منذ عودته من المنفى أواخر 2006، اعتاد عبدالرحمن الجفري الظهور على المسرح السياسي منفردا ليقول كلمته بشأن ما يحصل في اليمن. فعلى خلاف صيف 94، حينما لعب دوره ضمن الفريق الخاسر -باختياره نائباً لرئيس الجمهورية، التي أعلن علي سالم البيض فك ارتباطها في 21 مايو 1994 عن الجمهورية اليمنية- تعلم الرجل كيف يخيب آمال الفرقاء، متخذا لنفسه طريقا مستقلا بعض الشيء، طريقاً آمناً يعرف أنه إذا لم ينته بمكاسب فإنه لن يفضي حتما إلى الخسران. فالراجح أن رئيس حزب رابطة أبناء اليمن (رأي)، خضع، خلال الآونة الأخيرة، لاستقطاب مكثف من قبل الأطراف الثلاثة الأبرز في الأزمة: النظام الحاكم، التشاور الوطني بقيادة اللقاء المشترك، وفصائل الحراك الجنوبي في الداخل والخارج. لا يريد الجفري أن يخسر مجددا. لقد وضع أمس حدا للتجاذب بأن قدمت الرابطة، التي تأسست نواتها الأولى في جنوب اليمن عام 1951 برئاسة محمد علي الجفري، وكانت تحمل اسم رابطة أبناء الجنوب، مبادرة سياسية يمكن وصفها بالذكية والمتوازنة، وتنطوي على أفكار خلاقة للخروج بالبلد من المأزق الخطير والمركب. وبهذه الخطوة يبرهن الجفري على مدى استفادته القصوى من التاريخ، وكم إن التحالفات عديمة الجدوى في اليمن، وأن نتائجها غير مضمونة أصلا. فلا أحد يعرف في صف أي من الفرقاء يقف الحظ الآن. ثم إن الرجل السبعيني نفسه يدرك، أكثر من غيره، ألا شيء محسوم في اليمن، وأن التكهن بالأشياء ضرب من الجنون. والمؤكد أن الخسارة ستكون حليف الجميع في نهاية المطاف. في المؤتمر الصحفي الذي عقده الجفري في فندق حدة رمادة، صباح أمس، كشف حزب الرابطة النقاب عن فحوى رؤيته التي تضمنت مقترحات عملية قال إنها جاءت "حرصا على إعادة بناء مشاعر المودة والأخوة بين أبناء الوطن، وإزالة لجدار الكراهية الذي يبنى، والصراع الذي يؤجج، وحفاظا على المواطن متحدا مستقرا بعيدا عن الصراعات، وتأهيلا لبلادنا أرضا وإنسانا لتؤدي دورها الهام والمحوري في محيطها الإقليمي والدولي". المقاربة تبدأ بتشخيص موجز للمشكلة اليمنية، التي أرجعتها إلى غياب المواطنة السوية المرتكزة على ثلاثة محاور هي: العدالة في توزيع الثروة والسلطة، الديمقراطية المحققة للتوازن والشراكة الحقيقية في المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين فئات ومناطق الوطن، والتنمية الشاملة المستدامة. وبحسب المقاربة فإن استمرار الوحدة بنظام الدولة البسيطة المركزية القائم، وسيادة قانون القوة، ومحاولة الانفصال كلاهما شقا رحى ستطحن الوطن والمواطن. وتجادل بأن الأخذ بنظام الدولة المركبة واللامركزية الكاملة هو ما تحتاجه بلادنا، "لأن التجارب التاريخية والمعاصرة أثبتت أن مركزية الحكم، وفق نظام الدولة البسيطة، هي العامل الأساس: للترهل والفساد والبيروقراطية في منظومة الحكم. والعائق للتنمية. والمولَّد للغبن السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومن ثم للتباغض والتنافر. والقادح لشرر النزعات الانفصالية والتصادم. والحاضن والمحفز لكل فكر سلبي وافد أو راكد". وأشارت إلى أن هذه المعضلات تبرز بصورة أكثر عمقاً وعنفاً في البلدان والدول: حديثة النشأة، وطرية الاندماج، ومتنوعة الخصوصيات، ومتراكمة الصراعات، وانقسامية التاريخ. وشرحت المبادرة، التي قال الجفري إنها "لمُّ لبعض نقاط المبادرات وشعث الكلام الموجود في الساحة من قبل كل الأطراف السياسية"، كيف أن تجارب الشعوب أثبتت أن نظام الدولة المركبة هو النظام الأمثل: "لتحقيق العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولإزالة أسباب الغبن. ولوأد النزعات الانقسامية والانفصالية والتصادمية. ولترسيخ وحدة الوطن أرضاً ومؤسسات. ولوحدة البشر وتوادهم إنسانياً". وأن ترسيخ وحدة اليمن لن يتأتى إلا من خلال التحول إلى نظام الدولة المركبة الذي يعتبر اليوم أرقى وأثبت وأصلب أشكال الوحدة والتوحد. لاسيما وأن اليمن عاشت القرون الكثيرة دون دولة مركزية واحدة وعاشت "قروناً من التمزق والصراعات المناطقية والقبلية والشطرية وأحياناً الأيديولوجية والمذهبية.. مما أورث جذوراً وبذوراً للانقسامات والتمزق غطتها العواطف الصادقة والجياشة بإعلان الوحدة.. واستحثت نموها الصراعات وتغذي هذا النمو الممارسات ويهيِّجه الغبن وتشعل ناره