لا أتذكر في حياتي أمراً متعلقاً بالوطنية يتسم بطابع الهيبة والوقار كما هو الأمر مع ذكرى سبتمبر المجيدة. عدت في نهاية العام 89 من خارج اليمن بعد أن كنت غادرتها وأنا إبنة العامين. أتذكر تماماً شارع التحرير و حبال القناديل الملونة الممتدة من على أعلى أسطح البنايات تنسدل كثوب سبتمبري أنيق خاص بهذه المناسبة العظيمة، كانت كلها تضج بتعبير واحد: من هنا كانت النجاة، من هنا إنبثق الضوء، من هنا يبدأ توقيت بلادنا الأبدي، من سبتمبر المجيد.
شرح لي حينها والدي عن الثورة و أهدافها و لا أتذكر أبي طوال سنوات عمري متحدثاً بهذا العمق وهذا الحس المليئ بالإيمان واليقين، كما كان يفعل، وما يزال، في كل مرة يقص فيها علينا قصص ثورة سبتمبر المجيدة و مشاركته في المقاومة الشعبية أثناء فك حصار السبعين يوماً فيما بعد وعن رحلة الأمل التي كانوا يحلمون بها ويعيشون تفاصيلها كفتية قدموا من الأرياف بأرواحهم البسيطة ولكنهم كانوا يدركون أيما إدراك أهمية هذة الثورة و يؤمنون بها، أيما إيمان، رغم بساطة خلفيتهم الثقافية والمعرفية والتعليمية. كانت تلك الترويسة في الصحيفة الرسمية للبلاد التي تتضمن أهداف سبتمبر ماثلة أمامنا كل يوم بل كنا نقرأها بالتناوب بأمر من أبي بغرض غرسها فينا وغرس قيمة وأهمية هذه الثورة المباركة في نفوسنا.. كبرنا وكبر معنا أمل قطف ثمار هذة الثورة التليدة، إلا أنه و مع مرور الوقت وتكشف الحقيقة المؤلمة التي كان مفادها أن من يتولى أمرنا يمعن في التحقير من هذه الثورة كل يوم، من حيث يدري ويبخس من أهدافها السامية ما إستطاع لذلك سبيلا.. إن الثورة التي كان يقام لها إحتفال ضخم في كل عام كانت تفقد روحها من عام لأخر ويفقد معها اليمنيون كرامتهم و يتحول حلم أجدادهم و أباءهم إلى سراب من حيث لا يشعرون. إستمرت دائرة الفساد و سلسلة الأخطاء بالتدلي في تفاصيل حياة اليمنيين كل يوم، إلا أن هذا لم يكن ليضعف من قيمة هذا اليوم العظيم في نفوسنا قط، فالسادس و العشرين من سبتمبر كان على الدوام اليوم الذي لا يختلف عليه إثنان حتى أولئك اللذين تضرر ذووهم منها على نحو مباشر، و كأنها تلك التعويذة السحرية التي تجعل الكل بها مطمئناً و الكل بها راضياً مستنيراً. إلا أننا و كمجتمع يمني حر، كأحفاد لكل رموز و مشعلي ثورة سبتمبر المجيدة لم يكن من الممكن أن نستمر متجرعين للضيم أكثر، متأملين تلك الأهداف التي كبرنا عليها و هي تندثر، تتبخر و تغادر قبل أن نراها واقعاً ملموساً محفوراً في زوايا تاريخ بلادنا الحديث، فحدث ما كان له أن يحدث منذ سنوات طوال، خرج الناس أفواجاً في ثورة تليدة عظيمة حفيدة للثورة الأم، ثورة 11 من فبراير، ثورة إكمال ضوء سبتمبر من بعد عقود من الدهر. لم يكن الحال بعده يسر، بل و إزداد سوداوية وغوغائية مع تصدر الحوثيين للمشهد، لتتوج هذه التراجيديا المأساوية بإقتحام صنعاء و السيطرة على الحكم من قبلهم في ذات الشهر و قبل الذكرى السنوية بخمسة أيام فقط، لتبدأ بعدها مرحلة لا يمكن وصفها بأقل من أنها مرعبة و مفزعة على كافة الأصعدة، إجتماعياً، إقتصادياً، سياسياً، أمنياً و إقليمياً. و في ظل كل هذا السواد يحدث ما لم يستطيع فهمه أو إدراكه كل من يشارك في هذه الحرب العبثية و من كافة الأطراف، يحدث أن يزهر سبتمبر في نفوس اليمنيين من جديد و كأنه زهرةً لأول مرة تتحسس الضوء من غير شمس السماء، من شموس يمنية أصيلة. يزهر سبتمبر ليقول لكل أشكال التمزق و الشتات والفرقة التي باتت عنواناً للمرحلة الحالية بأنه ما يزال هناك ما يجمع قلوب اليمنيين رغم المواجع و الجراح، و بأنه ما يزال سبتمبرنا يزهر و يضيئ لنا في كل مرة طريقنا الذي ربما لم يبارحه الظلام. لكن أي سبتمبر؟ سبتمبر الذي نعرف، سبتمبر الذي نفخر به، سبتمبر الذي لا نساوم عليه، سبتمبر الذي لا يقبل له تسمية أخرى و لا يقبل معه يوم رديف و لو كان بتاريخ مقارب له، تاريخ يحكي فداحة المفارقة كما و أن يحدث و يجتمع الضوء و الظلام في حجرة واحدةً.