قطعاً لا يعني الموقف من القبيلة موقفاً من عرق أو لون أو جهة أو دين أو مذهب، بل إن الموقف من القبيلة موقف من البدائية التي تحملها القبيلة إلى أي مكان تسجل حضورها فيه، وبوجه أخص مربع العمل العام وأدواته وجبهاته. والجدل الدائر حول القبيلة ورموزها لا يكاد يتجاوز هذا المربع في الغالب. عقود واليمنيون يناضلون من أجل الحداثة والمدنية والمؤسسية، ولهذا لا غرابة في استنفار أبناء هذا الجيل تجاه كل سلوك أو خطوة تعيدنا للنقطة (صفر)، وتجاه كل سلوك أو خطوة تغلب نقيض تلك المبادئ والأهداف، خصوصاً ورصيد القبيلة كمنظومة ورموز مثخن بكل ما يناهض مشروع دولة (الشعب) والمواطنة المتساوية والمؤسسية.
يقع المشترك وقادته في تعاملهم مع القبيلة في فخ البراءة السياسية التي لا تعير التراكم السلبي الطويل مع هذه المنظومة (القبيلة) أي انتباه، وهو فخ وربما ميكافيلية يجعل المشترك في مربع واحد -في تعامله مع واحدة من نقائض الدولة المدنية- مع إدارة سلطة 78 التي لم تنتج في إدارتها لأمر هذا البلد بتلك الطريقة وتلك الشروط سوى كل هذا الخراب الذي نراه اليوم.
لو كان المشترك تأمل قليلاً في الحالة اليمنية والقبيلة كعنصر فعال فيها لتعامل بحساسية عالية مع إرث يحمله غالبية اليمنيين تجاه القبيلة ورموزها، ولما تسرع في إعادة موضعة رموز القبيلة في تكتلات تقول ضمناً وصراحة أحياناً أنها تأسست لمناهضة البدائية ومفرداتها في إدارة الشأن العام، وأنها تحمل مشروعاً وإطاراً وطنياً مختلفاً.
ومن ذلك ما ذهب إليه الدكتور محمد عبدالملك المتوكل في العدد الماضي من صحيفة المصدر. فما ذهب إليه الدكتور في الجزئيات المتعلقة بالقبيلة من مقاله متسق تماما مع موقف المشترك وبأكثر من مستوى، ومتسق أيضاً مع التعامل السائد منذ عقود مع القبيلة باعتبارها "طفل اليمن المدلل" باستثناء شجاع ووحيد تمثل في تجربة صاحب مشروع الدولة (المغدور بنا من خلاله) الرئيس إبراهيم الحمدي رحمه الله، الذي من الواضح أن هناك بمقابل الانقلاب السلطوي على مشروعه انقلاب ثقافي ومجتمعي تتماشى معه بإدراك أو بدون إدراك نخبتنا السياسية والثقافية.
ما يقوله التاريخ وتقوله التجربة والتراكم أيضاً أن أكثر ما أضعف ويضعف أي مشروع نهضوي في اليمن هو التساهل البريء أو الميكافيللي مع تعبيرات البدائية وثقافتها، والسماح لنفوذ هذه التعبيرات بالاتكاء على أدوات ظاهرها المدنية والحداثية وباطنها محكوم بصراع مراكز القوى التقليدية وحساباتها، وبكل إرث البدائية وثقافتها.
بالطبع فإن الموقف من القبيلة هو موقف مبدأي من المنظومة التي تحكم القبيلة ويتأسس عليها وجودها ونفوذها، ومن خلال هذه المنظومة العصبوية أيضاً تشل حركة الأدوات العامة وتسيطر عليها، ومن خلالها تعيق بالإضافة لعوامل أخرى مشروع الدولة المدنية الحديثة ودولة المؤسسات والعدالة والمساواة التي يحلم بها اليمنيون منذ عشرات السنين.
