وفي الصباح الذي ذهبنا فيه الى سجن "الفتح" كانت بداية تفتح ادراكي لمعنى أن يصبح المرء جزءاً من حفلة الدم العدمية، وأن ينغمس من حيث يدري ولا يدري، في استنشاق الغبار الأصفر والبارود وبقايا الأشلاء الآدمية، ويغرق في مستنقع الدم والتراب، ويمضي في طريق مفخخ لزيارة الشطر الكهفي من ذاته في مغارة بجوف جبل تسمى: سجن الفتح. ترى كيف كنا نقيم جنة اشتراكيتنا فوق ذلك الجحيم الذميم؟ وأي عقلية زقاقية أنفاقية كانت وراء ذلك الاختراع الفظيع؟
وأي فتح يا ترى كان يقبع هنالك؟
ومن هو صاحب الامتياز في التأليف والمزاوجة بين السجن و "الفتح المبين"؟ عبقرية التوقد برجعة سحيقة تستلهم نرجسية الفتوحات الأولى وترتد بالذاكرة الغريقة إلى سماع رنين أجراس أمجاد الأسلاف وتناهيها ثم تلاشيها وانحباسها في كاتم صوت هذه المغارة: سجن الفتح.
هذه العبقرية كانت عبقرية بحق ومن غير أن تقصد بتوليفها لمفارقة غير مسبوقة تتصل بانشطار دلالات الأسماء: الفتح المبين في صيرورته الى سجن للفاتحين !!
كيف انطلت علينا كماركسويون هكذا تسمية تشير الى معنى اسلامي فصيح؟
ثمة أشياء كثيرة لم نتداركها بالاستئصال والاقتلاع حينذاك ولا أسف لأننا لم نكن من الأركيولوجيين حتى ننشغل ونشتغل في الحفر على أصل الاشياء والاسماء والكائنات و"الفتح".
* * * قبل أن يتحقق الإنجاز التاريخي للرفاق اليساريين المصريين بزيارة الرفيق فاروق علي احمد في سجن "الفتح" كان عليهم التحلي بالكثير من الصبر والتأني والتأتأة والحذر، ومكابدة مشاق المارثون الكبير، مع أنه لم يكن بشاق على أُناسٍ عصرتهم نضالات مديدة ومعاناة التعذيب في سجون مصر والملاحقات والتنكيل والويلات الوبيلة والمراس الطويل في أروقه السياسة والكتابة والحوارات المضنية.
وقد صبروا وصابروا وثابروا -فريدة وحسين خصوصاً -وأصروا على السؤال عن فاروق ورفاقه، وألحوا على طلب زيارتهم في السجن للتحقق مما إذا كانوا على قيد الحياة وضمن محاولة لفتح كوّة أمل تعيدهم الى الحياة من غير أن يفصحوا أو يصرحوا بذلك لذوي الرؤوس اليابسة من اصحابنا.
انعقدت الكثير من اللقاءات مع أبرز قيادات الحزب بما فيهم الأمين العام علي سالم البيض الذي كان ظريفاً بتجديفاته وتهريفاته عن "الشفافية الطبقية" وابتلعوا زجاج كلامه بوقار رفاقي وصبرٍ ايوبي... والتقوا ب "محسن" و "ياسين" و "جار الله" و "د. صايل " و ... وصولاً الى التشاور مع سعيد صالح وزير أمن الدولة لأقناعه بالموافقة " تكتيكياً " على إتمام تلك الزيارة للمعتقلين: فاروق.
من غير المستبعد ان يكون قد انعقد اجتماع للمكتب السياسي لمناقشة هذه "القضية" ولإنجاز تلكم الزيارة التي تمت في صباح اليوم الأخير -هنا تكمن الدراما اللئيمة -لزيارة الوفد اليساري المصري لعدن، لأن حجم استبطان الريبة و "المؤامرة" لدى رفاقنا في "القيادة الجماعية" ببعضهم وبغيرهم كان مذهلاً ومهولاً ويتجاوز كل حدود المعقول الى الدرجة التي أفضت بنا إلى الارتماء في أحضان قاتل ما في القبور وآكل فضلات الغربان والنسور النباش: عفاش القاتل الاحترافي سابقاً والقتيل لاحقاً باحترافية قرآنية وإلهية.
اللافت هنا أن اليمنيين، شمالاً وجنوباً توحدوا بقتل رؤسائهم السابقين وتشريدهم حد التطابق: مقتل ثلاثة رؤساء في الجنوب وثلاثة في الشمال.
