يزيد من معدلات السرعة التي تتحرّك بها قاطرةُ البلد بمحاذاة الحافّة المُشرفة على هاوية سحيقة, في طريق ينتهي إلى هاوية.. ما لم تحدث مُعجزة, وتنشأ بطريقة ما.. لا نعرفها نحن الآن, معطيات مختلفة يُمكنها أن تُعطي نتيجةً مختلفةً! تصل قاطرة الحوار الوطني في اليمن، بعد رحلة دامت أكثر من ستة أشهر، إلى مفترق طرق من شأنه أن يضع اليمن واليمنيين في مواجهة حاسمة مع المستقبل, المرادف لمعنى المجهول, حتى الآن على الأقل. تجميع متفرق نتاج وحصاد لجان الحوار، الأطول على الإطلاق، هو العمل الأكثر أهمية وخطورة.. وعلى ضوئه يتحدَّد مصير العملية الحوارية ونتيجتها النهائية لجهة المخرجات التي لا تزال طيَّ الانحباس وثيق الصلة بما ستسفر عنه مفاوضات وتمترُسات اللحظات الأخيرة بين الأفرقاء التوافقيين والشركاء المُتفارِقين. في الحافة.. انسكب وانصهر حصاد مداولات الأشهر الستة وأزيد في غُرف وصالات وكواليس "منتجع" الحوار في "موفمبيك صنعاء"، ذي الخمسة نجوم، إلى قالب واحد لم يتقولب بعد وبشأنه يُعتمل سِجال الساعة الأخيرة المؤجَّلة أزيد من شهر عن موعدها المحدَّد. في جانب من مشهد يعتورَه المعنى النقيض لأريحية الحوار وأفضلية الوفاق تكثّفت النَزعات والنِزاعات في بؤرة معطيات ثلاث تتوزَّع جوهر الخلافات المديدة وتتنازع مرئيات المتحاورين المتحفّزين حيال شكل ومضمون الوصفة العلاجية الأفضل والأنجع للتعامل مع: القضية الجنوبية, شكل الدولة ونظام الحكم, والعدالة الانتقالية. في الحافة، تماماً، اختار طرف وآخر أن يُناور بإلقاء قنابل صوتية.. لكن هناك من ألقى قنابل حقيقية مؤقتة وجاهزة للتَّفجير في أية لحظة. باتت التسوية والعملية السياسية برمَّتها موثوقة إلى فتيلٍ يتمايل بين لهب ولهب والمصير مُعلَّق على الحافة.. الهاوية. وجها لوجه مع الجدار الأسوأ، على الإطلاق، هو أن الرئيس التوافقي والوسيط الدولي انزاحا بكَثرة عن منطقة الوسط وبات الاثنان جزءاً من مشكلة تبحث عن حل ضمن مشاكل لم يُتفق بشأن حلولها، وتلك هي الخلاصة الماثِلة على ساق. ارتأيا.. وربما أضمرا، من وقت مبكِّر خياراً كهذا, الاثنان: هادي وبن عمر, في آخر المطاف انتزاع تفويض جماعي من مكونات الحوار في فرق ثلاث يلزمها ضرورة التوقيع والموافقة على ما سيصوغه بن عمر, باطلاع من هادي يساوي المعيَّة في احتكار صلاحية تحديد شكل الدولة ونظام الحُكم ووصفة تطبيب الجنوبية لكليهما حصراً وقصراً ومن حق مكونات الحوار, فقط، أن توقِّع على المقترحات النهائية غير القابلة للنقاش... أو أن توقِّع عليها أيضاً (..) ولا خيار آخر سوى ما درجا عليه اثنانهما من تلويح بالعقوبات وعصا الخارج! عند هذا الجدار.. يقف الحوار ويُبحلق اليمنيون في مستقبل بلادهم الذي يستوطن الجدار. من المؤكَّد أن مكوِّن المؤتمر الشعبي وحلفائه لن يوقِّع على التفويض ابتداءً, فضلاً عن التوقيع على ما يستتبعه التفويض ويجيئ من المفوض. يقف المؤتمر على أرضية متماسكة إلى حد يسمح بالقول إن مسألة التفويض ليست من معنياته القابلة للبذل. لن يفوّض, خصوصاً بإزاء ملف القضية الجنوبية المحفوف بشكوك عميقة حيال نوايا تبيّت نقل الملعب خارج سقف الوحدة. وفي المقابل يعاني المؤتمر، دون غيره من المكونات, من نزيف حاد