هذه المرة كان الشاب عبدالله حاجي في العاصمة صنعاء يرافق عمته المريضة، ولهذا لم يطل انتظاري! فالعادة جرت أن يقوم حاجي بالسفر من مديرية عبس إلى صنعاء، لكي يقوم بنقلي على متن سيارته إلى معاقل المستعبدين في حجةوالحديدة، وكانت رحلته تلك تتطلب منه القيادة ذهاباً وإياباً لمدة اثنتي عشرة ساعة. انطلقنا في تمام الخامسة من عصر الخميس الفاتح من يوليو الجاري. وفي منتصف الطريق، كنت أتمتم مع الفنان أبو بكر سالم في رائعته "غدر الليل والرحلة طويلة، والحمولة على راسي ثقيلة، والسفر طال ما باليد حيلة، من فراق المحب والبال حيران". حينها تلقيت اتصالاً أثار في كياني الرعب، من هول الهلع والخوف الذي اعترى صديقي قناف بن سيارة: "أم مرافقين حقت الشيخ أحمد سهيل يطاردوني بثنتين سيارات، يشتوا يربطوني وأنا هربت منهم لا تحت أم كبري حق وادي مور". تلك هي المحاولة الثامنة لإسكات قناف الذي تلقى اتصالات لا حصر لها على مدى يونيو الماضي، تحمل تهديدات ومضايقات من قوى النفوذ في مديرتي كعيدنة، حجة، والزهرة، الحديدة، لكنه ظل صامداً كعادته رغم ما يعتريه من الخوف. عند العاشرة ليلاً وصلت إلى قناف المختبئ أسفل الجسر: "أنا وعدتك أبوك (أذهب) معاك صنعاء، وكنت خايف يربطوني واخلف أم وعد حقي.. ولو غصب عني ما أخلفه، أنا أديتك كلمة". نذهب خلسة لإحضار يحيى أحمد، ويعتذر الأخير وقناف عن اصطحاب نسائهما مخافة أن يقوم ملاك الأراضي بتوطين غيرهم من العبيد الفارين من جبروت أسيادهم، فقد جرت العادة أن يتم تسكين أشخاص جدد في تلك العشش بدلاً عن كل من امتد غيابه لأكثر من يومين، فالملاك لا يطيقون الانتظار. بحذر نغادر "المعرص"، ونمضي نحو إحدى تلك الكثبان الرملية فنغط في نوم عميق، توقظنا منه حرارة الشمس والرمال الملتهبة! نتجه نحو مديرية أسلم، محافظة حجة التي يقطن فيها مئات العبيد والجواري، لكن ظروفاً خاصة حالت دون تمكن الوسيط من استقبالنا وتمكيننا من الالتقاء بالمستعبدين هناك. تلك الظروف أوردها الشاب يوسف حافظ في رسالة SMS قررنا الاتجاه نحو العاصمة صنعاء. مراراً شكوت ل قناف عن شدة حرارة الجو عندهم، ومراراً شكا قناف عن قساوة البرد في صنعاء حاولت إقناع قناف ورفيقه بالتجول في شوارع صنعاء ليلاً لكن إغراءاتي لم تثر حماسهما قط، فما حدث في الليلة الأولى كان كفيلاً بالحيلولة دون تحقيق رغبتي المفرطة. في تلك الليلة دعوت قناف لتناول طعام العشاء في المطعم، كانت المسافة بين بوابتي فندق ومطعم إيجل لا تتعدى الثلاثة أمتار، ولكن نوبة البرد التي أصابته أجبرته على عدم المغامرة مجدداً. فكان يقضي ساعات المساء في غرفته التي لا يغادرها إلا في النهار ولساعات محدودة لا تتجاوز الخمس الساعات. ****** من الوهلة الأولى لولوجهما إلى فندق إيجل اصطدم يحيى بالبوابة الزجاجية للفندق، وعند صعودنا على المصعد الكهربائي طوق قناف بيديه على جسدي خوفاً، واستعصى على كليهما استعمال دورة المياه التي أثارت الدهشة في كيانهما المندهش دوماً من الحياة العصرية. كانت تعتري يحيى رغبة جامحة في مضغ وريقات القات وهو مستلق على السرير الذي دفع قناف للتحسر على ليلة عرسه التي قضاها في الهرولة فراراً من سيده ومولاه حمدي جبران الرافض حينها لزواجهما: "اشا تعزمني أنا وأم عجزة (زوجتي)، حقى أسبوع عندكن.. يضحك".. لم يكن قناف ورفيقه يدركان أن ذاك البذخ الذي عاشه في الفندق لا يساوي شيئاً أمام الترف المفرط لساكني حدة التي يقطنها بعض أثرياء البلد المسلوب. بالكاد تمكن قناف من إتقان تغيير القنوات الفضائية ورفع وخفض صوت التلفاز، في حين استعصى على يحيى فعل ذلك، إلا أنه سرعان ما حفظ اسم الفندق ورقم الغرفة وهو ما فشل فيه الأول. على العكس من غرفتي أنا وعبدالله حاجي، كانت غرفتهما دوماً مرتبة ونظيفة، ورغم أن ذلك من مسؤولية موظفي خدمات النظافة إلا أن الرجلين كانا يقومان بذلك بإتقان بديع. ****** انبهر قناف من صنعاء القديمة، وظلت عيناه تحدقان نحو التفاصيل الدقيقة لجامع الصالح، وانتابت يحيى حسرة بالغة من قصور المسؤولين في حدة وعشته غرفة طينية دائرية سقفها القصب، ويقطنها شريطة رعي أغنام المالك وفلاحة أرضه. نمضي من الأنفاق ونعتلي الجسور ونتجول في شوارع العاصمة وعيناهما تحدقان من النافذة. نرتجل تارة ونركب تارة أخرى، ويصغيان بصمت حذر لاحتقانات المارة المتعالية أصواتهم لأسباب تافهة لا تستدعي كل ذلك الغضب حسب رؤيتهما. نمر من جوار مبنى وزارة الداخلية، فيرتسم على وجهيهما علامات التعجب والاستغراب، فهما عاجزين عن الحصول على البطائق الشخصية والعائلية وجواز السفر، وكليهما يفتقران لحماية أجهزة الأمن. نلج إلى مبنى النيابة العامة، وينتهي بهما الحال عند باب مكتب النائب العام. كانا شغوفين بملاقات الدكتور عبدالله العلفي، وكان قناف الأكثر طلباً لمقابلة العلفي، لكن اكتفى مدير مكتبه بإدخال محاميهما الأستاذ محمد ناجي علاو. كان قناف يعض على أصابعه، فصك تحريره لدى من يجلس خلف هذا الباب الخشبي. فتلك الورقة التي لطالما حلم باستعادتها أضحت بالقرب منه، لكنه عاجز عن أخذها بعد أن أوصدت أمامه الأبواب! لا شيء يهم الآن. فعلاو انتزع من العلفي قرارات بالغة الأهمية، ونتائجها ستخلص، إن نفذت، إلى تحرير العبيد والجواري ومحاكمة الأسياد. **** عقب نشر "المصدر" للجزء الثاني من ملف العبودية في اليمن، تفاعلت وزارة حقوق الإنسان ونقلت وسائل الإعلام المحلية والعربية تصريحات لقيادات في الوزارة مفادها تشكيل لجان لتقصي الحقائق عن قضية العبيد والجواري. شخصياً غمرتني السعادة من ذلك التحرك المسؤول للوزارة المختصة، وكنت على مدى النصف الأخير من يونيو الماضي متحمساً لمقابلة الوزيرة الدكتورة هدى ألبان. وحينما وطئت قدم قناف العاصمة صنعاء، بلغت تلك الحماسة ذروتها فاستعنت بعدة موظفين بالوزرة للقيام بتنسيق لقاء يجمعنا بمعالي الدكتورة. ظهيرة الأحد، 4 يوليو الجاري، تلقيت اتصالاً من الوزارة طلب مني نقل قناف ويحيى إلى إدارة البلاغات والشكاوى بالوزارة لتسجيل بلاغ. في اليوم التالي اتجهنا إلى مبنى الوزارة، وكان برفقتنا فريق إعلامي من قناة MBC، بهدف توثيق تلك الخطوة. للتو وصلنا إلى ذلك المبنى الذي أزيلت منه تلك اللافتة التي تحمل اسم الوزارة، والتي كان يتسنى للمارين من شارع الستين مشاهدتها. نلج من بوابتها الحديدية ويستقبلنا موظفو الاستقبال، ويُمنع قناف ويحيى من الدخول لمقابلة قيادات الوزارة وتسجيل البلاغ، حسب طلبهم، ويسمح لي ولفريق قناة MBC بالدخول. رفضت ذلك وخاطبت مسؤولي الاستقبال: "جئنا حسب طلبكم ولن أدخل إلا برفقة قناف ويحيى". يرفضون ذلك ويطلبون منا الخروج، نغادر وفي النفس أشياء من الأسى والحسرة من وزارة "عقوق الغلبان". نتجه نحو دار القاضي هادي حسن أبو عساج الذي قام قبل عامين بتعميد عتق وتحرير قناف بن سيارة من عبوديته الممتدة لربع قرن. كان لقاء حاراً بين الرجلين، اللذين امتد بهما الحديث نحو التفاصيل الدقيقة لما آل إليه حالهما من بعد 20 فبراير 2009م. قناف قام بتقبيل رأس القاضي أبو عساج مراراً كتعبير عن امتنانه لصنيعه: "اشا تسامحني يا قاضي"، حينها ضمه القاضي إلى صدره وقال: "لا عليك أنا طبقت فيك حكم الله وشرعه، ونسأل من الله أن يتقبل منا ذلك، وأن يحرر بقية أشقائك وغيرهم من الضعفاء المستعبدين".