إحدى قريباتي الكبيرات في السن، سمعت أني مهتم بمتابعة كأس العالم، وفي أول اتصال هاتفي معها قالت لي: "لا تهُمْ يا ابني قد دعيت لك أن الله ينصر اليمن على اعداه ويفوزوا"، أرادت المسكينة أن تدخل الفرح إلى قلبي، وكان من حسن حظها أنها لم تكن تعرف شيئ عن الكرة، أو المنتخب اليمني، وإلا كانت نزعت الشعر الأبيض المتبقي في رأسها، قلت لها ان شاء الله. وتذكرت احدى النكت التي سمعتها قبل يومين من زميل مصري: واحد صعيدي ظل يدعو الله 15 سنة يرزقه بولد، وفي الآخر نزل له ملاك، قال له: "ابوس ايدك اتجوز الأول". الكره عندنا شيئ مختلف وخاصة عند السياسيين الذين يقولون بعد كل خطاب "الكرة الآن في ملعبهم"، مع أن الملعب لم تعد فيه منطقة خضراء، بعد أن توالت الحرائق في معظم جهات الملعب، حتى في المساحات الباقية لا أحد يضمن أن هناك متسع من الوقت لأشواط إضافية ننقذ فيه المباراة من التحول إلى مجرد "مضرابة" وحرائق فقط.
أبقى عند الكرة، وكنت تمنيت على القارئ في مقال الأسبوع الماضي أن يعطي نفسه اجازة و يذهب إلى القرية، وأقول اليوم أن هناك خيار آخر، يمكن للقارئ أن يذهب إلى مباريات كأس العالم، فيتابع ويستمتع، والذي لم تسعفه الظروف وتحديداً المادية في الاشتراك يسعى من الآن للبحث عن صديق لديه تلفزيون ورسيفر واشتراك في قنوات الجزيرة، والأهم عنده الاستعداد لعزيمته على البيت، وإن لم يجد يبحث عن مقهى قريب يعرض المباريات، والأفضل أن يكون لديه شاشة بلازما، أما الذين لا يجدون في الكرة سوى مضيعة وقت، فلا أملك لهم سوى العودة للاقتراح الأول.
أقول هذا لأني ابحث عن ما يعيد الشغف إلى روح المواطن اليمني، الشغف بالحياة وهو يرى أمامه في القرية الماء والخضرة والوجه الحسن إن كان لديه القليل من الحظ، والشغف بالمشاهدة والتشجيع والحماس لفريق أو لاعب يبذل كل ما عنده باخلاص، مثل هذه الأشياء في اعتقادي، توفر الكثير من الأعصاب التي يحرقها اليمني على الدوام وهو يرى ويسمع ما يحدث في بلده.
انتظرت كأس العالم وكنت أتوقع أن يأخذ الشباب في الضالع استراحة ويشاهدوا المباريات، ربما يوفروا خلال ذلك بعض القتلى الذين يسقطون برصاص رجال الأمن، وربما يحدث الأمر نفسه عند إخواننا في مأرب، مثلاً: تذهب بعض المجاميع القبلية لاستئجار جرافة (شيول) للحفر عن أنبوب نفط بغرض تفجيره فيعتذر صاحب الشيول لأنه يتابع فريقه المفضل في كأس العالم.
هل يمكن أن يحدث هذا في مأرب، وبهذه البساطة؟ أتمنى، لكن يصعب حدوث ذلك، وفي ظني أن طريقة الحكومة في ملاحقة القاعدة هناك لن تمنحهم الفرصة لذلك، والماربي في الأصل مستعد على الدوام لاستخدام سلاحه الشخصي وإن كان الخصم بحجم الحكومة فهو لن يتردد في استخراج اسلحته الثقيلة، "وهات يا قوارح".
