قبل عشرين عاما من أيامنا هذه ، كانت اليمن على امتداد شمالها وجنوبها ، تزدهي بمخاضات الإعلان الوشيك للوحدة اليمنية ، وكانت مدائنها وبلداتها تنتشي بدفق حراك سياسي وشعبي وطني قل نظيرة ، بينما ميادينها وساحاتها تضج بكرنفالات الفرح والابتهاج المحتفية ببشارات الإعلان الوحدوي المرتقب الذي ظل هدفا وحلما غنت له جموع اليمنيين ، وظل يشكل المنطلق الذي آمنت تلك الجموع بأنه الضرورة للخلاص من ويلات التردي والبؤس والتسلط والتخلف ، ومن دوامات الصراع والاحتراب والتأزم ، التي استبدت بالبلاد شمالا وجنوبا ، ولم تورثها سوى الانسدادات وحمامات الدم والانهيارات . . نعم ، في مثل هذه الأيام من شهر مايو عام 1990م ، كان كل شي في اليمن يرسم مشاهد ذاك الاندفاع الشعبي الجارف لتجسيد فعل التوحد والتلاحم والاندماج ، وتحطيم أسوار التشطير والفرقة ، وهي مشاهد تجلت في ثناياها أحضان اليمنيين رحبة دفاقه بالحب والمودة والإقبال على التمازج والتآخي والاندماج ، بينما بدت عواطفهم ومشاعرهم الملتهبة ، ماقتة للتشطير وأخاديده وسدوده ، ذلك ان الغالبية الساحقة من أبناء البلاد بمختلف مناطقهم وقطاعاتهم الذين عاشوا التشطير ومتوالية حكامه ، وظلوا لا يجدون سوى مزيدا من السحق والقهر والمحق ، رأوا في تحقيق الوحدة ، فجر زمن جديد تتفتق في رحابة مقتضيات تحول تاريخي يلبي حاجاتهم للاستقرار والنماء والنهوض والرفاه ، لكن ما داهمهم بتوالي السنين ، خيب آمال جموعهم ، وعمق من انكسار أحلامهم ، ذلك ان من أصروا على ( تقاسم ) الوحدة غداة إعلانها ، وتفانوا لضمان ان يكون ( مشروعها ) امتدادا ل ( مشاريع ) هيمنتهم ، حكموا عليها بالاختلال المفضي إلى الانهيار ، فكانت سلسلة الأزمات العاصفة ، وصولا إلى محرقة حرب صيف 1994م وما خلفته من تصدعات وضغائن وجراح ، ظلت هيمنة ( المنتصر ) وسياساته وممارساته تمعن في تعميقها وإلهابها ، وظلت العقلية الاستحواذية الإقصائية تكرس مفاهيم هدامة للوحدة ، تسوغ الاستلاب والتسلط والتمييز والصهر والتذويب ، لعل أبرزها مفهوم ( الفرع ) الذي تم إلحاقه ب ( الأصل ) . ان مشاهد الحشود الجماهيرية التي كانت تتدافع إلى شوارع عدن والضالع وزنجبار والمكلا والحوطة وعتق وردفان والغيضة ، للاحتفاء ببشارات إعلان الوحدة قبل عشرين عاما ، وما يقابلها اليوم من مشاهد لجموع جماهيرية حاشدة ، تضج شوارع المدن الجنوبية بسخطها واحتجاجاتها ودعواتها ل ( فك الارتباط ) ، يختزلان أزمة الوحدة اليمنية بعد عقدين من إعلانها ، ويعبران عن الحاجة الشديدة التي لا تقبل الترحيل ، لمعالجة جذور اختلالاتها ... وللحديث تتمة الأسبوع القادم . . ولله الأمر من قبل ومن بعد ..