في وطن يقايضك على صوتِك ليبقي لك أنفاسك المتقطّعة؛ يصبح الموتُ ملاذا أخيرا، ومنفى رحيما، يحفظ لك ماء وجهك، واحترامك لذاتك كمبدع ومثقف تعتّقت المبادئ في تكوينك حتى صرتَ كأنك هي أو كأنها إياك، أو كأنكما أنتما المتوحِّدة روحا وجسدا. في حياة الأستاذ أحمد قاسم دماج – وفي موته أيضا- ما يؤكد مثل هذه الفرضية أو على الأقل يعزّز من طرحها، خاصة وأنَّ مفاهيم الحياة وكذا مفاهيم الموت تتشكل في رؤية المثقف وفق ثنائية الحضور والغياب، والإبداع والعدمية، ومن ثم فإن الحياة الحقيقية في أعمار المثقف الصادق هي تلك اللحظات المشرقة التي تماهى فيها الموقف مع المبدأ.. وما سواها فيباس وهشيم. مات الأستاذ أحمد قاسم دمّاج.. فطويتْ بموته صفحة من صفحات اليمن الحديث، اجتمع فيها الثقافي بالثوري بالسياسي بالإنساني، حتى كأن المتأمل في مسيرته يقف على سمفونية تتجاور فيها أنساق موسيقية مختلفة لتنسج بالمجمل نموذجا فريد من الحياة لا يصنعها غير المثقفين، والحقيقيين منهم على وجه التحديد. ومنذ يفاعة سنه انفتح وعيه السياسي على موجات الاستقطاب الحاد في يمن ما قبل الجمهورية، حيث كانت الاتجاهات الأيدلوجية تتسابق فيما بينها لتأطير الشباب، فكان أن انضم إلى حركة القوميين العرب، ثم تنقل في أطواره السياسية في عدد من الفضاءات السياسية، وهو في كل ذلك يعد الأيدلوجيا وسيلة لا غاية، ومن هنا فقد وقف مع سبتمبر الثورة مدافعا ومنافحا: بقلمه وبسلاحه، حتى تأتى لها أن تقف على قدم راسخة، تتأرجح بين الحين والآخر بفعل المعاميل السياسية المختلفة، وكان له في كل ذلك مواقف ثابتة، ينتصر فيها لمفهوم الثورة، ويعزز تواجدها، ويقف في وجه كل الانحرافات التي كانت تشوبها بين الحين والآخر، فخاصم في سبيل ذلك، وصادق، وقاطع وواصل. ثم كان له إسهاماته في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، حيث تولى رئاسته خلفا للمرحوم الشاعر عبدالله البردوني ثلاث دورات متتابعة، كان فيها أبا للجميع، مؤمنا بأهمية التعايش والتآلف الفكري بين مختلف الاتجاهات الأدبية والفكرية والسياسية، مشددا على احترام الآخر، وحقه في التعبير عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة مالم تكن صامة للمسار الذي يحكمه الذوق العام. كان دمّاج سادنا مخلصا للثورة حتى وهو يمارس دوره كأديب، فليس ثمة حد بين الأدب والسياسة في التجارب الناضجة، وبموجب ذلك كان يسعى في بث جماليات الثورة وعنفوانها في نفوس طلابه ومريديه، ينظر إلى الجميع بعين واحدة، مؤكدا غير مرة على أنَّ تماسك المجتمع إنما ينبع من روح الثورة التي تجمع ولا تفرق، وتجعل الناس مواطنين على السوية، لا وجود بينهم لسيد ولا مسود، فالكل سواء أمام النظام والقانون، سواء في الحقوق والواجبات. وكان كغيره من الأدباء يرى بعينه الناقدة ما يعتور الطريق من انتكاسات وانحرافات؛ لكنه وهو المتشرب لقيم الثورة والمجايل لأعلامها الأفذاذ كالزبيري والنعمان وغيرهم، ماكان يتوقّع أن يرى بأم عينه صفحة الجمهورية تطوى في تراجيدية صادمة ذابحة، ولم يكن يتوقع للأمس أن ينبجس من أمسه الرجعي، وأن يعود الظلم في طبعة ثانية تتدارك كل ما أُهمل ونسيَ في الطبعة الأولى من أشكال الامتهان وضروب الإذلال. لقد صدم بالواقع الجديد كما صُدم غيره، فاختبأ خلف أوجاعه مكابرا ومصابرا على مدى عامين ذابحين، وكان له أن يشاهد قبل رحيله قصيدته (إلى آخر القتلة) تتجاوز نبوءة الشاعر إلى رسم القادم الذابح بكل تفاصيله الشنعاء.. لقد مُني قبل موته بانطفاء شعلة الثورة في صنعاء عاصمة الثورة، وتحويلها إلى غسق مفزع، تهوي إلى الأعماق مثخنة بجراح الغدر، وبجراح الظلم، وبجراح التخاذل. ولا شك أنه قبل أن يغمض عينيه الإغماضة الأخيرة راح يستذكر قصيدته تلك ويتمتم في صوت حزين: الليل يهبط كل ثانية, زمانٌ من رحيل في العذاب. الصمت سجن ناهض الأسوار ملتف على وجه المدينه.. والرعب يقتحم الشوارع وهي تبكي بالغبار. وعلى النفوس, على انهيار الكون في الغسق الذي لا ينتمي وجْلاء تضطرب النفوس هذا ارتداد مفزع لليل يا قلب المغني لذْ بالشجا فشناعة الطوفان تجتاح الجميع والحزن يهبط أخرسا ردد تراتيلَ انغماسِك في الأسى. وزفير روح مدينة تهوي إلى الأعماق مثخنةً, وناس في القرارة يرزحون الجوع جلاد يعلِّقهم على سقف السكينة والسواد خذ من نياط القلب أوتادا مدينتنا معبأة بذعر لا يحد والخلق مقسوم إلى قسمين: جلادون يلتهمون في شرهٍ ثمار الجنتين ومكبلون بفاقة تفضي لمسغبة نعاج في فلاة من ذئاب. غَنِّ لعلك تبعث الموتى لعل الأفق يشرب فيض هذا الليل أو ينخطُّ نبع من شفق أنا مثخن يا صاحبي أنا.في انهيار الكون خيطٌ من أرق وأنا وأنت وهُمْ على الجنبات أسمال مزق. أقسى من الليل الذي ولَّى هو الليل الذي يأتي وأرحم من تضورنا الغرق الأرض سيّجها الأنين ونحن نسغ في الشفق هلا أحلت وجيب هذا القلب ألحانا وحشرجة النفوس قصائدا لا تستقر وهل؟ هلا ابتكرت لنا ابتداءً لا يغال ولا يفاجئه الغسق؟