في الوقت الذي يجتمع فيه ممثلو العديد من حكومات العالم في لندن للمشاركة في المؤتمر الدولي حول الصومال، يجدر بنا التذكير بأنه في سياق التعامل مع الصراعات الأهلية والبلدان الفاشلة، دائماً ما تكون الوقاية خير من العلاج، بمعنى أنه لو مؤتمرات كهذه كانت قد عقدت في ثمانينيات القرن الماضي، لكان من الممكن دعم التسويات السياسية والتقدم الاقتصادي اللازم لتجنّب أكثر من عقدين من الفقر والمجاعات والفوضى والحروب. والاستنتاج الصحيح الذي يجب استخلاصه هنا هو أنه - فضلاً عن التعامل مع صومال اليوم -يتعين على المجتمع الدولي التفكير ملياً في كيفية منع تكرار حالة الصومال في الغد. ولسنا بحاجة للنظر بعيداً لكي نجد المرشح الأبرز لهذا النوع من حالات الأمن الوقائي؛ فعلى الجانب الآخر من خليج عدن من الصومال تقع اليمن، البلد الذي يواجه تحديات كبيرة تتمثل في الانقسام السياسي واضطراب الأمن وتدني مستوى التنمية، حيث لا يزال الوضع هشاً بعد أكثر من عام على تنحي الرئيس علي عبد الله صالح عن منصبه في أعقاب انطلاق الاحتجاجات في طول البلاد وعرضها. وبالرغم من انطلاق الحوار الوطني في مارس 2013 ويستمر لمدة ستة أشهر، حيث يضم 565 عضوا من جميع أنحاء البلاد بغية تسوية الخلافات والاتفاق على وضع دستور جديد، إلا أن أطرافاً أساسية من المعارضة قاطعت العملية كما انطلقت احتجاجات تطالب بالاستقلال في الجنوب، مما جعل عملية الانتقال الناجح إلى نظام سياسي أكثر استقراراً في حاجة إلى جهود إضافية . إن رحى هذه الأزمة تدور في بلد يواجه في الأصل مشاكل هيكلية كبيرة وطويلة الأجل، حيث ثمة حاجة ملحّة للشروع في مسار جديد للتنمية؛ فالفقر منتشر في البلاد مع بلوغ نسبة البطالة نحو 40 %،وثمة نسبة مماثلة أيضاً من اليمنيين الذين لا يستطيعون الحصول على المياه ، وهي مشكلة من المتوقع أن تتفاقم مع بدء جفاف طبقات المياه الجوفية الموجودة حالياً. وبحلول نهاية العقد الحالي، قد تصبح صنعاء أول عاصمة في العالم تعاني من نفاد إمدادات المياه. كما تستورد البلاد ما يقارب 90 % من إمداداتها الغذائية، ما يجعلها عرضة للتقلبات في أسعار السلع العالمية. ولن تلبث هذه المشكلات طويلاً حتى تتفاقم خلال السنوات القليلة المقبلة بسبب عاملين هامين؛ أولهما، أن إنتاج النفط، الذي يؤمّن 75 % من الإيرادات الحكومية و90 % من عائدات التصدير، آخذٌ في الانخفاض، وليس من الواضح إن كانت عمليات إنتاج النفط والغاز الجديدة ستكون كافية لتحل محل الحقول الناضبة، لذلك، فمن دون موارد جديدة قد لا تتمكن البلاد من تغطية تكاليف واردات المواد الغذائية الأساسية. وثانيهما، تشهد اليمن نمواً متسارعاً من حيث عدد السكان، حيث يبلغ معدل النمو السكاني نحو 3 % سنوياً، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد السكان ليصل إلى أكثر من خمسين مليون نسمة بحلول منتصف القرن، مع العلم أن أكثر من خمسي اليمنيين الآن تحت سن الخامسة عشرة. ومع استمرار استنزاف الموارد وتزايد الاحتياجات، تبدو الحاجة إلى إحداث تغيير جوهري ملحّة أكثر من أي وقت مضى. وفي حالة عدم تمكن المجتمع الدولي من مساعدة اليمن في مواجهة هذه التحديات على نحو فعال ضمن إطار شامل يغطي كافة