مردُّه ازدواجية حادة مضطّر إلى التعاطي معها بشكل يومي مكلف واستنزافي حيال الرئيس التوافقي من جهة ونائب رئيس المؤتمر- الأمين العام من جهة ثانية وفي اللحظة عينها. زد أن هادي يتموضع كخصم وحسم خياره وقراره النهائي بالضِّد من رئاسة صالح للمؤتمر وبالضِّد من الرئاسة الجماعية في قيادة المؤتمر (اللجنة العامة). اصطدم قليلاً وسوف يصطدم كثيراً - في هذه الدقائق الحاسمة - المؤتمر وهادي أو لنقل خيارات هادي مع خيارات المؤتمر. وواضح بأن هادي ذاهبٌ دون رجعةٍ إلى مفاصلة نهائية وتسوية حساب مِفصليَّة مع الحزب ورئيسه, من خلال تبني هادي، بصورة علنية هذه المرّة وبدرجة قصوى من الوضوح والحدَّة، لخيارات وشروط خصوم صالح التقليديين وعلى رأسهم (الإخوان) متبوعين بالناصري والاشتراكي, إلى شرعنة الإقصاء والإجهاز والإعدام السياسي بحق صالح وعلى مقاسه حصراً. هذا ما يعنيه هادي بتبنيه لمادة العزل في اجتماعه الأخير برئاسية الحوار بعد أن تعذَّر بكل الطرق والوسائل تمرير العزل كقانون من ضمن مخرجات فرق الحكم الرشيد وتالياً العدالة الانتقالية. فصل أخير في معركة بلا آخر يتموضع عبدربه منصور في جبهة تُناجِز علي عبدالله صالح ومناصريه ولا تدعُ لهم من خيار آخر سوى التحفّز للمواجهة السياسية وخوض غمار معترك يتحدّد على ضوئه أكثر من مصير في وقت واحد. الحصانة كانت الورقة الأولى التي ناور بها هادي من خلف الستارة ومن وراء الإصلاحيين الذين تظاهروا مؤخراً وصلوا في الستين لإسقاط الحصانة ضداً من منطلقات المبادرة والتسوية السياسية ككل. والحصانة كانت هي الورقة الأخيرة التي أشهرها هادي في وجه المؤتمريين وصالح، في مفترق طرق عند بوابة المغادرة من فصول الحوار إلى قاعة الامتحان. تطابق هادي والإخوان، إلى حد التماهي، في تفعيل خيار الابتزاز الفجّ والترهيب المليشياوي باستخدام ورقة الحصانة ومن ثَمَّ مشنقة العزل. في وقت يتمتَّع هادي, الرجل الثاني في النظام السابق, إلى جانب محسن، الرجل الثاني أيضاً بمعنى آخر في النظام السابق؛ بامتيازات ومكاسب شمول الحصانة إياهم وإسقاطها يقتضي بالضرورة انكشافها عن ظهراني الجميع وعودة الأمور إلى ما كانت عليه، دائماً، قبل توقيع "الخليجية". هذا القدر من التلقائية والبداهة يقول إن هادي عُرضة للملاحقة القضائية؛ كونه محكوماً بالإعدام أكثر من مرة في أكثر من قضية وملف بالعودة إلى منطوق أحكام القضاء اليمني في عدن بعد يناير 86م، وبينما كان هادي قد نجا بنفسه وبمَنْ معه ولجأ إلى صنعاء التي استوعبته ضمن مركب الحكم وصار واحداً من أعيان الدولة حتى صعدت به إلى كرسي الرئاسة وهو اليوم يدير صراعاً خاصاً وشخصياً يستهدف رأس الرئيس الذي أمن رأسه وفرضه على الرؤوس قائداً، فوزيراً، فنائباً.... فرئيساً بالتسوية والتزكية!! ليس من الواضح أن هادي يستوعب ممانعة ورفض المؤتمريين أو معظم المؤتمر للقبول برئاسة هادي لحزب صالح وبالطريقة الاستعلائية والاستعدائية التي يصرُّ هادي على فرضها وفرض نفسه عبرها رئيساً للمؤتمر ووراثة صالح في حزبه بعد التخلُّص من الرئيس المؤسِّس واغتياله سياسياً برصاص العزل المساوي للإعدام والموازي في القيمة التقديرية لقرار العزل والإعدام المادي الذي تم تنفيذه في ظهيرة الجمعة