باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابن تيمية ومشروعية نظام علي وحروبه
نشر في المشهد اليمني يوم 19 - 09 - 2022


مقالات
د. مروان الغفوري
تفاعلاً مع كتبته حول عليّ بن أبي طالب نشر عبد المجيد الغيلي زهاء 23 مقالة. لم يتوقف لحظة واحدة عن اتهامي بالكذب والتدليس، بالتلاعب بالاقتباسات، وإهانة العلم. في مقالاته: افتريتُ على البخاري، ابن تيمية، ابن كثير، مسلم، ابن أحمد، وآخرين. قال في مقالته الأولى أنه سيتصدى للردّ عليّ "دفاعاً عن دينه، وإرضاء لخالقه". وفي مقالته الأخيرة صارح قرّاءه بخطورة ما كتبه مروان الغفوري على ثلاثة مستويات: لأنه تطبيع لوعي المسلمين تجاه قدح الصحابة، ولأنه نقل للدين من خانة الرسالة الإلهية إلى خانة الفعل الثقافي، ولأنه يحوّل التاريخ إلى رواية ساخرة.
رأينا عبد المجيد ينقل كثيراً، وينفعل كثيراً جداً، ولم نجد دليلاً على أنه كان أيضاً يفكّر. أرهق نفسه في صراع لغوي، على مستوى الكلمة ومعناها، مع كتبته، وكان أحياناً تأخذه السذاجة في طريقها بلا رجعة. إذ يؤكد أن ابن تيمية ما كان له أن يردّ حديثاً صحيحاً وإلا وضع نفسه في مواجهة مع دين الله. وهنا يتهمني بالإفتراء على الرجل، ثم يؤكد هو نفسه أن ابن تيمية رفض حديث "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، الصحيح في تقدير الغيلي. الأمر الذي دعا الألباني إلى الاستغراب [في المقالات الأولى لم يكن الغيلي يعرف هذه المعلومة، وعندما دللته عليها ووجدها في مصادرها لعب معها ألعاب الحواة في محاولاته المستميتة لإنشاء جسور مستدامة كي يعبر عليها علي من كل ورطة نضعه فيها].
الإرهاق اللغوي بلغ بالغيلي حدوداً بعيدة. فهو يقول إن عليّاً لم يذهب إلى البصرة ليقاتل عائشة وإنما ليدافعها. وحين أرد على هذا الهراء بما يفنيه فإن الرجل يقيم الدنيا بمقالة جديدة يقول فيها إني قولته ما لم يقل، إذ استخدمتُ في مقالتي كلمة "ليخرجهم من البصرة" بينما قال هو "ليدافعهم". وكأن المدافعة فعل عسكري يختلف عن إخراجهم. على أن المثير في ما يطرحه الغيلي هو إصراره على القول إن مدافعة جيش الخصوم لا تعني شن الحرب عليه، وإنما أشياء أخرى لم يخبرنا عنها.
خفّض الغيلي النقاش إلى هذا المستوى البائس، حتى إني بعد أن قرأت أغلب ما كتبه وجدتني أتساءل: كيف يمكنني أن أساهم في نقاش على مستوى الكلمة ومعناها. وهكذا، بالنسبة للغيلي، فإن علماء الأمة المعتبرين، بمن فيهم ابن تيمية، يرون أن عليّاً خليفة انتخبه المسلمون طواعية، وبأغلبية مريحة. وأن خير خلق الله هم من وقفوا إلى جواره، وزهاء ألف ممن شهدوا بيعة الرضوان .. الغيلي لم يجتهد، بل أجهد نفسه. نقل الكثير من النصوص، وأحال إلى عدد كبير من الكتب ولكنه لم يكن يفكّر. كان يدلّس وهو يطرح مثل هذه التعميمات، غير أنه – والحق يقال- لم يكن يعلم أنه يدلّس، ذلك أنه لم يفكر. لو فكر لأدرك المشاكل العلمية التي تورط فيها، ولعلم أيضاً أنه كان يكذب.
مع أن حديثي انصرف إلى ما هو تاريخي وسياسي في حياة علي، في المقام الأول، إلى عجز واضح في قدرات علي كمحارب، كسياسي، كحاكم، وكقائد. نقلتُ الحديثَ إلى التاريخ، ورأينا عليّا في مراحل عديدة وهو عاجز كلّيا عن اتخاذ القرار الصحيح أو تمريره. وشاهدناه يسارع إلى الحرب كما لو أنه كان أكيداً أنه سيحسمها قبل غروب الشمس. ما من حرب خاطفة في تاريخه، حتى موجاهته للخوارج في حروراء وانتصاره عليهم فإن المعركة تلك انتهت بمقتله بعد ثلاثة أعوام على يد رجل من المهزومين [وكان أحد رجاله فيما مضى]. لم ينه حرباً حتى الأخير، فهو لم يكن يملك لا القدرة ولا الخيال ولا الإجماع [المشروعية السياسية]، حتى أشهر المحاربين الفاتحين لم يقفوا إلى جواره وإلا لتغيّر وجه حروبه.