المركزية". وفي حين أوضحت الرؤية أن هدفها النهائي تحقيق مبدأ المواطنة السوية، فقد اقترحت 10 نقاط تحدد شكل نظام الحكم الحامل للهدف أهمها: أولا: نظام الدولة: ترى المبادرة الأخذ بنظام الدولة اللامركزية الاتحادي الفيدرالي – أي نظام الدولة المركبة- وهو أرقى أنظمة التوحد في تاريخ العالم، "ويندر أن نجد في التاريخ دولة توحدت على أساس هذا النظام وتفككت، كما يندر أن نجد في التاريخ، دولة توحدت على أساس النظام المركزي وبقيت"، بدلا عن الدولة المركزية -نظام الدولة البسيطة. ثانيا: اعتماد نظام المجلسين التشريعيين المنتخبين بما يحقق التوازن الحقيقي. ثالثا: اعتماد نظام الانتخابات بالقائمة النسبية، حيث يتحول الوطن إلى دائرة واحدة بالنسبة لمجلس النواب، وتتحول كل وحدة محلية إلى دائرة واحدة بالنسبة لانتخابات مجلس الشورى وانتخابات المجالس المحلية. رابعا: اعتماد نظام الحكم الرئاسي الكامل الأركان بحيث يتم انتخاب الرئيس ونائبه معا، مباشرة من قبل الشعب. خامسا: جهاز خدمة مدنية اتحادي مستقل، وأجهزة خدمة مدنية محلية مستقلة. سادسا: تطوير بناء القوات المسلحة والأمن لتصبح مؤسسات وطنية احترافية بعيدة عن جرها كطرف في أي خلافات سياسية داخلية. سابعا: إنشاء أمن محلي وأمن عام اتحادي. وفي الآليات ترى مبادرة حزب الرابطة أن يدعو رئيس الجمهورية إلى حوار وطني يحضره 5 ممثلين عن كل حزب، و4 ممثلين للحراك الجنوبي و3 للحوثيين و3 عن المعارضة في الخارج، و10 علماء ومشايخ غير حزبيين، و10 ممثلين عن شخصيات مستقلة ومنظمات المجتمع المدني. الشيء الملفت للانتباه، والباعث على الارتياب لدى البعض، والارتياح لدى البعض الآخر، هو اقتراحها "حضور ممثلين عن الجامعة العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، يشاركون إخوانهم اليمنيين في تسهيل حوارهم، ودعمه، وتقديم الدعم الفني والمادي لتنفيذ ما يتوافق عليه المتحاورون اليمنيون". على أن تنجز هذه اللجنة الخطوط العامة للقضايا المذكورة في المقاربة خلال مدة لا تتعدى شهرين، ويتولى فريق من علماء شريعة وقانون محليين استقبال المقترحات وصياغة مشروع تعديلات دستورية وقانونية. كما اقترحت أن يشكل المؤتمر الوطني للحوار حكومة وحدة وطنية يرأسها رئيس الجمهورية، وله نائب أو أكثر، وتقوم تلك الحكومة بالإجراءات التنفيذية للإصلاحات الشاملة وإعادة الهيكلة لنظامي الدولة والحكم، و"تشكيل هيئة ضمان وطنية من أعضاء المؤتمر الوطني للحوار، وعشرة من كبار العلماء المستقلين والبعيدين عن ممارسة العمل السياسي والتحزب، وعشرة إلى خمسة عشر شيخا من مشايخ شمل القبائل غير المنتمين سياسيا، وعشرة أكاديميين مستقلين، وعشرة من قيادات منظمات المجتمع المدني، وعشرة من الشخصيات الوطنية المستقلة، ومهمة هذه الهيئة ترتيب الضمانات اللازمة لإنجاز تنفيذ المخرجات المتوخاة من مؤتمر الحوار الوطني وما ينبثق عنه". وختمت الرؤية بالتأكيد على أن لا خير في بقاء أوضاع الدولة على ما هي عليه، وليس الانفصال والتمزق هو الخير. ليست هذه المبادرة هي الأولى لحزب الرابطة (رأي)، لكنها الأهم على الإطلاق. ففي 1997 قدم رؤية حول الحكم المحلي، ثم الأنظمة الانتخابية، ومسودة تعديلات دستورية في 2002، وأخرى بشأن الاقتصاد اليمن، ومشروع وطني للإصلاح الكامل عام 2004، ومقاربة للسياسات الداخلية الخارجية في 2008. وكان عبدالرحمن الجفري قد نزح عقب حرب صيف 94 إلى السعودية، إلى أن عاد برفقة الرئيس أواخر 2006. ومذاك بدأت التكهنات عن إمكانية تحالفه مع الرئيس لقاء منصب كبير في الدولة، وباستثناء ظهوره إلى جانب الرئيس خلال حملته الانتخابية عامذاك، فإن شيئا من التوقعات لم يحصل. فهو لم يبادر قط إلى عقد تحالفات مع أي قوة سياسية مفضلا أن يكون له صوته الخاص، بعد تجارب مريرة من التحالفات الخاسرة. في المؤتمر الصحفي نفى الجفري أي تواصل مع البيض، رافضا التعليق على مطالبة الأخير بفك الارتباط. ودافع عن مواقفه من الوحدة في 94، وقال إن انضمامه إلى حكومة الانفصال كان بهدف العودة إلى تأسيس الوحدة على قواعد سليمة، وأن الانفصال كان عن النظام وليس عن الوطن. تلزم الإشارة إلى أن حزب الرابطة يعاني من أزمات داخلية كان آخرها الحركة الانشقاقية التي تزعمها عمر عبدالله الجفري في 9 مارس 2009.