مناطق ومشكلات البلاد، فإن مخاطر الصراع والتفتت ستظل تتفاقم خاصة مع بروز جماعات ومناطق عدة تسعى إلى إيجاد حلولها الخاصة وفرض رؤيتها الأحادية، فالحكومة اليمنية تواجه تحديات متعددة لسلطتها تتمثل في المطالب الانفصالية في الجنوب والتمرد القبلي في الشمال وعمليات العنف التي يقوم بها تنظيم القاعدة، وهو ما يتسبب بلا شك في تزايد إضعاف سلطات الحكومة، الأمر الذي يمكن أن يمهد لتخلخل كامل للنظام وأن يؤثر بشكل عميق على أمن المنطقة بأسرها، حيث إنه من المعروف أن اليمن يحتل موقعاً استراتيجياً مهماً عند مدخل البحر الأحمر ، ويطل على أحد المضايق البحرية الكبيرة المهددة بالفعل بسبب القرصنة الصومالية. لذلك فإن عواقب فشل الدولة قد تمتد عبر الحدود، لتخلق مشاكل إضافية من الجريمة والهجرة والإرهاب لبلدان شرق أفريقيا ومنطقة الخليج وما بعدها. وبناء على ما سبق، تعد المشاركة الدولية المستمرة أمراً بالغ الأهمية؛ فقد حققت مبادرة أصدقاء اليمن التي أطلقت بدعم من المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، الكثير حتى الآن على صعيد حشد الدعم المالي والاهتمام الدبلوماسي. لكن مبلغ الثمانية مليارات دولار الذي تعهدت به الجهات المانحة هو أقل من نصف الرقم الذي تقول الحكومة اليمنية إنها تحتاجه لمنع تدهور الوضع الاقتصادي،علماً أن اليمن لم يحصل حتى الآن سوى على خمس هذا المبلغ فقط. وفي الوقت نفسه، لم يحقق النداء الإنساني في الأممالمتحدة لجمع مبلغ 716 مليون دولار من أجل اليمن سوى 2 % فقط من أهدافه، ما يضيف المزيد من الأعباء على العجز الكبير في مستويات الموارد اللازمة لتلبية الاحتياجات الفورية للبلاد، ناهيك عن بناء مسار جديد ومستدام للتنمية الوطنية على المدى الطويل. إن الأولوية التي يوليها القادة الغربيون لمكافحة الإرهاب والإصلاحات السياسية في سياق تأطير سياساتها تجاه اليمن هي أمرٌ مفهوم، ولكن ترسيخ الأمن والحكم الرشيد سيكون مستحيلاً دون وضع استراتيجية ثابتة لتحقيق الازدهار وتوفير الفرص لجميع اليمنيين. فقد تراجع تصنيف البلاد إلى المرتبة 160 على مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة بعد الزيادة الخطيرة في معدلات الأميّة وتراجع نسبة الالتحاق بالمدارس وتدهور أوضاع الرعاية الصحية. ولكي تتجنب البلاد نشوء أزمة كبيرة بسبب تناقص الموارد وتزايد عدد السكان، فإنها بحاجة إلى إيجاد السبل اللازمة لتسخير طاقات شبابها وتحويل التحدي السكاني إلى فرصٍ للنمو. ولا يمكن لذلك أن يتحقق دون استثمارات اجتماعية ضخمة على مدى ومني طويل. وباختصار، فإن البلاد بحاجة إلى الموارد والصبر الذي لن يتحقق إلا بمساعدة خارجية. إن مشكلات اليمن كبيرة وصعبة وهي أكبر من أن يتجاهلها العالم، إلى جانب أنه لا يمكن حلها عبر استراتيجيات بحل الأزمات، وإنما تتطلب التزاماً مستمراً على المدى البعيد. ولا شك أن الأولويات الدبلوماسية تتشكل وفقاً للأزمات الأكثر خطورة وإلحاحاً. لكن مؤتمر الصومال يذكرنا بما يحدث عندما تتحول ذهنية التفكير قصير الأجل إلى عائق أمام وضع السياسات اللازمة لمنع فشل الدول. وعلينا ألا نسمح بأن يكون هذا هو مصير اليمن. *نائب رئيس مجلس إدارة البنك الوطني العُماني