الأولى من رجب المحرم, الثاني من يونيو 2011م بجامع دار الرئاسة. والشيء بالشيء يُذكر... ويُذَكِّر ! السير بنجاح: نحو الكارثة! قياساً إلى التعاطي مع المؤتمر والبيت الحزبي الصغير.. يمكن النظر إلى طريقة وإدارة هادي للرئاسة وتعاطيه مع اليمن والبيت الكبير/ الوطن. يسترسل هادي في التعايش مع أخطائه القاتلة وتعويله الاستسلامي على أدوات ومراكز القوى التي أفقرت ومصَّت دماء اليمن واليمنيين طوال عقود متصلة إلى عهد رئاسة صالح, وكانت هي الخطأ المركزي في سياسة وإدارة الرئيس صالح بحيث أمكنها الانقلاب عليه ونخر دولته وتأليب الظروف والمشاعر الناقمة ضده... في حين كانت النقمة جلها تتركز ضد صالح بسبب تقريبه وتأليبه وتقديمه لهذه القوى المتفرعنة. وها هي نفسها وذات المسمَّيات والجُثث والعصابة السرطانية من القوى والمراكز تحيط بهادي الذي مكَّنها من كل شيء وكان أطوع لها ممَّا حلمت هي أو ظنّت يوماً! بتأمُّل ما في الأسطر وما بينها... سيكون من الصعب تحاشي المحصلة التجميعية التي تضع ما يشبه الخلاصة الموجزة: يزيد عبدربه منصور من معدلات السرعة التي تتحرّك بها قاطرة البلد بمحاذاة الحافة المشرفة على هاوية سحيقة في طريق ينتهي إلى هاوية ما لم تحدث معجزة وتنشأ بالتالي, وبطريقة ما لا نعرفها نحن الآن, معطيات مختلفة يمكنها أن تعطي نتيجة مختلفة! لا يتبنى هادي أي مشروع بصدد الدولة والمؤسسات واستخلاص اليمن من بين أنياب السباع ومخالب الثعالب والذئاب. لا يملك رؤية أو فكرة لتوليد رؤية بمقاييس خاصة تواكب امتحان الحاجة المضاعفة إلى الإيفاء بمتطلبات إدارة دولة وقيادة بلد كاليمن, وفي ظرف تأريخي ولحظة فارقة في التأريخ تتفرَّس في وجوه الرجال علّها تظفر ببُغيتها وتلقي الزمام إلى قيادة تأريخية من نفس المستوى وعلى مقاس التحدّي. نجح عبدربه منصور, وفريقه المُنحدر من نفس المدرسة والخلفية الصراعية والثأرية والفئوية حتى, في إعمال الكثير من الهزائم والخيبات والنكسات المريرة وباهظة الكُلفة في خارطة المؤسسة العسكرية. وخلال أشهر، لا غير، كانت أهم وأقوى وحدات وكتائب وألوية الجيش اليمني عُرضة للتّفكيك والتسريح والتمزيق تحت طائلة الهيكلة المُجحفة بحق الجيش اليمني وبحق اليمنيين عامة. وصلت خُطّة هادي ومحمد ناصر، الخاصة بالهيكلة، إلى إفناء وحدات ومكونات عسكرية خاصة تحت ضربات وهجمات مُميتة ومُتَعاقبة تحصد رؤوس المئات من الجنود ومن الضباط في ظرف ساعات قلائل وينتهي كل شيء حيث يبدأ. وكأن وَجَبات الدّم وحصص الذبح الجماعي لقوام الوحدات والألوية العسكرية اليمنية مسألة تخضع لتقدير ومزاج القائد الأعلى ومساعديه؟ فيما ينشغل وزير الدفاع في زيارته المُطوَّلة إلى الصين بمتابعة صفقات الزي الجديد للجيش وتسليح اللجان الشعبية، ومن هناك يطلق تصريحاته العنتريَّة لمراسل صحيفة خليجية بأن الإعلام المُغرِض يتعمَّد "تضخيم" الأحداث رغم بساطتها!! أين.....؟ سيطول النقاش ويتَّسع مداه ومجاله العام... لن يغني شيء عن شيء... ولن يسد نقاش مهما طال مكان السؤال الكبير: أين يريد عبدربه منصور باليمن؟ وأين بالتحديد سيكتفي اليمن, أو أحد ما نيابة عن اليمن, من الصمت ويرفع الصوت في وجه العبث المدمِّر قائلاً: كفى؟! * صحيفة "المنتصف"