قوارح.. قوارح في كل مكان هنا، ونحن لا نسأم منها ولا نتعب، والخوف أن تتحول بمرور الوقت إلى عادة لا تستفز فينا القلق والخوف، "ياخي عادي كلهم بيتقاتلوا" طيب ولماذا إذن يتقاتلوا؟ في مثل هذه الحالات يصبح البحث عن شيئ يبعث بداخلنا الرغبة في أن نعيش حياة طبيعية، أمر ملح وضروري، والحياة الطبيعية التي أقصدها تعني إذا قُتِل أحدهم في الضالع أو مأرب يشعر الجميع بالحزن والأسى وكأنهم أهله، وتستيقظ الحكومة ولا تنام حتى تأتي بقاتله. لكن لا كرة القدم طبعاً ولا الذهاب إلى القرية يمكنه لوحده أن يعيد لنا الحياة الطبيعية، ووقف القوارح في البلاد، لكن من شأن ذلك وقف القوارح بداخلنا، تلك القوارح التي يصعب معها استدعاء الشغف والفرح.
السؤال الذي تركه ذات يوم حميد شحرة وذهب لملاقاة ربه: "هل تستحق الحياة أن نعيشها كمحاربين؟" يمكن الإجابه عليه بنعم ولا. هناك ما يستحق القتال والكفاح، لكن ليس طوال الوقت. المحارب نفسه يحتاج إلى استراحة.
أرجع إلى الكرة، وإلى أصوات "الفوفزيلا" الشهيرة التي يبدو أنها لن تهدأ أبداً في جنوب أفريقياً حتى 11 يوليو المقبل، أسمعها وأشعر بالأجواء الصاخبة هناك وأتمنى في لحظة سرحان أن يأتي اليوم الذي أشاهد فيه المنتخب اليمني أو حتى لاعب من أصل يمني في كأس العالم فأشعر بالزهو.
في الواقع لقد بدأت أشتري كرات قدم بمعدل واحدة كل أسبوعين تقريباً لابني عمر الذي أكمل الأحد الماضي ثلاث سنوات، وفي الحقيقة الدوافع ليست كلها وطنية، لقد بدأت عادة شراء الكرات منذ سمعت بصفقة انتقال اللاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو إلى نادي ريال مدريد الأسباني، قالوا أن الصفقة تجاوزت 135 مليون دولار، حدث ذلك في عز الأزمة المالية العالمية منتصف العام الماضي، واستلمها عداً ونقداً نادي مانشستر يونايتد البريطاني، وبراتب سنوي لكريستيانو يصل إلى 15.5 مليون دولار، منذ ذلك اليوم يكفي أن يؤشر ابني عمر إلى أية كرة في أي محل لأذهب إلى الدفع بكل فرح، ورأسي يضج بالأحلام. غير أني وأنا أجمع ما دفعته ثمناً لعشرات الكرات تراودني الأفكار المتشائمة: ماذا لو ظل الوضع على حاله في اليمن، من سينتبه إلى استثماري الكروي، وياخذ بيد ابني إلى المساحات الخضراء، ليلعب طبعاً وليس "ليعتلف" وأشاهده على شاشة التلفزيون فأشير إليه: هذا ابني؟ ثم أن فكرة الذهاب به إلى أوروربا كما فعل والد الساحر الصغير ليونيل ميسي حين أخذ طفله إلى برشلونة صعبة، وإلا كنت ذهبت إلى هناك "لطلبة الله" قبل أن يولد أو أفكر أصلاً بالاستثمار فيه.
أختم بنكتة ثانية تؤكد أن الوطن العربي ليس في وضع جيد لاستيعاب مواهب كروية بحجم ابني عمر، فقد كتب جهاد الخازن قبل أيام في عموده اليومي أنه سمع بفريق في أحد بلدان شبه الجزيرة العربية سيبني سقفاً فوق الملعب، واستغرب ذلك لندرة المطر في بلادنا، ثمسمع أن سبب بناء السقف هو لإبقاء ركلات الجزاء داخل الملعب..!