* * * أزعم أني تجاوزت سن النبوة والزعامة ولست بحاجة الى تدليك او منافقة وممالقة ذوي الشأن والبأس والسلطان ، فقد بلغت سن الشتات بجدارة و " لا رئيس لي سوى رأسي "وليس ثمة ما يمنعني من القول بأن السياسة في اليمن كانت ولا زالت عبارة عن ممارسة فتوحاتية وغنائمية وإنتحارية شخصية وجماعية، تمخضت عن فشلٍ في بناء مجتمع متآصر ومتضامن لا يقصى فيه أحد ويكون فيه الأمل متاحاً للجميع، والقول بأن الساسة، بالأحرى جلهم، استثمروا كثيراً في الرياح إلى الدرجة التي أودت بنا إلى هباء "العاصفة" وتلكم هي محصلة الارتهان للجهلة والقتلة وزعماء النكد والغصة وشيوخ السياسة وديناصوراتها الذين لم يأبهوا لحاجتهم في استخدام "فياجرا" ومنشطات الذاكرة باتجاه الاعتبار بما صار وإسعاف ما تبقى من خريف أعمارهم، بعد أن أفرطوا في استخدام "الفياجرا" المثيرة للشبق السلطوي وشهوة التسلط والفجور، وعاشوا زمانهم نكداً ومحناً وجشعاً واستكلابًا واستذئاباً، وأجبروا الناس على طهي الحصى والإقامة في عراء التصحر الإنساني وتحت خط الفقر السياسي والثقافي والمعرفي وعلى خط الإرهاب والرهاب والذهان والهذيان، وفي خارطة ملتهبة بجغرافيا الأحقاد والضغائن والثأر.
وأقول من غير خجل ولا وجلٍ وعلى مقاسي وقياسي إنهُ بعد يناير أصبح الموت يلازمنا ويتنزه بيننا ويتنفسنا ويروضنا باتجاه استعذاب رائحة المأساة والخراب والكآبة والخواء.
* * * لقد توجس البعض وهجس بارتيابه من مستهل كتابتي " 13 يناير ... الفاروووق " وذهب هؤلاء -البعض -الى الظن بأني سأثير الأحقاد و "الفتنة" وكأنها نائمة "من صدق" وحق في بلاد بدت في ذهن هؤلاء المضطغنين المساكين خالية من الضغائن والأحقاد وعناصر الدمار والتدمير الذاتي والخارجي، مع أن الشواهد تقطع بأن هذه البلاد تمور وتغتلي وتتفجر بقنابل الأعماق كلها.
وفي السياق سأرد على "هؤلاء" بالقول إن المسألة شخصية جداً أولاً، وإنسانية وحقوقية وأخلاقية قيمية ثانياً، ثم أني أريد أن أتحرر من يناير وأثقالها بمعرفه بواعثها وأسبابها، وعبر استكشاف واستنطاق الدهاليز الغائرة في النفس البشرية وشركاء الإخفاق، والنأي بالنفس عن مسايرة قطعان الكراهية ومن يرفعون راية "التسامح والتصالح" من باب "التكتيك / الكمين" وبالانطلاق من منطقٍ ثأري عبر تعريف الذات بكراهية الجار في القرية المتاخمة.
لقد تعبنا من التعب، وافضت بنا خبرة الألم والندم والدم الى القرف من محترفي الأكاذيب وصانعي الخرافات ونافخي الفقاقيع، وحان الأوان -إن لم يكن تأخر -لأن نتلقف المشترك بيننا ونجعله يتدفق بضوء الألفة الإنسانية، فما احوجنا الى ذلك لأن انعدام السلام في بلادنا افضى بنا الى الفناء قتلاً وتيهاً وشتاتاً يتخطى بمسافات قصوى السردية الكبرى والمؤسطرة للشتات اليهودي.
وليس ثمة ما يعيب إن قلنا بأنا خسرنا المعركة قبل أن نبدأها، خسرنا معركة منوال التنمية وبالدرجة الأولى تنمية الإنسان فينا ومنا، واستدركنا متأخراً بأن "العدو ليس هو ذلك الذي يقع على الجانب الآخر من الحدود وإنما هو من لا عقل له" من مجانين "الثورجية" ومجانين الله الرحيم وجنرالات الموت وأمراء الطوائف وتجار السلاح والمخدرات والدين والمستثمرين في الرياح.
أكتب هذا وصورة فاروق ماثلة أمامي ومترجرجة في ذهني وهو منكب على الطاولة المعدنية الصدئة يكتب رسالته المنطوية على عدة رسائل لرفاقه في الحزب المنتصرين منهم والمنكسرين، ولرفاقه في الأحزاب الصديقة والشقيقة وحركات التحرر، ويقترح تجريم الاحتكام إلى السلاح وبناء عقد جديد وينوه الى مترتبات وعواقب ما صار والى احتمالات انهيار وتبدد "التجربة" والدولة والشعب.