رأينا أصحابه يفرضون عليه أبا موسى الأشعري ليكون ممثلاً عنه في التحكيم، وأبو موسى ذاك لم يكن في جيشه وكان يختلف معه سياسيّاً في أغلب ما ذهب إليه. وهي سابقة مثيرة أن يمثّل الحاكم في مفاوضات "عسكرية" رجل ليس من جيشه ولا حتى من شعبه [اعتزله أبو موسى قبل ذلك]. وكان طبيعياً أن يقترح أبو موسى منذ أول لقاء جمعه بأهل الشام إقالة عليّ، ولولا تشدد أهل الشام لأدى مقترح أبي موسى إلى الإطاحة بعلي من الحكم. كان علي ضعيفاً، بلا قرار، وإلا ما كان له أن ينيب عنه رجلاً ليس من جيشه، سوى استجابة لضغط جنرالات جيشه، ممن دفعتهم الحرب إلى الشك في قدرات القائد.
الغيلي يهرب من كل هذه المسائل الحاسمة وذات الصلة ويريد منّا أن نغرق معه في هوامش التاريخ البشري.
الآن، لنذهب إلى ابن تيمية ولنستمع إلى ما يقوله حول اختيار عليّ للخلافة. سأنقل النص كما هو، دون تدخّل مني، ودون تعليق.. فقد رأيت في أغلب المقالات والتسجيلات التي حاولت الدفاع عن علي استنادها إلى هذه الجملة: الغفوري افترى على ابن تيمية، واقتبس منه بما يخالف ما أراده شيخ الإسلام. ذهب أولئك إلى استدعاء نصوص عامة ورجراجة من المدائح التي كان ابن تيمية يذكرها في فتاواه [لنتذكر موقف ابن حنبل، وهو موقف ابن تيمية فيما بعد: التسامح فيما يتعلق بالفروع، والتشديد في مسائل الأحكام والأصول].
يقول ابن تيمية في "منهاج السنّة النبوية"، الجزء الأول، صفحة 534-535:
[مِنَ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ سِيرَةَ الْقَوْمِ أَنَّ اتِّفَاقَ الْخَلْقِ وَمُبَايَعَتَهُمْ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، أَعْظَمُ مِنِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى بَيْعَةِ عُثْمَانَ أَعْظَمَ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ. وَالَّذِينَ بَايَعُوا عُثْمَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِينَ بَايَعُوا عَلِيًّا، فَإِنَّهُ بَايَعَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَمْثَالُهُمْ، مَعَ سَكِينَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَأَمَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ بُويِعَ عَقِيبَ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَالْقُلُوبُ مُضْطَرِبَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مُتَفَرِّقُونَ، وَأُحْضِرَ طَلْحَةُ إِحْضَارًا حَتَّى قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ جَاءُوا بِهِ مُكْرَهًا، وَأَنَّهُ قَالَ، بَايَعْتُ وَاللُّجُّ - أَيِ السَّيْفُ - عَلَى قَفَيَّ. وَكَانَ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ بِالْمَدِينَةِ شَوْكَةٌ لَمَّا قَتَلُوا عُثْمَانَ، وَمَاجَ النَّاسُ لِقَتْلِهِ مَوْجًا عَظِيمًا. وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُبَايِعْ عَلِيًّا، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَمْثَالِهِ، وَكَانَ النَّاسُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ قَاتَلُوا مَعَهُ، وَصِنْفٌ قَاتَلُوهُ، وَصِنْفٌ لَمْ يُقَاتِلُوهُ وَلَمْ يُقَاتِلُوا مَعَهُ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي عَلِيٍّ: بِمُبَايَعَةِ الْخَلْقِ لَهُ، وَلَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مُبَايَعَةِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ؟ بَلْ بَايَعَهُمُ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَا سِيَّمَا عُثْمَانُ]
يحدد ابن تيمية هنا ملامح يوم التتويج:
- مشروعية عثمان السياسية أكثر صلابة من مشروعية علي.
- جزء من المسلمين اختار عليّاً، وجزء قاتله، وجزء ثالث تخلى عنه [التزم الحياد]. أي أننا نتحدث، تقريباً، عن شرعية سياسية مبنية على ثلث مجتمع الناخبين، وفي لحظة استثنائية.
