصريح أو الموقف إلا بالتحريف والتوظيف.
أما الرؤية الثانية، فهو "رؤية الاختراق" أي الموافقة على الحديث، وفي الخلفية الذهنية تلك الفرصة التي تُمنح له كي يتوجه إلى جمهور "قبيلة أخرى" وتمرير رسائله إليها. في الحالتين يبدو التقسيم "القبلي" مترسّخاً في ذهنيات الفئتين.
ولعل هؤلاء الذين تتوجّه إليهم الصحافة هم الشريحة التي يمكننا أن نسمّيها "النخبة". لا يسمح لنا هذا التحليل إلا أن نقول إن هذه القبليّة تمثل واقعاً فوقياً، وأنها ليست معمّمة على كل الذهنية العربية بأهم وأكبر عناصرها، ذلك الوعي الشعبي الفطري.
إذ ما زال المغربي أو التونسي يتجاوب مع العراقي وهموم بلاده بنفس الدرجة من الشعور المشترك منذ عقود، والحرب في اليمن تدمي قلب المصري والسعودي وإن دعم نظامه الحرب نفسها أو قادها، وكذلك الأمر في سورية أو في ليبيا. غير أن "القبليّة" المنتشرة لدى النخب لها قابلية النزول إلى الأرض والانتقال كعدوى بفضل قوة التكريس، وهو أمر غير مستبعد على مدى بعيد.
فالحدود التي نراها اليوم فوق الخريطة العربية، كانت لا تعني شيئاً لمواطن عربي في منتصف القرن الماضي، فهي ليست سوى إحدى تبعات الدخلاء من المستعمرين، ولكنها اليوم تمثل جدراناً سميكة في ذهنه، بل إنها في بعض الأحيان جدران ملموسة. وبذلك انتقل الواقع الفوقي إلى "واقع بأتم معنى الكلمة". في المحصلة، لدينا نخبة تحكمها "القبليّة"، في مقابل شعوب تفكر بمنطق الأمة.
فكل من الفئتين ينتمي إلى جسد حضاري واحد، الحضارة العربية الإسلامية، وهي التي حققت ذاتها بهذا الانتقال من "القبيلة" إلى "الأمة" في القرن السادس الميلادي، ولولا تلك الخطوة لما عرف التاريخ حضارة تسمى الحضارة العربية الإسلامية.
ألا يبرهن ذلك مرة أخرى على أننا نعيش تراتبية مقلوبة بين النخبة والعامة؟ حالنا كمَثَل سفينة يقودها ربّان أعمى وفي يده بوصلة، فيما تحمل السفينة عشرات المبصرين في طاقمها ولكنهم لا يملكون بوصلة، إضافة إلى أنهم لا يعلمون بعمى الربّان. وفي بعض الحالات، لا يكون الربّان أعمى غير أنه يخفي البوصلة في جيبه، فهي تمثل الشرط الذي يجعل منه ربّاناً.