سألني ولدي ذات يوم - متى نعود إلى الوطن يا أبي؟ لقد اشتقت إلى أصحابي ورفاقي. اشتقت إلى مدرستي وأحبابي. اشتقت إلى اللعب مع أولاد أعمامي وأخوالي. أريد الوطن يا أبي. أجبته وأنا مذهول بسؤاله: - وطنك أصبح سجنا يا ولدي. - كيف يا أبي. لم أفهم ما تقصد. كيف لوطني أن يصبح سجنا. وطني كبير وفيه شوارع ومدن. فيه حدائق وألعاب. فيه بيوت وبحار. كيف له أن يصبح سجنا يا أبي. أعرف أن السجن بناء له جدران يوضع فيه من يقتل أو يسرق لا من يبحث عن عيش كريم. - نعم يا ولدي كل ما قلته صحيح. ولكن لأُبسّط لك ما عنيت. في السجن لا يستطيع الإنسان أن يأكل ما يريد أو يقول ما يريد أو يتكلم مع من يريد أو حتى أن يقضي حاجته حينما يريد. رأيت علامات الاستغراب على وجه ولدي ذي العشر سنوات وأدركت حينها أني قلت كلاما يفوق إدراكه فكيف لي أن أقنعه أن وطنه قد أصبح سجنا. حاولت أن استخدم مفردات يألفها وأنا لست ببارع في ذلك: - يا ولدي، أنت تحب العزف على الجيتار وتشعر أنك عندما تعزف عليه فأنت موجود وتستمتع بحياتك، ولكن لسبب ما لم تستطع الحصول عليه رغم أن غيرك قد يحصل عليه بسهولة وهو لا يهوى العزف عليه. كيف ستشعر حينها؟ - سأشعر بالظلم. حمدت الله أني تمكنت من البداية.. - يا ولدي، في وطنك من لا يتمكن من الحصول على بئر يروي منها مزرعته أو حتى ثور يحرث به حقله الذي لا يملك غيره للعيش منه. - وفي وطنك من لا تستطيع الحصول على مال كافٍ لترضع ولدها من أرخص أنواع الحليب المتوفر في السوق. - وفي وطنك من يتخرج من الثانوية ولا يستطيع أن يواصل دراسته الجامعية لعدم امتلاكه المال أو (الواو). - وفي وطنك من يتخرج من الجامعة ويظل يبحث عن عمل حتى يشيب ذهنه. - وفي وطنك من يقضي يومه مهموما بديونه وفواتيره رغم أنه قد يصبح كاتبا مشهورا ومبدعا لو سلم من تلك الهموم. - وفي وطنك يا ولدي يموت العالِم همّا وهو يبحث عن الوقت والمال ليكتب بحثا ذا قيمة يضيفه إلى قائمة بحوثه الهشة التي توحي بضعف المجتمع الأكاديمي الذي يعيش فيه. - وفي وطنك يموت الإعلامي المبدع وهو في عنفوان شبابه ولا يعرف الناس عن إبداعاته إلا بعد موته في ظل نظام لا مكان فيه إلا للمطبلين له من المبدعين والذين غالبا ما يكونوا أنصاف مبدعين. - وفي وطنك يا ولدي اذا لم يكن لك (ظهر) فأنت في عداد من غضب عليه النظام وضل عن هديه. أدركت الآن كيف أصبح وطنك سجنا يا ولدي؟ سألني ولدي: هل من أمل يا أبي أن يصبح وطني وطنا؟ أجبت وأنا مشتت بين الحيرة والتفاؤل: أجل يا ولدي ... عندما يصبح السجّانُ إنساناً.