- الذين اختاروا عليّاً كانوا أقل شأناً [بالمعنى الديني، الأخلاقي] ممن انتخبوا أسلافه.
- اختيار علي للخلافة حدث في ظروف استثنائية غير صحّية، بعد أن فرض "أهل الفتنة" سيطرتهم على المدينة [كانت لهم بالمدينة شوكة، بتعبير ابن تيمية].
- أهل الفتنة، قتلة عثمان،اختاروا جميعهم عليّاً للخلافة.
- قبل اختيار عثمان بن عفّان أعطي أهل المدينة ثلاثة أيام لتدبر أمرهم واختياراتهم في سكينة وهدوء، بينما أجبر كبار الصحابة [بقوة سلاح المتمردين] على اختيار عليّ خليفة. هنا يقول ابن تيمية: وَأُحْضِرَ طَلْحَةُ إِحْضَارًا حَتَّى قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ جَاءُوا بِهِ مُكْرَهًا. ونحن نسأل "من الذي أحضره؟ من كان قادراً على أن يضع السيف على عنق صحابي بمقام طلحة؟". الإجابة التي يهرب منها المؤرخون هي: أهل الفتنة. تكتمل الصورة: فرضوا إرادتهم على المدينة وأخذوا البيعة في لحظة يقول عنها ابن تيمية: ماج فيها الناس موجاً عظيماً. اعتمد عليّ على تلك اللحظة الاستثنائية في الحديث عن مشروعيته السياسية، الأمر الذي كانت له تداعيات مأساوية. وكان أهل الفتنة هم المجمع الانتخابي الرئيس.
إذا عدنا إلى كتاب السياسة الشرعية لابن تيمية لنلقي نظرة فسنجد أن الأيام الثلاثة التي أعطيت لأهل المدينة لاختيار الخليفة بعد مقتل عُمر، كانت تخييراً لهم بين عليّ وعثمان. حين ذاك اختاروا، بلا تردد، عثمان خليفة، وخسر عليّ أول عملية اقتراع نزيهة في التاريخ العربي.
مضى الغيلي يحاول، بائسا، منح حروب علي المشروعية الكاملة. تارة من أجل تثبيت أركان الدولة، وأخرى لأنه خليفة بايعه عامة الناس، وأحياناً لما له من الحكمة والرؤية والفقه وعليه فقد خاض حروباً يعرف مشروعيتها ومشروعها. لا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل يحاول الغيلي القول إنه لا يقدم رأياً وإنما علماً، وكل من يرى غير ذلك فهو يحوّل التاريخ إلى رواية ساخرة.
أساء الغيلي لكل ما هو علم، قبل أن يسيء إلى العقل نفسه. فهو يصرّ، في كل مرّة، على اعتبار النقاش دفاعاً عن "الرسالة الإلهية". وفي سبيل تأكيد أن ما يقوم به هو رسالي وديني فإنه لم يتورع لحظة واحدة عن الكذب. كان يكذب كباحث، يحاول تمرير مغالطة تقول إن عليّاً حاكم شرعي اتفق عليه أغلبية المجتمع، وأن حروبه استندت في الأساس إلى تلك الواقعية. حين يتعلق بالأمر بمناقب علي [تلك الصفات المجانية التي ينسبها هو الرسول] يجد الغيلي ضالته في فتاوى ابن تيمية. غير أنه لا يشير إلى كيف عالج ابن تيمية موضوعة "علي" السياسية. لا يكاد يشير إلى منهاج السنة، العصب الفكري الرئيسي لابن تيمية..
سنذهب نحن إلى ذلك الكتاب وسنقرأ فيه من الجزء الأول صفحة 536- 543، حول أين وقف المجتمع المسلم، والفئة المثقفة آنذاك، من حروب علي ومشروعية حكمه. يقول ابن تيمية:
[وَلِهَذَا اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ عَلَى أَقْوَالٍ:
- فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ إِمَامٌ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ إِمَامٌ، وَإِنَّهُ يَجُوزُ نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي وَقْتٍ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الِاجْتِمَاعُ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ.
- وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِمَامٌ عَامٌّ، بَلْ كَانَ زَمَانَ فِتْنَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْبَصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا لَمَّا أَظْهَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ التَّرْبِيعَ بِعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ وَقَالَ: مَنْ لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ، أَنْكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَالُوا: قَدْ أَنْكَرَ خِلَافَتَهُ مَنْ لَا يُقَالُ: هُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ، يُرِيدُونَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ.
- وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: بَلْ عَلِيٌّ هُوَ الْإِمَامُ، وَهُوَ مُصِيبٌ فِي قِتَالِهِ لِمَنْ قَاتَلَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَاتَلَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ كُلُّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ. وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مُعَاوِيَةَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا فِي قِتَالِهِ، كَمَا أَنَّ عَلِيًّا مُصِيبٌ.
- طَائِفَةٌ رَابِعَةٌ تَجْعَلُ عَلِيًّا هُوَ الْإِمَامَ، وَكَانَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا فِي الْقِتَالِ، وَمَنْ قَاتَلَهُ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مُخْطِئِينَ.
- وَطَائِفَةٌ خَامِسَةٌ تَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا مَعَ كَوْنِهِ كَانَ خَلِيفَةً وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ تَرْكُ الْقِتَالِ أَوْلَى، وَيَنْبَغِي الْإِمْسَاكُ عَنِ الْقِتَالِ لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي قَالُوا: وَقِتَالُ الْبُغَاةِ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ كُلِّ بَاغٍ، بَلْ قَالَ تَعَالَى وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. قَالُوا: وَلِهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بِالْقِتَالِ مَصْلَحَةٌ، وَالْأَمْرُ الَّذِي يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهِ. وقد أَخْبَر النبيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ لَا تَضُرُّهُ الْفِتْنَةُ، وَهُوَ مِمَّنِ اعْتَزَلَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُقَاتِلْ لَا مَعَ عَلِيٍّوَلَا مَعَ مُعَاوِيَةَ، كَمَا اعْتَزَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو بَكْرَةَ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَكْثَرُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ قِتَالٌ وَاجِبٌ وَلَا مُسْتَحَبٌّ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ ذَلِكَ مِمَّا يُمْدَحُ بِهِ الرَّجُلُ، بَلْ كَانَ مَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ أَوِ الْمُسْتَحَبَّ أَفْضَلَ مِمَّنْ تَرَكَهُ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ قِتَالُ فِتْنَةٍ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَالسَّاعِي خَيْرٌ مِنَ الْمُوضِعِ».، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ كَانَ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ]..
يؤكد ابن تيمية في هذا الاقتباس ما يلي:
- انقسام الناس حيال حروب عليّ إلى خمس فرق، فرقة واحدة فقط كانت تراه محقّاً في قتاله. حتى تلك الفرقة، من أهل الكلام، تفهّمت موقف معاوية ومنطلقاته السياسية واصفة إياها بالاجتهاد الذي قاد إلى استنتاج خاطئ.
- الحروب التي خاضها علي لم تقنع كل الناس، إذ قاطعها الأخيار من الصحابة، منههم من تنبأ له بالنبي برجاحة العقل لأنه سيعتزل الفتن يوماً ما [حديث محمد بن سلمة].
- أن الأصل في الحكم اتخاذ طريق السلم لا الحرب، وأن مغامرة علي العسكرية أدت إلى مشكلة عظيمة [بتعبير ابن تيمية: لم يحصل من القتال مصلحة].
مرّة أخرى: كان علي حاكماً بتفويض فئة من المسلمين، وخاض حروبه بتفويض من تلك الفئة. وهي كما نتبين من الخارطة التي رسمها ابن تيمية ليست بالأغلبية، ولا حتى بالأفضل [راجع ما نقلناه أعلاه]. رأينا سابقاً كيف أن عليّا كان يسارع إلى الحرب، دون التدبّر في فرص السلام والصلح. أما الأسباب التي كانت تدفعه إلى خوض حروبه الفاشلة فهي، كما أسلفنا: قلة خبرته، صورة ذاتية مشوهة [يعتقد بأفضليته، ويحاول إجبار الناس على مشاركته ذلك الاعتقاد]، واعتماده على متمرّدين وتجّار حروب. هذه الخلطة السامة تفضي، كما يخبرنا التاريخ، إلى انهيار المملكات، وذلك ما جرى لأول مملكة هاشمية في الكوفة. إذ بعد مقتله استسلم خليفته [وهو ابنه، وتلك ليست مصادفة]، وترك العراق قافلاً إلى المدينة.
على أن ما يتعلق بعلي هو شأن في التاريخ، بصرف النظر عن تقديرات ابن تيمية وسواه من الفقهاء. غير أني جئتُ بنصوص ابن تيمية هُنا لأوقف محاولة اغتيال ما كتبته من خلال التشكيك في أمانتي العلمية، والقول بأني أنسب إلى ابن تيمية وغيره ما لم يقله.
في الأسابيع القادمة سأواصل الحديث حول الموضوع من جوانب عديدة.
1. 2. 3. 4. 5.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.