(1) ارتبط حدوث التحولات الديمقراطية في مناطق عديدة في العالم – بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة- بتنامي آمال الشعوب في التخلص من الفساد والفقر.. لكن الذي حدث أن العديد من المجتمعات، التي شهدت تحولات ديمقراطية، واجهت انتكاسات وإحباطات بسبب استمرار الفساد، وعدم حدوث تنمية ونهضة اقتصادية ملموسة الآثار.
يهمنا هنا ما كانت الآمال الشعبية تعلق عليه الآمال وهو التخلص من الفساد باعتبار بلادنا اليمن إحدى هذه المجتمعات التي عرفت تحولات ديمقراطية – بصرف النظر عن التزامها بالمعايير- لكن الفساد ظل مهيمنا بممارساته إن لم يكن قد ازداد حدة.. رغم ضخامة البرامج والأدبيات والأبحاث والندوات والمؤتمرات واللجان والهيئات الشعبية والرسمية التي عملت وتعمل لمكافحة الفساد!
وقد لا يكون غريبا أن يكون هناك فساد في مجتمع ديمقراطي لكن الأغرب أن يستدل البعض –أو يحاول الإيحاء به- بذلك على عدم أهمية دور الانتخابات في وجود الحكم الصالح-؛ طالما أن ممارسة الانتخابات الدورية في العديد من البلدان لم تؤد إلى القضاء على الفساد بل إن بعضها تعد من أكثر الدول ممارسة للفساد!
(2) الخطأ الأول في رأينا – الذي وقع فيه أصحاب هذا الرأي أنهم تجاهلوا التفريق بين ديمقراطية زائفة وديمقراطية صحيحة.. بين ديمقراطية ليس فيها من اسمها إلا هامش من الحريات الكلامية والسماح بتأسيس مقنن للأحزاب.. وبين ديمقراطية صحيحة تمكن الناخب من تغيير السلطة في الانتخابات النزيهة!
في حالة الديمقراطية الزائفة لن يكون مستغربا أن يستمر الفساد ويتغول ويحكم.. بل ويتصدر الدعوة إلى القضاء على الفساد والفاسدين! ولذلك لا يحدث شيء يذكر، ولا تؤدي الانتخابات الدورية إلى تحقيق الحكم الصالح في إدارة الدولة.. بسبب بسيط – تجاهل أصحاب الرأي المشار إليه- وهو أن أسلوب إدارة الانتخابات هو بعينه نوع من الفساد الشامل: السياسي بتزوير إرادة الشعب، والاقتصادي باستخدام إمكانيات الدولة لمصلحة الحزب الحاكم، والدستوري والقانوني بمخالفة الدستور والقوانين جهارا ودون خوف من أي محاسبة!
أما في حاله الديمقراطية الصحيحة فإن الفساد وإن كان يظل موجودا، مع اختلاف النسبة باختلاف درجة التطور التاريخي للممارسة السياسية، إلا أنه يفتقد القدرة على تعطيل آليات مكافحته فهناك توازن حقيقي بين السلطات يمنع تغول السلطة التنفيذية، ومجتمع مدني يقظ ونشيط قادر على منع التلاعب بالدستور والممارسة السياسية وعصي على محاولات تزييف الوعي والحقائق.. وهناك أيضاً: إعلام حر متنوع قادر على فضح الفساد وملاحقة مرتكبيه حتى.. ساحة القضاء.
هذه إذاً هي ميزة الممارسة السياسية السليمة، والديمقراطية الصحيحة.. أنها – أولا- تتيح فرصا حقيقية لمواجهة الفساد، وخاصة في قمة السلطة، وليس مجرد مواجهة إعلامية تتوالى قضاياها دون أن تطرف عين فاسد!
وأما ثانيا، فإن لا أحد مخلد في السلطة ومراكز النفوذ.. وحتى لو احتمى متنفذ فاسد بمنصبه ونفوذه فلا يوجد شيء يحميه من المساءلة بعد أن يفقد نفوذه ويترك السلطة عاجلا أم آجلا.. (وآجلا) هذه تعني بالكثير عشر سنوات (في أنظمة معينة يجوز محاكمة كبار المسؤولين حتى أثناء وجودهم في قمة المسؤولية).
