ليالٍ ماطرة أعادت إحساس المشاركة والتواصل العائلي لكثيرٍ ممن فقدوا هذه المعاني نتيجة تسارع إيقاع الحياة، فاجتمعت العائلة كبارها وصغارها في مكان واحد يتجاذبون أطراف الحديث، ويطلبون الدفء والسكينة.. الجميع هنا تحت سلطة الماء حيث لا حدود لدهشة هذا التواصل بين السماء والأرض، لا التزامات، لا مشاوير، لا مواعيد يمكن أن تعكر روعة اللقاء في هذه المساءات المائية التي تغمرنا برومانسية باذخة، فتغسلنا من دنس الإرهاق اليومي، وضوضاء المدينة، وتسقي جدب أيامنا العجاف وقحط شعورنا المحنط. لكنه ليس كذلك بالنسبة لمسنٍ يتخذ من أحد أرصفة شارع هائل مأوى حاله كحال آلاف المشردين من فاقدي الذاكرة، ومجهولي الهوية، والمجانين بمن لفظتهم الحياة وابتلعتهم الأقدار، فوجدوا في الشارع ملاذاً أخيراً يسلمونه أجسادهم المفرغة من كل شيء إلا من الحزن.. هل لنا أن نفكر ولو –قليلاً- في حالهم حينما يجتاح الماء كل شيء، ويأخذ في طريقه الحجر والحديد، القديم والجديد، الأخضر واليأبس، كأنهم لم تكن تنقصهم سوى قسوة المطر لتكتمل مأساتهم.
يا للمفارقة! إنه المطر من يورث الأرض الحياة، هو نفسه من يمنح هؤلاء المهمشين تذاكر نهائية للبقاء المشروط بألم المعاناة أو الموت غرقاً. وحدة مريعة، وسفر طويل مع البؤس، زادُهم فيه قطعة كرتون مبللة وبقايا غطاء مهترئ أتى عله المطر.
كل الأبواب أوصدت في وجوههم، حتى بيوت الله لم تتسع قداسة وعظم رسالتها لإيواء إنسانية هؤلاء في مثل هذه الاستثناءات، لمبررات خلقها من نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين، فاستماتوا حرصاً على نظافة وطهارة المكان، وتناسوا أن الرحماء يرحمهم الراحمون، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الإسلام دين يضع الإنسان فوق كل الاعتبارات. أي تنطع هذا الذي يقوقعون فيه شمولية وإنسانية الرسالة الإسلامية في أضيق حدود الفهم، وأدنى قيمة للضمير البشري!.
اغتراب من نوع آخر يعيش في ظله هؤلاء المنسيون، حيث لا أهل لا أصدقاء لا خيرين، ولا حتى جهات مختصة تمد لهم يداً بيضاء، تخرجهم من الزمن الضيق، والمكان الملعون بالوجع، فتأخذ بأيديهم وتوفر لهم داراً تؤوي شتاتهم، وتحفظ لهم آدميتهم المسفوكة بين استجداء المارة، وصناديق النفايات حتى يقتاتون فضلات واقع مر، ويناجون الفراغ بحثاً عن أفق جنازة تأخذهم إلى العالم الآخر، علهم يجدون هناك ذاكراتهم التي كانت أكبر من أن يحتويها زماننا، أو تدركها غيبوية "الأنا" التي نطوف حولها صبح مساء. المصدر أونلاين