أصبحتْ مدينة التربة "تعز" في الآونة الأخيرة قبلة للنازحين القادمين من مدن شتى بعيدة وقريبة ، ويمكن القول أنها أصبحت بتشكيلتها السكانية الجديدة تمثل اليمن من أقصاه إلى أقصاه.. وعلى الرغم من كثافة الجموع القادمة إليها ، إلا أن روحها المسكونة بثورية عبدالرقيب عبدالوهاب ، وإنسانية أحمد النعمان ، وجمال الفضول ، يجعلها تزداد اتّساعا ، وتأبى إلا أن تكون أما رؤوما ، تفرح بالقادمين إليها ، لا كنازحين مشردين ، بل كفلذة كبد عادت بعد سفر طويل طويل .. ومع تنامي أعداد المخيمات يأبى الله إلا أن تكون الرحمة حاضرة ماثلة في كل أزقة هذه المدينة وأسواقها المزدحمة بالناس وشوارعها المكتظة بالوطن .
رامز فتيني أحد القادمين إلى هذه المدينة المنهكة ..
طفل في السابعة من عمره.. منحته تهامة سحنتها السمراء ، ومنحته الحرب لقب نازح وأشياء أخرى ..
يتوكأ على عصى غليضة ، يكاد يرفها بالكاد ، ليرسم بها خطاه المتلكئة .. ويهمس الأرض بقدم عرجاء ، ويوزّع ابتساماته المُرّة على أوجه العابرين ، ويحدّق فيهم كثيرا .. وكأنه يبحث عن وجهه الضائع ، في هذا الزمن الرديء .. الذي سلبه طفولته ، وأوقفه على مأسي الكِبر ، وأوجاع الشيخوخة ، وهو لا يزال غضا طرياً ، من حقِّه أن تحتضنه مدرسة ، وأن يسكب نفسه ألوانا من الفرح البريء ، على كراسة رسمٍ طالما حلم بها ، بعيدا عن هذا الواقع الذابح ، الذي تفنن في صناعة المآسي وتوليدها ، حتى صارت سجلا مأساويا صادقا للتعداد السكاني في هذا البلد المقهور .
قدم مع أسرته من مدينة الحديدة فرارا من مغول العصر الحوثيين في أسرة تتكون من أم ثكلى وبنت مقهورة.. وهذا الرامز الطاعن في الحزن ..
قتل أبوه أمام عينيه .. لأنه رفض أن يكون أداة للقتل ، ولأنه خادم أسود .. رفض أوامر أصحاب الدماء الزرقاء في أن يصبح آلة فتك في أيديهم.. يصرّفونها كيفما يشاؤون ، بعد أن يسلبوا منها فطرتها وبراءتها ، وانتمائها الإنسانيّ.. مقابل فتاة من المال النجس ، وعرض زائل مما يتفضَّلون به تكرّما على أتباعهم المتوحّشين.
رامز الآن هو العائل الوحيد لهذه الأسرة القادمة من مدينة البحر .. إلى هذه المدينة المثخنة بالوجع .. يثقل روحه الشعور باليُتم ، ويثقل جسده الناحل جرح غائر يفترس إحدى إليتيه .. أصيب به في ذات اليوم الذي انفجر فيه رأس والده أمام عينه برصاصة .. فتحتْ أمامه مشوارا جديدا للتشرّد والضياع ..
يقسّم رامز يومه بين التطواف في أزقة المدينة ومتجمعاتها ، علّه يعود إلى أسرته بما يقيم الأودَ ، ويسدُّ الرمق ، وبين القدوم إلى بوابة المستشفى ، منتظرا أحد موظفيها الفضلاء يأخذه معه إلى الداخل لتنظيف جرحٍ .. أصبح رفيقا مملا له في كل حركاته وسكناته .. لكنه لا يلعب.. ليس لأنه أعرج .. بل لأنه رجل .. أو هكذا يزعم هذا الطفل الشائب.
يقف في صباح كل يوم أمام بوابة مستشفى خليفة .. يحدّق في الأوجه العابسة .. يستمطر الرحمات لقلبه الصغير ، ويمد يدا مرتعشة أمامهم .. يبسط فيها كل ألوان المذلّة ، على وقع انهيارات الآدمية يجتاح كيانه الصغير الملفوف بأسمال بالية ، رسَمت فيها بقعُ الدم خارطة وطن مذبحوح .. من الوريد إلى الوريد..
مستشفى كبير .. كبير .. لكن رامز يراه أحيانا أصغر من حبّة خردل .. حين لا يُسمح له بالدخول لإسكات جرحه المزعج.. لكنه لا يغضب البتة.. فالمأساة حفرت من الأخاديد المهولة الموحشة في تلافيف روحه.. ما يكفي معها لاستصغار كل طارئ مزعج ، فيمضي على أمل غد يكون أكثر حظا ، وتكون شمسه غير شمس اليوم.
استمعت لقصته منه.. وأنا أتأمل في قسمات وجهه الخائف ، وبقع الدم التي تلون أسماله.. كان يعيشها.. لا يرويها.. ولأنَّ حديثه صادقا فقد بسط مأساته بألفاظ عفوية بدت وكأنه لبست فنون البلاغة ، وامتلكت ناصية الأسلوب ، وأصبحت نوعا من الفن المعجز..
لقد أنطقته المأساااااة.
وحين فرغ منها .. مدّ يده المرتعشة نحوي .. بعد أن تأكّد أن تلك المأساة التي يرويها في اليوم عشرات المرات لمن يتكفّفهم قد وصلت بتلاوينها الموحشة وخطوطها الموجعة إلى أقاصي الشعور .. حيث تختبئ الرحمة الإنسانية .
سألته عن أشياء كثيرة .. وأدركتُ كيف تتشكل المأساةُ وعيا كبيرا كبيرا .. يحمله هذا القلب الصغير..
كان يجيب عن بعضها.. ويتحاشى البعض الآخر.. ربّما لفضاعتها.. لكنه كان يسترسل عند الحديث عن أبيه المغدور ، ويتحدّث عنه بلسان مفجوع موتور ، وبين الفينة والآخرى يلتفت نحوي مؤكدا بثقة مطلقة بأنا أباه الآن في ظلال الجنة يسرح ويمرح ويأكل مما أعده الله للشهداء.. وكأنه يجد في ذلك عزاء لبطنه الخاوية ، وتشرُّده المرهق..
أحببت أن أعرف عنه المزيد .. لكنه نهض فجأة .. وحدّق داخل سور المستشفى فرحا.. وكأنه وجد ضالةً كان يبحث عنها.. ثم تركني ومضى وهو يقول : شابوك إند الراجل الطيب أشان يوطِّي لي أمْ لفافة ...
وانطلق رامز .. مستبشرا .. فلقد فتحت لها هذه المستشفى بابها اليوم ، لعلاج جرح غائر في جسده ..
فمن لذلك الجرح الغائر في أقاصي الروح؟؟ المصدر| الصحوة نت