ما زالت التحقيقات في بدايتها لتحديد الجهات المسؤولة عن الأعمال الإرهابية في باريس أوائل هذا الشهر، ولكن ثمة مؤشرات كثيرة إلى علاقة مرتكبيها بالتنظيمات الإرهابية المعروفة، خاصة تنظيم القاعدة في اليمن. وإذا ثبت ذلك فإنه يظهر بوضوح عولمة الإرهاب مما يتطلب تبعا لذلك عولمة الجهود المبذولة لمحاربته، وهو ما لم يتم حتى الآن. فقد ظهر أن الأجهزة الأمنية الأميركية كانت على علم بالعلاقات المشبوهة بين بعض مرتكبي تلك الأعمال وتنظيم القاعدة في اليمن، وأن بعضهم كان ممنوعا من دخول الولاياتالمتحدة أو ركوب طائراتها. ومن الظاهر أن السلطات الفرنسية لم تكن على علم كامل بذلك، أو لم يكن لديها التقدير الكامل لأهمية تلك العلاقات. وتظهر أحداث باريس كذلك خطورة الوضع في اليمن، لأن الإرهاب هناك في ازدياد منذ أن بدأ الحوثيون توسعهم في أرجاء اليمن، ثم بعد انقلابهم على السلطة الشرعية هذا الأسبوع. وهم بذلك يتيحون الفرصة إلى القاعدة للتحالف مع القبائل لمقاومة الحوثيين، مثلما حدث لداعش في العراق من قبل. وكان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ألبسه الله ثياب العافية، قد أوضح أهمية البعد الدولي في توجيهاته للسفراء المعتمدين لدى المملكة في أغسطس الماضي، حين أكد على أهمية العمل الجماعي لمواجهة الإرهاب في المنطقة، لأنه سينتقل بسهولة إلى أوروبا وأميركا إذا لم تتضافر الجهود الدولية لمحاربته. وهذا ما حدث في باريس. وتظهر حالة "أنور العولقي" العلاقات المتشابكة بين الإرهابيين في أنحاء العالم، حيث يعتقد أن للأخوين سعيد وشريف كواشي اللذين هاجما مجلة (شارلي إيبدو) صلات مباشرة بالعولقي. والعولقي كما نعرف كان مواطنا أميركيا من أصول يمنية تنقل بين الولاياتالمتحدة وبريطانيا واليمن إلى أن أصبح من أكثر القيادات الإرهابية جذبا للإرهابيين الأجانب بسبب ثقافته الغربية وإتقانه للغة الإنجليزية وأسلوب التخاطب مع الغربيين، خاصة المهاجرين وأبناءهم الذين يمرون بتجارب تشبه تجربته في المهجر الأميركي. ولد العولقي في عام 1971 في ولاية "نيومكسيكو" الأميركية، وسافر إلى اليمن مع أسرته عام 1978، ثم عاد إلى الولاياتالمتحدة عام 1990 لدراسة الهندسة في ولاية "كولورادو"، ولكنه بعد فترة التحق بصفوف المتطرفين في أميركا، ويعتقد أنه كان على علاقة ببعض منفذي هجوم 11 سبتمبر 2001، وإن لم تتمكن السلطات الأميركية من إثبات تورطه الفعلي في الهجوم. غادر العولقي أميركا عام 2002 إلى لندن، حيث وثق علاقاته بالجماعات المتطرفة. وفي عام 2004 غادر لندن إلى اليمن والتحق بتنظيم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية"، وتبنى فكرة العمل المسلح ضد الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول التي اعتبرها معادية للإسلام. أوكلت للعولقي مهمة العلاقات الخارجية للتنظيم، فأقام صلات واسعة مع تجمعات المهاجرين في الغرب مستغلا مشاعرهم بالغربة هناك، واستقطب كثيرين منهم، كما استقطب شبابا غربيين