* * * تمهّد السبيل الى 13 يناير 1986 بضغوط هائلة من موروث الانقسام المديد بين الأقوام والجماعات المحلية، القبائل والعشائر، الإمارات والسلطنات والمشيخات الكبيره والمايكروسكوبية، وقد عمل المستعمر البريطاني على تغذيه ذلك الموروث وتمويله وتفعيله انطلاقا من اقتناعه واعتقاده بأن دعم القبائل في تقاتلها البيني على الموارد والنفوذ يصب في خدمة استدامة احتلاله بأقل كلفة وبأكثر واقعيةً ونجاعة.
وبعد ذلك كان الكفاح المسلح وعقابيله وكل ما يعنيه إحراز النصر من فوهة البندقية والانحصار على الاكتفاء بالاحتفاء بأمجاد البندقية وحدها اولاً واخيراً كنشيد وطني وعلامة هوية.
في هذا المنعرج انطوى المعنى على تظهير عضلات الأكثر قوه وشراسة و"بداوة" وكانت المناطق الأكثر إدقاعاً هي "البؤر الثورية" الطليعية لحساب انحسار قوة العقل وانكماشه وكسوفه وكان ما كان من تقاتلٍ بين الجبهات -القومية والتحرير -والجهات.
وأسفر الاقتتال، في ما أسفر، عن ارتفاع صرخةٌ مدويّة راعبة في هاوية : " كل الشعب جبهة قومية " في ضربٍ من التدشين الرسمي والفعلي للحالة القيامية والإعلان الصارخ عن احتلالٍ للشعب من قبل الجبهة بعد غروب شمس الاحتلال الأجنبي عن الأرض، والتسويغ للحق في القتل واتخاذ القتل عقيدةٍ إيديولوجية، وتدمير وإبادة كل آخر، وإقصاء واغتيال كل مناسبة للحياة في خضم الصراع الضاري والعاري من أجل السلطة بما هي جيب يكتنز المغانم ومعطى نهائي للامتيازات والمصالح كانت القبائل المقاتلة هي الأسرع في الاستحواذ عليه من اوسع الأبواب وأفتكها: القتل.
* * * في 2 اكتوبر 1967 أعلن وزير الخارجية البريطاني جورج براون في مجلس العموم عن تقديم بلاده لموعد استقلال الجنوب اليمني الى نهاية شهر نوفمبر، ويومذاك اندلع القتال الأكثر ضراوة ووحشيه بين "مناضلي حرب التحرير" من ذلك القتال الذي كان قد اندلع في مطلع سبتمبر عقب إعلان بريطاني سابق عن انسحاب من عدن في عام 1968.
وبانتصار الجبهة القومية على جبهة التحرير شقت القومية لنفسها درباً في الجحيم.
ولأن منطق اقصاء غيرك ينسف شروط وجودك فقد ترتب على ذلك الانتصار انحشار الجبهة القومية في دوامة التآكل والتقاتل الداخلي ما يفيد بأن الحرب الأهلية في ستينيات القرن الماضي وفرت السابقة الأكثر اهميه في تاريخ الصراعات اليمنية الجنوبية.
* * * على هامش تلك الحرب بل وفي صلبها كان "الرمز" هو المستهدف الأول بأول طلقة أو تفجير أو اغتيال ومن هنا كانت الإطاحة بأول رئيس للجمهورية قحطان الشعبي وأول رئيس للحكومة فيصل الشعبي في 22 يونيو 1969، وقتل ثاني رئيس للجمهورية سالمين في 26 يونيو 1978 وقتل ثالث رئيس للجمهورية عبد الفتاح إسماعيل في "أحداث 13 يناير 1986" وفرار الرئيس الرابع علي ناصر من القتل الى درجة جاز معها لبعض المتابعين القول بأن معظم قادة "التجربة الثورية" تعرضوا الى أحد مصائر ثلاثة: القتل، الاعتقال، أو النفي.
في هذه الأثناء ووسط هذا الخضم العرمرم تزايدت الأوضاع سوءاً وفساداً وتعفناً على نحو آل بالبلاد كلها إلى خرابة منهوشة بديدان تحللها الى عناصرها الأولية وتحولها الى غابة ذئاب وخرفان برسم الافتراس.
* * * سأكتب عن محنة فاروق ومأساته وهي مأساة بلدٍ وجيل بكامله إن لم تكن مأساة أجيال سابقة ولاحقة، وسأكتب لأنتصر على ذاتي، وقد أصاب من قال إن الانتصار على الذات هو أول الانتصارات وأعظمها.
سأكتب لفاروق وعن "أحداث يناير" التي احرقت الحزب و"الإنجازات" والشعب والدولة، بصراعٍ على السلطة والنفوذ كان عارياً من كُل الأغطية ولا علاقة لهُ لا باليسار الانتهازي ولا باليمين الرجعي، فكلهم كانوا شركاء في القتل و"اشتراكيين جداً" في الإخفاق وفي فتح وتوسيع ابواب التنافس الدموي أمام الأجيال التالية على كل شيء وعلى اللاشيء.