كثر الحديث الرسمي هذه الأيام عن العَلَم، وكثر في ذات السياق الإنفاق عليه إلى درجة الهوس والمبالغة التي لا طائل من ورائها وموضوع الراية والعلم واللواء، موضوع قديم ارتبط مع الإنسان منذ عصوره الأولى، وكان له حضوره المميز في بداية التكوين للدولة الإسلامية الأولى وفي بعض الروايات أن الأنصار كرهوا أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينةالمنورة دون أن تكون له راية مرفوعة وقد أفرد أحدهم عمامته ورفعها أمام الرسول حين دخوله، والثابت تاريخيا أن الراية كانت تستخدم في ميادين الحرب وللفرق والأفواج العسكرية ثم تطورت إلى أن أصبحت علامة دالة على الدولة في عصرنا الحاضر. وللعلم أو الراية مفهوم ثقافي ظل أصيلا في الوجدان الجمعي والثقافي الإنساني إذ يدل بقاؤه مرفوعا على الوجود والفاعلية والكرامة والانتصار وانتكاسته على الهزيمة والانكسار وفي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله من غير إمرة، ففتح الله عليه..)، تدل على الإمرة والسيادة، ويعزز هذا المفهوم قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري ورواية سهل بن سعد رضي الله عنه حين قال: (لأعطين الراية رجلا يفتح الله عليه). والراية والعَلَم بمعنى واحد ويقال أن اللواء غير الراية فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه- أي في طرف الرمح- ويترك حتى تصفقه الرياح، وقيل اللواء دون الراية، وقيل اللواء العلم الضخم، والعلم علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار والراية يتولاها صاحب الحرب. ولم تخل أمة من الأمم كان لها وجود تأريخي من راية كانت تميزها وتدل عليها وتستقطب مشاعر الناس نحوها وقد تحدث ابن خلدون وبعض المؤرخين عن رايات الدول الإسلامية والفرق في المسار التاريخي الإسلامي، وظل أفق المفهوم يتسع باتساع التطور والتمدن الاجتماعي.
وفي واقعنا الحديث أصبح العَلَم/ الراية، رمزا دالا على محددة جغرافية لها مقومات الدولة من أرض وبشر وسلطة دون أن تدل تلك الراية على وحدة ثقافية أو تجانس ثقافي فقد يجتمع تحت ظلالها متباينات ثقافية وديانات مختلفة، وسلالات عرقية شتى كما هو في الهند أو في العديد من البلدان وانزاح مفهوم هذه الرايات إلى قيم أكثر ميلا إلى التمدن فلم يعد الالتفاف حول الراية أو العلم بسبب عصبية عرقية أو ثقافية، أو روحية، بل أصبح الالتفاف حولها قياسا إلى ما تمثله من روح «خيرة منتصرة» للإنسان وكرامته وحريته ومنتصرة لقيم الحق والعدل والفضاء الإنساني الرحب بكل أفقه الثقافي المتعدد وألوان طيفه. ومع هذا الاتساع الأفقي والرأسي في أبعاد المفهوم يصبح القيام بإعادة إنتاج المفهوم القديم والذي يتمثل في الالتفاف والذود عبثا لا يخاطب روح الإنسان ولا وجدانه لقد أصبح الإنسان في زمننا يبحث عن كرامته ويبحث عن إنسانيته لذلك وجدناه في المظاهرات الاحتجاجية التي أقامها في المحافظات الجنوبية يرفع رايات متعددة منها راية الدولة الجنوبية السابقة ومنها راية السلطات القديمة ومنها راية أمريكا وبريطانيا، وهو حين يفعل ذلك ينتصر للإنسان المهزوم في داخله من واقع «طاغ» ومستبد وظالم ولا يمكننا تفسير ذلك الفعل بأنه حنين إلى الماضي ولكنه حنين إلى قيم الكرامة والعدل التي مثلها ذلك الماضي، كما أنه لا يمكننا القول أن آصرة الانتماء الوطني تضعضعت في نفوس الناس، بل بعكس ذلك لقد زاد الانتماء، وذلك الارتداد ما هو إلا بحث جاد في تجاعيد الزمن التاريخي عن أفق المستقبل وأشواق الحاضر وأمانيه. إذن القضية أو الإشكالية التي يعاني منها الوطن ليست كما نتصور من أنها قضية تشظي وانسلاخ وتماه في الانتماء والهوية ولكنها قضية ظلم واستبداد ونهب لثروات الوطن وتبديد لمقدراته وفراغ فكري واجتماعي وسياسي وروحي، وفساد وضياع حقوق، واختلال قيم وغياب للمشروع الوحدوي الناهض وغياب الحامل السياسي لدولة الوحدة- حسب تعبير الدكتور ياسين سعيد نعمان ولا تظن مطلقا أن الحملة التي تقوم بها اللجنة الوطنية للتوعية بشأن العلم ستحل مثل تلك القضايا بل قد دلت الشواهد أنها عمقت الإشكالية بسبب الممارسات الخاطئة واللا أخلاقية التي تقوم بها الجهات المعنية في ظل عوامل الاحتقان الجماهيري الذي يصاحب الإجراءات السعرية وتدهور العملة الوطنية أمام الدولار وما ينتج عن ذلك من ظلال تمس كرامة الإنسان وأسباب عيشه وبقائه حرا كريما. إذن مشكلة الإنسان في مظاهر الظلم والفساد ونهب الثروات وتبديد المال العام وإهدار مقدرات الوطن وغياب جوهر الإنسان من جل الإجراءات والسياسات والغايات الإجرائية والأخلاقية مشكلة الإنسان اليمني في الفراغ الروحي والفكري وغياب المشروع الحضاري الوحدوي الذي ينتصر لقيم النماء والخير والعدل ولا تظن أن الولاء الوطني والهوية الوطنية والعلم وموضوع الالتفاف عليه قضية قابلة للجدل أو الحوار لأنها قضايا فطرية وهي في عمق النسيج الثقافي للإنسان اليمني والعربي على وجه العموم. لا نحتاج أكثر من الوعي بمقتضيات الحال وتطلعات الإنسان وأماله واشتراطات المستقبل في واقعنا اليمني أما الأموال الباهظة التي أنفقت على العلم فلا تظن أنها ستعمق الولاء الوطني.. دعونا نبحث عن الأشياء الجميلة، والأفكار الأجمل حتى نبني هذا الوطن بعيدا عن المزايدات وإدارته عن طريق صناعة الأزمات وإهدار المقدرات.