(3) قد لا تنجح – أحياناً- ملاحقة الفاسدين في مجتمع ديمقراطي صحيح لأسباب منها عدم توفر الأدلة الكافية وقدرة الفاسدين على تفادي القانون.. لكن اقتراب سيف العدالة من رقاب كبار المسؤولين المتهمين بالفساد، وملاحقة أجهزة الرقابة لهم وجرجرتهم إلى ساحة القضاء تعمل – غالباً- على فرملة فسادهم وتجعلهم يحسبون للمتربصين بهم ألف حساب!
وفي أغرب حادثة من نوعها وقعت قبل شهور قليلة، طالب المحامي (عابد زبيري) ممثل المكتب الوطني لمكافحة الفساد –السلطات السويسرية بإعادة فتح ملفات قضايا فساد ضد الرئيس الباكستاني الحالي (آصف علي زرداري) – أرمل بنازير بوتو- لكن سويسرا رفضت الطلب الباكستاني، وكانت محكمة ابتدائية سويسرية قد أدانت سابقا آصف زرداري وزوجته بنازير –قبل مقتلها- بتهم فساد لكن الاستئناف السويسري ألغى الحكم الابتدائي!
الشاهد هنا، أن سيف مكافحة الفساد – عندما تكون هناك جدية- لم يتردد من ملاحقة رئيس الدولة نفسه.. وفي محكمة خارجية! وبالتأكيد لم يكن أحد في باكستان يستطيع أن يصنع مثل ذلك في عهود العسكر السابقين.
(4) الإرث البغيض للعهود الشمولية يشكل أحد أسباب عدم قدرة بعض المجتمعات الديمقراطية الجديدة على تأسيس حكم صالح يذل فيها الفساد.. ففي العهود الشمولية تخسر الشعوب الكثير من فعالية المبادرات الفردية والجماعية!
وتقضي الشمولية على مؤسسات المجتمع المدني مثل النقابات والأحزاب قضاء تاما إما من ناحية وجودية أو بتفريغها من مضامينها وجعلها واجهات كرتونية يتكدس فيها المنافقون والدجالون والباحثون عن لقمة عيش ذليلة.. فيحتاج المجتمع المنتقل إلى مرحلة ديمقراطية جديدة زمنا حتى يستعيد عافيته وحتى تثمر حركة إيقاظ المجتمع المدني من جديد..
لكن المعاناة من الاختلالات تفرز واقعا سيئا وممارسات فساد شامل كما حدث في بلدان عديدة تبنت النهج الديمقراطي.. فعلى سبيل المثال، عانت الملاوي حكما ديكتاتوريا لمدة 30 عاما تحت قيادة الديكتاتور (هيستيغز باندا)، وعندما عرفت الديمقراطية التعددية طريقها إلى (الملاوي) عام 1994 عانت البلاد مشاكل عديدة، منها أزمة غذاء لأن المسؤولين الفاسدين نهبوا احتياطات البلاد من الحبوب وباعوها لتجار دوليين، وأوحى ذلك للبعض بأن الديمقراطية هي السبب وخاصة أن البلاد لم تكد تعرف أزمة غذاء في عهد الديكتاتورية.
ومثل ذلك حدث في وطننا اليمني بعد الوحدة، وبلدان عربية عديدة، وحدث في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة (روسيا وتوابعها التي انفصلت عنها) التي ما تزال مجتمعاتها غارقة في البيرقراطية والفساد وشكلية الممارسة الديمقراطية.. ومن أجل ذلك كان لابد من هذه الكلمات لكيلا تسأم نفوسنا من أضرار الفساد في ظل ديمقراطية.. نعلم أنها ناقصة، ومشوهة، ولابد من إصلاحها كخطوة ضرورية لهزيمة الفساد بالضربة القاضية.. الفنية!