تزامن ميلاد " الفاروق" مطلع خمسينيات القرن الماضي 15 ديسمبر 1952 بمدينة المعلا – عدن مع ميلاد متجدد لمدينته " المعلا" و عدن بصفة عامة، ففي ذلكم العقد تشيدت أعمدة و معالم عدن الجديدة، و أنفتح فضاء السياسة و مجالها، و ارتباطاً باشتداد القبضة الاستعمارية تَكَشَّفَ الاستعمار البريطاني "البغيض" عن وجهه الإعماري و قد كان من شأن تحوُّل عدن إلى قاعدة عسكرية من الدرجة الأولى و مقر لمركز قيادة الشرق الأوسط و ركيزة أساسية للدفاع البريطاني في هذه المنطقة أن يجد ترجمته بخطوات واسعة في مجال التشييد و الإعمار و التشغيل. و في عام 1952م بدأت مصفاة عدن للنفط تنشأ بسرعة كبيرة في عدن الصغرى( البريقة) و بحلول 1954م كانت تصب النفط في البواخر، و في محيط المصفاة كما في الضفة المقابلة ( المعلا) تشيدت مئات المساكن للعمال و الموظفين، و فيما كان " الفاروق" يتهجى أولى الخطى كان وجه المدينة يتغير تماماً بل و وجه الحي الذي ولد فيه حيث تم ردم مساحة من البحر إلى حيث تقطن أسرته و تم شق الشارع الأكبر و الأطول في ( المعلا).عدن Main Road بطول 2 كيلو متر و بُنِيَت على جانبيه أكثر من " 100" عمارة على الطراز الأوروبي مكونة من عدة أدوار ( لا تقل عن ثلاثة و لا تزيد عن سبعة أدوار) و قد أُنْجِزَت بشكل هندسي منتظم التراص و شبيه بأبنية العواصم و المدن الأوروبية و أتسم تصميمها بدقة و تناسق خلابين، و نُفِّذَت بإشراف مهندسين بريطانيين و يومها كانت خاصة بالضباط و الجنود البريطانيين. لقد نمت ( المعلا) بسرعة مدهشة و توارت عششها و أكواخها إلى خلفية غير مرئية و في أواخر الخمسينات كانت تنافس( كريتر) في الحجم و تتفوق عليها حداثةً و عمراناً. و اعتباراً : "من عام 1950م فكر سكان عدن بالسياسة و اتجهوا للنظر إلى مصائر الأماكن الأبعد بدلا من النظر الى أماكن عملهم" ( راجع كتاب " عدن تحت الحكم البريطاني ر.ر.جافن " ترجمة محمد محسن محمد العمري) _ و جاء ذلك على خلفية التنامي و الانتشار الواسع للتعليم الحديث و الخدمات الصحية و المستشفيات و الكهرباء، و التوسع الكبير لعمل المصفاة جنبا إلى جنب مع الإيقاع المتسارع لنشاط الميناء الذي أصبح الأكثر نشاطاً في العالم بعد ميناء نيويورك. و كما كان ميلاد السياسة في عدن بالمعنى الواسع و الحداثي للكلمة في الخمسينيات فقد أكتنف هذا العقد ميلاد النقابات و الأحزاب السياسية، الصحافة، الراديو، الاتصالات و الأندية الأهلية و الاجتماعية الخيرية و الثقافية، الموسيقى، الأغنية و الفن التشكيلي و المكتبات و المسرح و السينما ...... الخ. و في ذلك الزمن و هناك كان ربيع عدن. و ازدهرت عدن و ازدهت بكامل أبهتها و هيلمانها و عنفوانها، و تجلت كواحدة من أهم بوابات العالم المفتوحة على استقبال رياحه و تياراته و تطوراته، و تجسمت كمصب لروافد التاريخ، و مركز جاذبية و تعايش و تثاقف و تلاقح و حوار الأعراق و الأجناس و الحضارات، و ساحة انفتاح و تنوع و تعدد و تسامح، واحة لامتزاج الأسطوري بالغرائبي، و مرتع للأساطير و الحكايات و بوتقة لصهر الأفراد و الجماعات و طبعهم بطابعها بما هي و " ذاكرة محرزة بالنسيان" و موطن لتعدين (سكن) من يلوذ بها و بما هي منفى و ملجأ و رحيل بلا عودة، و بحر و صخر تذيب ما عليها، و خلجان و وديان، و معابد و كنائس، و مرسى و مرفأ و مقهى للإسترواح و الأسمار و الحكايات و المغامرات و الأخبار و الأحداث و ورشة لصناعة الفرح و للتمرين على التمدن، و عنوان للثقافة و فضاء للسحر و التشكيل و المجاز، و عاصمة للضوء _ راجع كتاب أوراق فلكلوريات عدن، من إصدارات بيت الموروث الشعبي سبتمبر2007. وسط هذه المناخات و في خضمها و لد "الفاروق" و لعبت السنوات التشكيلية و التكوينية في حياته و أقرانه من أبناء الجيل المستحيل، دوراً حاسماً في تحديد مسار توجهاتهم و إطلاق صبواتهم و تطلعاتهم و أشواقهم، و اعتناقهم لقيم الحداثة و المدنية و التغيير، و توقهم الحارق لإقامة الفردوس الخلاصي _ الإشتراكية_ على الأرض. لقد تلازما و تزامنا و ترعرعا و كبرا معاً، فاروق و المدينة في سنوات الزلزلة و الجلجلة و الوعود و المواعيد الكبرى، و بعد جلاء المستعمر في 30 نوفمبر 1967م كانت المدينة لازالت تختزن في جوفها أنفاس المدنية التي راحت تنكمش و تتقلص و تتلاشى بالتدريج تبعاً لموجات الترييف و البدونة التي تعاقبت على اكتساح المدينة حتى أفضت إلى انحسار تلك الأنفاس و اختناقها إلى أن كان يوم الانفجار الكبير في 13 يناير 1986م الذي شكل علامة الساعة القيامية الشاهدة على احتضار المدينة و التمدن و تنكيس رايات ما تبقى من عقل، و انتصار لل"بدوليتاريا" الرثة التي لعبت دور البطولة المسلحة في مسلسل انتقالنا من مهوى "المنظمة القاعدية" إلى هاوية " تنظيم القاعدة" و ما انجر و ينجر عنه حتى اليوم. لقد ولد في ديسمبر 1952م و في ديسمبر 1987م أصدر رئيس المحكمة الناطق بإسم" الطغمة" المليشاوية المنتصرة في الحزب الاشتراكي الحكم بإعدام فاروق علي أحمد المثقف و أبن المدينة الذي كان هو المتهم الأول بما يستبطن حقيقة أن المدينة هي المتهم الأم، و حكم على فاروق بالإعدام لمجرد الاختلاف في وجهة النظر و الرأي السياسي و ليس لأنه قاد عصابة مسلحة، أو كان على رأس جماعة من الصقور. كان المثقف و المدينة هما المتهم الأول، و المستهدف الأول، و ما بعد ذلك كان الفراغ المهوووول و ما نشهده اليوم من خواء و عواء و عربدة للأشباح و المسوخ و فلتان لطوفان العنف و الخراب، و تجريف لعلامات و معالم و ذاكرات المدينة. لقد رحل فاروق عن دنيانا و هو في مقتبل العطاء، أكبر من المسيح بعامين و بضعة أيام و رحل معه المئات من أبناء الجيل المستحيل و انصرمت أزيد من 23 سنة على رحيلهم الفاجع دون أن تخضع كارثة 13 يناير لمختبر الفحص، و مبضع التشريح السريري و إن في مجرى تأكيد استحقاق جبر الضرر و السعي الجاد لرد الاعتبار للضحايا و تعويضهم و أهاليهم مادياً و رمزياً و معنوياً، و الاعتبار بما صار حتى لا يتكرر و الأنكى أن هناك الكثير من التعامي و الجحود و الإنكار و النكران إلى الحد الذي أسهم في استمرار مفاعيل الكارثة و تجديد دوراتها و تكرارها بتمظهرات و تمثلات و عناوين أكثر بدائية و همجية من تلك التي كانت مزَوَّقة ببهرجات و مساحيق الأيديولوجيا. لا عتب، بالتأكيد على الزواحف الينايرية، و لكن اللوم على من يعتقد بإمكانية تعلُّم مهارات القفز العالي في متحف الزواحف و الديناصورات.. إن "كارثة يناير" جديرة بالقراءة الحيوية، الشابة، النقدية المتجددة، و المتحررة من أثقال و كوابيس و اضطغانات الماضي الذي يبدو أنه لا يمضي أبداً. ثمة وجه آخر للكارثة و بالأحرى لما بعد الكارثة و هو وجه الوجه،المغفل، المنسي، المسكوت عنه، المعطل و المؤجل بغير ما أجل أو إشعار آخر و هو المدينةعدن و سؤالها: ترى من يرد عدن إليها؟ من يرد إليها بحرها، نورسها، لقالقها، روحها و ظلالها، صهاريجها، حدائقها و ملاعبها، و " معبد الشمس" و " معبد الفرس" و " اليهود" و " معبد الهنود" و " النار" الكنيسة الإنجليكانية و " كنيسة القديس جوزيف " ، "بيت رامبو" ، "قاعة المهاتما غاندي" ، "معبد الألوان" ، و" مسجد البهرة" ؟! ، من يرد المدينة الى المدينة ؟!.. بالتأكيد، لا يمكن التعويل على الزواحف و الديناصورات الينايرية و لا على المنحدرين من صلب يناير و حَمَلَة ذات الجينات و الفيروسات من ذئاب السطو و السلطة و جياع التاريخ و قوارض ألواح طين الأبجدية. و لا يمكن التعويل على المضروبين بمس الحنين_ النستالوجيا- الى دولة " الخلافة " الإشتراكية أو " دولة الخلافة الراشدة" أو دولة " إتحاد إمارات الجنوب العربي" أو دولة " الوحلة اليمنية".! لن تستعاد عدن المستحيلة، المتخيلة، بأية حذافير سابقة، و هي ليست في انتظار أصحاب السوابق. الأرجح أن عدن في انتظار تخليق الجيل المستحيل من أحشائها لإنجاز مهمة إعادة اكتشافها و اختراعها و ذلك ليس بغريب على عدن. * من صفحة الكاتب على الفيس بوك