كانت الليلة الثانية ، في أول زنزانة في سجن الأمن القومي، في صَرِفْ- صنعاء كنا ثمانية أشخاص، مرصوصون مثل سمك السردين داخل العلبة في زنزانة واحدة. ثلاثة تجار ذهب من حريب، وثلاثة صرافون من دبع وبَلْسان من سكان صنعاء القديمة الذي يعمل حارسا في دكان الصرافين وأنا.
قبض الأمن القومي على أصحاب حريب وهم يرصون مائة وسبعون مليون ريالا، قيمة سبائك ذهب أحضروها من السعودية عبر الصحراء، وباعوها لأصحاب دبع.
لم يكن أحدا يريد إعتقال بلسان، ولكنه بطبعه بدس أنفه في كل شيء، ورغبته القوية في أن يكون في صدر كل حدث أو حديث، تفاصح أثناء عملية القبض، فأدخلوه في السيارة القفص معهم. الكل راقد والظلام دامس، وفجأة حدثت ضجة فتح الباب الحديدي وصوت آمر، بأن يخرج إثنان من الزنزانة لتخفيف الزحام. تقديري، أن الوقت كان الساعة الثانية بعد منتصف الليل. اشتغل مخي بسرعة، بأنه من المؤكد بأني يجب أن أترك الزنزانة. فتجار الذهب، هم من أسرة واحدة وكذلك أصحاب دبع، ولا يمكن إلا أن يبقوا معا. قمت وأخذت فراشا وبطانية وخرجت من الزنزانة، وأنا أتمنى ألا ينتهي أمري في زنزانة واحدة مع بَلْسان. وكان الستة يصيحون على بَلْسان بأن يقوم ويغادر الغرفة.، لأنهم لا يمكن أن يفترقوا. قيد الحارس يداي وعصب عيناي وحملت الفراش والبطانية، ومشيت وأنا أتعثر وأتردد، والحارس يحثني على إسراع الخطى. وصلت في الظلام إلى غرفة ضيقة. هل هي زنزانة إنفرادية أم يمكن أن تتسع لفراش آخر متعامد؟ قلت في نفسي، السجن الإنفرادي أفضل من الزمالة مع بَْلسان. هدوء وسكون وظلام، وشيء من الخوف. والوقت الذي يمر، لا يمر. ثم جاءت أصوات من الممر. أصوات إحتجاج بَلْسان، بأنه يريد البقاء مع أرباب عمله أصحاب دبع. إدخل واسكت، نهره الحراس. دخل بَلْسان، ووضع فراشه في المساحة الوحيدة الممكنة عند أقدامي، ثم تمدد وغطى نفسه تماما بالبطانية. لم تكن أصوات أقدام الحراس، قد اختفت تماما في الممر، إلا وقد احتل مكانها أصوات شخير عالية من بَلْسان. كانت الأشياء التي تزعج وتغيظ وتحزن أي شخص في هذه المحنة، كثيرة جدا. ولكني علمت نفسي حيلة، وهي أنني بدلا من أغلي في مشاعر الضيق والضجر والحزن، أبدأ أعيش وأحلل مصدر وتركيبة ووظيفة الإزعاج، فيختفي تماما الشعور بالغيظ والغضب. وهكذا، ابتدأت في الدخول إلى حلق وبلعوم بَلْسان وأرى كيف يصدر أصوات الشخير المهولة هذه. عنقه كباقي جسمه، غليظ وواضح أنه معبأ بكميات دهن زائدة. وإذا صورنا رقبته بالطبقي المحوري المرتب، فسنرى هذا الدهن محيطاً بفتحة حنجرته. وكلما دخل وخرج الهواء من حنجرته، أرسل بَلْسان شخيره الأسطوري إلي. ثم ابتدأت أحسب طول مدة ونوع صوت شهيق الشخير مقابل الزفير. ويبدو أن الحيلة، نفعت. لم يختف فقط الغيظ، ولكني غفوت أيضاً. قمت، والدنيا غَبَشْ، بعد الفجر. كان كلي تصميم على أن أخلص نفسي من الوسخ الذي اكتساني. هذا اليوم السابع منذ إختطافي، ولم أتغسل أو أبدل ثيابي فيه. كان هناك قليل صابون دقيق لغسل صحون الطعام بعد كل وجبة، في تلك المساحة المحسوبة علينا حماما ونُقرة. غسلت كل جسمي بالماء والصابون الدقيق، ثم غسلت لباسي الدخلي السفلي، وارتديت البنطلون الجينس على اللحم ولبست نفس الفنلة البيضاء التي لم أخلعها لمدة أسبوع، على مضض. وطبعا، لم يكن معي منشفة. ثم صليت. هذا اليوم، أطلقت عليه إسم يوم الطهارة. حوالي الساعة التاسعة، حضر الإفطار. فَزَّ بَلْسان، قائما. لا أدري كيف عرف أنه الإفطار. سبقني إلى فتحة شراعة الباب وتناول خبز الكدم والفول والشاي، ووضعها بخفة وسرعة على الأرض، وابتدأ يأكل. جلست بجانبه، وابتدأت بالأكل أنا أيضا. أنتهى من طعامه بسرعة، ثم تمدد ورقد