كان اليوم السابع من شهر شوال من العام الثالث الهجري يوما تاريخيا بامتياز ؛ ذلك أن قريشا كانت تحشد سرا لمعركة حاسمة تخوضها ضد المسلمين، انتقاما من هزيمتها المرة في غزوة بدر ، ولعلها تعيد لسمعتها الاعتبار بين العرب. و لما رأت أن استعداداتها أوشكت على التمام بدأت تتحرك علنا لحشد الطاقات الإعلامية لاستقطاب مزيد من الحلفاء إضافة إلى من انضم إليها من قبائل تهامة الحجاز و الأحابيش، و هو الأمر الذي سخرت له الشعراء؛ تستنهض بهم الهمم و تؤلب القبائل، و تثير حماس الموتورين بمكة ممن فقدوا أقاربهم يوم هزيمتهم في بدر . لم تدخر قريش شيئًا يمكن توظيفه للمعركة إلا بذلته و استعانت به، حتى أنها لم تتردد في الدفع بالنساء للمشاركة فى الخروج مع مشركي مكة قاصدين المدينةالمنورة ؛ و لتكن النساء عاملا من عوامل استبسالهم حتى لا تتكرر عليهم هزيمة بدر، و أمر آخر من أجل أن يكُنّ خلف الصفوف للتحريض ؛ و لتحميس صف المشركين و إثارة نخوتهم. سبق ذلك أن زعماء قريش بمكةالمكرمة تواطؤوا على إقناع قريش - رضا أو ضغوطا - بأن تجعل كل المال الذي كانت تحمله القافلة و نجا به أبو سفيان و لم يقع بيد المسلمين ؛ أن يخصص كلية لمعركتهم التي يعدون لها ضد المسلمين، و بهذا مشى زعماء مكة إلى كل من له مساهمة تجارية في تلك القافلة مهما كانت مساهمته كبيرة أو صغيرة أن يرفد به المجهود الحربي لقريش. و حين أعلنت قريش ساعة صفرها للتحرك نحو المدينةالمنورة، هنالك بعث العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة للنبي عليه السلام يخبره بقرار قريش. و وجدت المدينةالمنورة، بل وجد المسلمون أنفسهم أمام حرب فرضت عليهم، و في مثل هذه الحال لدى أي بلد أو جهة أو فئة حية إلا أن تتخذ أحد موقفين : التصدي و مقاومة من فرض عليهم الحرب - و هو ما يقفه الأحرار و الشرفاء في كل حين و مكان - أو الاستسلام، و ليس ثمة من خيار أو بديل آخر . فهي حرب فرضت فرضا و لم يَسْعَ إليها أحد، و التباكي من كلفة الحرب و خسائرها المادية و البشرية لا محل لها مع من يجد نفسها مضطرا للدفاع عن مقدراته و مكتسباته و هويته، و لا محل كذلك للمتباكين على السلام، يوم أن يقف المتباكون يذرفون حروف التباكي على السلام و يسوّون بين الضحية و الجلاد متناسين أن هنالك حربا مفروضة لا تقيم لأي اعتبارات أدنى وزن ؛ لأنها إنما تريد فرض هيمنتها و جبروتها و إرادتها على الآخرين بقوة السلاح. و لما لم يجد النبي الكريم و المسلمون معه غير التصدي و مقاومة من يشن عليهم الحرب فقد أعلنوا قرار المواجهة، و هو القرار الذي كشف موقف المتخاذلين و المنافقين ؛ حتى قال قائل المتباكين يومها - عبدالله بن أبي - ( لا ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا )! و المتخاذلون و المتباكون يكررون هذا الموقف في كل زمان و مكان ، و يتسترون تارة بأنين البكاء على السلام، و تارة بإظهار الحسرة على كلفة الحرب. بل راح - هذا - و من معه من المتباكين و المتخاذلين يرجفون و يبلبلون : ( الذين قالوا لإخوانهم و قعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) 168 آل عمران. يبقى المتخاذلون و المتباكون - دوما - بؤرة إرجاف و بلبلة، فيذهبون إلى تغطية عجزهم و جبنهم عن المشاركة في اتخاذ القرار الذي لا بديل عنه و هو مواجهة المعتدين بالتباكي عن السلام، و هم هنا يدعون للانبطاح و الاستسلام. إن المواقف لا يقررها المبلبلون، و التاريخ لا يصنعه المرجفون و المترددون ؛ و إنما تصنعه - بعد فضل الله - إرادات و عزمات ترفض الذل و الخنوع، و تستبدل التردد بالإقدام، و التشرذم بالاصطفاف والتوكل على الله( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) 174،173 آل عمران.