وقطعاً فإن الموقف المبدئي من القبيلة لا يعني أن هناك موقفاً سلبياً من أبناء القبائل أو أبناء ما يسمى مشائخ يبيح أي تمييز تجاههم أو إقصائهم على أساس انتمائهم العرقي، فهؤلاء أولاً وأخيراً مواطنون لهم ما للآخرين من حقوق وعليهم ما على الآخرين من واجبات.
بيد أن على هؤلاء أيضاً حين يتصدرون العمل العام وأدواته قناعة أو استخداماً ألا ينتظروا التصفيق والتصفير خصوصاً من كوادر العمل العام التي لا سند لها سوى دأبها وما تكتسبه في الميدان من خبرة ومعرفة، بل عليهم أن يتفهموا الحساسية العالية التي تستنفرها خلفية راكمتها خبرة سلبية طويلة، ولن يفت هذه الخلفية ويقلل من سطوتها وحضورها في الذهنية العامة إلا خلفية تراكمها خبرة إيجابية تختبر مبادئ الديمقراطية والمؤسسية والمدنية والمواطنة المتساوية مع أبناء القبيلة | المشيخ المتطلعين للاشتغال بالأدوات المدنية الحديثة في ميدان العمل العام، وهذه هي أنبوبة الاختبار الكفيلة بفرز المبدئي من الانتهازي، الغث من السمين.
ويبرز في ذات الإطار مبدأ أصيل هو اختبار أساسي يمكن قياسه على بعض أدوات المشترك وأدائه في هذا التفصيل، وكذا أبناء القبيلة والمشيخ المشتغلين في مربعه، ومكون هذا المبدأ علامات استفهام جوهرية مفادها: ما الذي صدّر (س) و (ص) من الناس إلى المربع الأول في صناعة القرار في حين أزاح (ج) و(ه) جانباً؟ هل هناك معايير ومحددات موضوعية عادلة وشفافة هي التي صعدت وبطريقة شرعية فلان أو علان؟ أم أن الأمر خضع لتسويات بحسب الوزن والطول والعرض؟ وتالياً.. هل تدار هذه الأداة العامة أو تلك وفق آلية منضبطة وواضحة وشفافة ووفق خطط واستراتيجيات وتقييم دوري مؤسسي؟ هل يمكن أن يساند أرباب النفوذ (المالي والقبلي وحتى النفوذ التاريخي داخل الأحزاب) مبادئ الديمقراطية والتغيير وأدواتها، مادياً ومعنوياً، بدون شروط وبدون محاصصة؟ هل الأداء العام لمتصدري العمل العام (من دكاترة ومثقفين ومشائخ) متسق مع مبادئ الديمقراطية والعدالة ودولة القانون بأي حال أم لا؟
إجابات علامات الاستفهام هذه وغيرها منسحبة على ما سبق وما سيأتي أيضاً هي التي ستحدد المسافة من كل مشتغل بالشأن العام وعلى رأس ذلك أبناء المشيخ.
أعتقد أن أي تحالف للتغيير والتحديث في اليمن ينبغي أن يكون تحالفاً مبدئياً، وفق مبادئ (مشروع خلاص وطني) يتمخض عن دراسة متأنية للحالة اليمنية ومدخلاتها ومخرجاتها، وليس تحالفاً عصبوياً ينشغل بالحشد الكموي (الكمي؟)، وأعتقد أيضاً أن على نخبتنا العامة عدم التساهل في إعادة الكرة لملعب (مجلس الشيخ وقوانينه) تحت غلبة الإمكانات، وإعادة الاعتبار للمبادئ والقيم السامية كقوة حقيقية لا تضاهيها قوى ..
والخلاف مع سلطة صالح مبدئي وليس عصبوياً، ولا يمكن أن يحسم بالحشد كيفما اتفق على أساس القاعدة البدائية (عدو عدوي صديقي) وإلا فإننا فقط سنسهم في تسريع حركة دائرة الانقلابات الشكلية التي بدأتها ما يسمى بال "ثورات العربية".