دخلوا في الإسلام حديثا، وانضم إليه أوروبيون وأميركيون من داخل وخارج مجتمعات المهاجرين والجاليات الإسلامية. وأنتج العولقي مقالات ومقاطع فيديو بالإنجليزية كانت تتداول ولا تزال على نطاق واسع بين الشباب في الغرب، وتسهم في تجنيدهم للتنظيمات الإرهابية. من أبرز الأحداث التي أظهرت تأثير العولقي المذبحة التي ارتكبها الضابط والطبيب النفسي الأميركي "نضال حسن"، الذي قتل "13" شخصا في قاعدة "فورت هود" في ولاية تكساس. ولفتت الحادثة أنظار السلطات الأمنية واستطاعت تتبع دعواته ورسائله على الإنترنت، بل وجدت على أجهزة الكمبيوتر لكل إرهابي تقريبا تم القبض عليه في الغرب، فقد اجتذب موقعه على الإنترنت وصفحته على "فيسبوك" الكثير من الغربيين، الذين وفدوا إلى اليمن لمقابلته. وكان أحدهم شريف كواشي، على ما تعتقد السلطات الأميركية التي كانت تتعقب حركات العولقي إلى أن تمكنت من قتله في غارة جوية شنتها في اليمن في عام 2011. وكما يروي بعض أتباعه الغربيين، كانت شخصية العولقي جاذبة كالمغناطيس لهم، لأنه مر بتجارب في أميركا تشبه تجاربهم، وبهرهم بمعلوماته الدينية المزعومة. ومن أولئك الشباب "سعيد كواشي" الذي زاره في اليمن، أما أخوه الأصغر "شريف كواشي" فقد قال إن العولقي قدم له العون المالي والفكري، ولكن صلاته باليمن غير معروفة لدى الأجهزة الأمنية على ما يبدو قبل هجوم باريس. ومثل العولقي، ولد الأخوان سعيد وشريف كواشي في فرنسا وعاشا التجربة الفرنسية بأكملها، ولكنهما أصبحا غير قادرين على التعامل معها، فقدم لهما العولقي وأتباعه قوالب فكرية جاهزة حرضتهم على ارتكاب العنف لتحقيق ما يرونه من أهداف. وتظهر أحداث باريس خطورة ما يحدث في اليمن على الأمن الإقليمي والدولي، خاصة بعد الانقلاب الحوثي هذا الأسبوع. ذلك أن الإرهاب في اليمن في تصاعد، حيث استعاد نفوذه مؤخرا بعد انحسار موقت. ففي عام 2012، وبعد تخلي الرئيس السابق علي صالح عن السلطة، جعلت الحكومة اليمنية الانتقالية محاربة الإرهاب أولوية لها. وتمكنت بدعم حلفائها من ضرب تنظيم القاعدة وطرده من بعض المناطق اليمنية. ولكن تلك المكاسب مهددة الآن، بعد تمدد الحوثيين واحتلال مناطق واسعة في اليمن تجاوزت منطقتهم التقليدية في صعدة، وأصبحوا يحتلون أو يهددون مناطق ذات غالبية سنية، مما فتح المجال لتنظيم القاعدة للتدخل بدعوى الدفاع عن تلك المناطق. ومثلما حدث لتنظيم داعش في العراق وسورية، تمكنت القاعدة من العودة إلى بعض المناطق بدعوى حمايتها من التمدد الحوثي. يظل الاهتمام الدولي بمحاربة الإرهاب في اليمن - بشقيه القاعدة والحوثيين - محدودا مقارنة بمحاربة تنظيم "داعش"، ولكن أحداث باريس تظهر ضرورة التعامل مع تحدي الإرهاب في اليمن بسياسة أكثر شمولية، لمنع تحول اليمن إلى عراق آخر يمكن للتنظيمات الإرهابية تبني مظالم المجموعات المهمشة أو المهددة وتجند أبناءها لخدمة أهدافها. ويتطلب ذلك خططا فعالة لا تقتصر على الضربات الجوية ونحو ذلك من الحلول الجزئية.