وابتدأ يشخر، من جديد. له تصريح سابق عندما كنا في الزنزانة الأولى، بألا مشكلة معه مع النوم. يغطس في النوم حال وضع رأسه على الوسادة. وبأنه لو أمكنه، يستطيع أن يرقد طول اليوم. بعد الغداء، سألني بَلْسان: "يا دكتور ، كيف انتم يا أهل تعز واقفون مع العدوان السعودي؟" وكان قد أثار غضبي في الزنزانة الأولى بأن تبع نفس السؤال بتهديد، بأنهم سيدمرون تعز بيتا بيتا. هذه المرة، سألني بطريقة مهذبة، على قدر ما يقدر. بلطف زائد، ابتدأت أشرح كيف أننا كلنا في #اليمن، كنا على حافة الهاوية، ثم نجحنا كلنا، بمساعدة العالم بعمل مرحلة إنتقالية توافقية، ثم قام الحوثي وصالح بإنقلاب،...،...و ..و وارتفع شخير بَلْسان. فتوقفت أنا عن الكلام. وبَلْسان، يعجبه النخيط، ولا يفوت فرصة للنخيط إذا كان صاحيا. يقول عن نفسه أنه الآن صنعاني مائة بالمائة ويسكن صنعاء القديمة، لكن أخواله قبائل، ولو يدروا أنه محبوس، فسيأتون مدججون بالسلاح ويخرجوه. وأيضا، ربما يفشر قليلاً. قال أنه كان في الشرطة العسكرية. -"مش ممكن"، وكيف خرجت؟ -ما تدريش أنت بالدنيا، يا دكتور. ما تدريش بأنهم لصوص من الرئيس إلى أصغر ضابط. ما كانش ممكن أستمر إلا لو دفعت. وفشر أيضاً، بأنه خريج كلية التجارة- قسم المحاسبة. - وليش ما اشتغلتش بشهادتك؟، سألته. -ما بش وظائف. أجاب. ويقول بلَْسان عن الرئيس السابق صالح بأنه "مشكلجي"، ولا يأتي منه إلا المشاكل والخراب. ومع أن بَلْسان لا يحب الحوثي، إلا أنه مستعد أن يزحف معه لتدمير تعز. بعد ظهر اليوم الثاني، طلب مني بَلْسان أن أحكي له قصة. كنت في الزنزانة السابقة قد حكيت لهم قصة من التي كانت أمي - رحمها الله- تحكيها لي وأنا طفل صغير. بعد أن قرأت قصص الأطفال الشهيرة لهانز أندرسون، أجزم بأن قصص أمي تنافسها بالحبكة والمتعة والتشويق. في الزنزانة السابقة، كان منصور صاحب حريب يتكبد مشاعر حزن وإنفعال عارمة بسبب لطش الأمن القومي ل "شقاء العمر"، على حسب قوله، وعندما عرضت عليه أن أحكي له قصة "سُمَّاءة"- "حزوية"، من حق زمان، وافق . وكان لسماءتي، وقع جميل عنده. والآن، شعر بَلْسان بالملل، فأراد مني أن أسليه. - "لا". كانت لا الناهية الجازمة. هناك شيء إسمه القيام بدور الشخصية "الألفا"، أو المسيطر المهيمن. وأنا لا أطيق شيئا في الدنيا مثل الشخص المتنمر المهيمن. سواء كان التنمر علي شخصيا أو على غيري. وقد كان في الليلة السابقة، قام من النوم وطلب مني أن أملأ له كوبا من الماء. بطوله وعرضه، ويطلب مني أنا الأكبر منه سنا أن أسقيه. بصوت صارم وبنبرة حادة لا تخطئها الأذن قلت له: "إسق نفسك بنفسك". -"حاضر حاضر"، بخنوع أجاب. القوة، هي في الداخل وليست في حجم العضلات ولا الطول ولا العرض. ابتدأ بَلْسان، بتكرار الخبط على الباب مناديا الحراس، بأنه يريد الذهاب إلى زنزانة الصرافين الذين يعمل عندهم حارسا. وكل مرة، كان يختلق عذراً جديداً. مرة كان يصيح، وهو عاطفا ركبته بأن به كسرا قديما في ساقه وبأنه يجب أن يبقى مع أصحابه. وكنت أبتسم على الحجج التي يستعملها. ثم أخيراً، خبط الباب بقوة وابتدأ يصيح: هذا الدكتور سياسي، ويريد أن يفسدني. هذا الدكتور، يحاول يغسل دماغي. وأنا راجل مسكين صاحب جهال. خرجوني من عنده، ورجعوني عند أصحابي. غضبت وقلت محدثا نفسي: كذاب ولكن العنصر الفكاهي كان طاغيا، فلم أتمالك نفسي من الإهتزاز من شدة الضحك. لو أن هذا المشهد كان ضمن مسرحية كوميدية، لقلنا زودوا بالمبالغة. وفي المساء ، جاء الحراس وقيدوني وعصبوا عيناي، وحملت فراشي وبطانيتي ومشيت بها متعثراً، إلى زنزانتي الثالثة. وإلى مآسي أخرى وأحزان مظاليم آخرين. ولم أسمع بعدها شيئا عن بَلْسان.